بيان معنى النَّعيم ومعنى التَّنعُّم
شُرب الماء البارد ليس صفة خسيسة
مَن ذمَّ شُرب الماء البارد مُطلقًا خالف المعلوم مِن الدِّين بالضَّرورة
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة لا فرق عندهُم بين (النَّعيم) وبين (التَّنعُّم) أمَّا عند الفُقهاء والعُلماء فبينهُما فرق أدَّى إلى القول بأنَّ (التَّنعُّم) مكروه يُذمُّ شرعًا والأحسن تركه، أمَّا النَّعيم فليس مكروهًا وذلك كشُرب الماء البارد وكوضع الملح في الطَّعام فإنَّ المُسلمين عالِمَهُم وجاهلَهُم يعرفون أنَّ ذلك ليس مكروهًا ولا مذمومًا شرعًا فإنْ كان نعيمًا فإنَّه ليس تنعُّمًا.
2
فأمَّا النَّعيم فهُو الخفض والدَّعة والمال وما يُستمتع به في الحياة بما لا يُخشى معه على المُسلم أثر الفخر والتَّكبُّر وتعلُّق القلب بالدُّنيا وهُو مثل النُّعمَى والنِّعمة وضدُّ البأساء، وأمَّا (التَّنعُّم) فهُو التَّرَفُّهُ وطلب تكلُّف التَّوسع في رغَد الخِصب ولين العيش وهُو ضدُّ الاخشيشان الَّذي ثبت أنَّ عُمر رضي الله عنه حثَّ عليه فقال: <اخْشَوْشِنُوا وتَمَعْدَدُوا> إلخ..
3
فلمَّا كان التَّنعُّم هُو الاسترسال في الملذَّات والشَّهوات مع تعلُّق قلب الشَّخص بهذه الأشياء كان هذا واقعًا فيما هُو مذموم شرعًا؛ فمَن كان قلبُه مُنشغلًا بالكُليَّة أو بمُعظمه بزخارف الحياة الدُّنيَا وأنواع الطَّعام والشَّراب وتعلُّق القلب بالنِّساء وجمع الأموال فهذا بعيد عن الخير مُتَّصف بصفة مُنحطِّي الهمَّة وضعيفي النُّفوس حتَّى عند كثير مِن غير المُسلمين.
4
ومِن القواعد المُتَّفق عليها بين المُسلمين أنَّ الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامُه- يستحيل اتِّصافُهُم بصفات سُقوط الهمَّة والدَّناءة والخساسة؛ فمَن نسب الاستغراق في التَّنعُّم إلى الأنبياء وهُو يفهم هذا المعنى يكون نسب إليهم ما أجمع فريقَا أهل السُّنَّة والجماعة على امتناعه عليهم فيكون بذلك مُكذِّبًا للدِّين وقادحًا في نُبُوَّات الأنبياء عليهم السَّلام.
5
ولذلك ورد النَّهي عن التَّنعُّم لا عن النَّعيم؛ فقد جاء في مُسند أحمد أنَّ نبيَّنا الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا أرسل مُعاذ بن جبل قال له: <إيَّاك والتَّنعُّم فإنَّ عبادَ الله ليسوا بالمُتنعِّمين> انتهى وذلك لأنَّ ترك التَّنعُّم أنفى للكِبْر وأبعد مِن العُجْب والزَّهْو والخُيَلاء والصَّلَف وهي أُمور ذمَّها الشَّرع، وورد: <كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَهُ> أي كيف أتنعَّم.
6
وقال المُناوي في [فيض القدير] -أنقُلُه مُختصرًا-: <(البذاذةُ) التقحُّلُ رثاثةُ الهيئةِ وتركُ التَّرفُّهِ وإدامةِ التَّزيُّنِ والتَّنعُّمِ في البدنِ والملبسِ إيثارًا للخمول بين النَّاس (من الإيمانِ) أي مِن أخلاقِ أهلِ الإيمانِ إنْ قَصدَ بهِ تواضُعًا وزُهدًا وكفًّا للنَّفسِ عن الفخرِ والتَّكبُّرِ> إلخ.. فالتَّنعُّم مكروه وتركُه مندوب ولا يدخُل فيه شُرب الماء البارد ولا وضع الملح في الطَّعام.
7
إذًا؛ فتوى الشَّيخ عبدالله رحمه الله مُوافقة لِمَا جاء في الحديث الشَّريف لأنَّ فيها بيان أنَّ شُرب الماء البارد لا يُذمُّ شرعًا ولأنَّ فيها أنَّه ليس مِن التَّنعُّم المذموم وهذا حُكم شرعيٌّ معلوم مِن الدِّين بالضَّرورة يشترك في معرفته العالِم والجاهل مِن المُسلمين فلا يخفى عليهم، هذا نصُّ الشَّرع؛ فمَن كذَّب الشَّرعَ في هذه المسألة وغيرها فقد أهلك نفسه والعياذ بالله.
8
وقد توهَّم بعضُهُم أنَّه لا فرق بين النَّعيم والتَّنعُّم غافلًا أنَّ (التَّفعُّل) صيغة زيادة في المبنى تزيد في المعنى ففي التَّنعُّم زيادة عمَّا في مُجرَّد النَّعيم؛ مِنها: التَّكلُّف والطَّلب وحصول الفعل مرَّة بعد مرَّة ولذلك نهى النَّبيُّ عن التَّنعُّم لا عن النَّعيم. قال سيبويه: <وإذا أراد الرَّجُل أنْ يُدخل نفسه في أمر حتَّى يُضاف إليه ويكون مِن أهله فإنَّك تقول: تَفَعَّل> إلخ..
9
وقال التفتازانيُّ في [شرح تصريف العزِّي] -أنقله مُختصَرًا-: <تفعَّل: تكسَّر تكسُّرًا وهُو لمُطاوعة فعَّل.. وللتكلُّف: نحو تحلَّم أي تكلَّف الحلم.. ولاتِّخاذ الفاعلِ المفعولَ أصلَ الفعل: نحو توسَّدته أي اتَّخذتُه وسادة.. وللدِّلالة على حصول أصل الفعل مرَّة بعد مرَّة: نحو تجرَّعه أي شربه جُرعة بعد جُرعة.. وللطَّلب: نحو تكبَّر أي طلب أنْ يكون كبيرًا> انتهى.
10
وخُلاصة المبحث أنَّ أهل الفتنة قوم جَهَلَة على التَّحقيق وهُم كما ترون لا يُميِّزون بين كلمة وأُخرى ولا يفهمون وجه إنكار ادِّعاء أنَّ شُرب الماء البارد مذموم شرعًا! فليس لهُم في ميدان العلم قليل ولا كثير وهُم ضيف ثقيل الظِّلِّ على كُلِّ مُباحثة علميَّة صادقة وإنَّما نرُدُّ عليهم صيانةً للبُسطاء مِن النَّاس كي لا تغُرَّهُم شُبُهات وتُرَّهات أهل الفتنة المُتفحِّشِين.
11
واعلم أخي أنَّ أغبياء الفتنة وخُبثاءها فهموا المسألة على غير وجهها فافتروا علينا بالباطل فزعم بعضُهُم أنَّنا نُكفِّر مَن قال إنَّ النَّبيَّ شرب الماء البارد! وهذا كذب محض فإنَّنا نقول إنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام شرب الماء البارد، وزعم بعضُهُم أنَّنا نحكُم بكُفر مَن قال إنَّ النَّبيَّ ترك الأَولى! وهذا كذب وافتراء وبُهتان عظيم كذلك فنحن لا نقول ذلك البتَّة.
12
وإنَّما نقول: إنَّ مَن زعم أنَّ شُرب الماء البارد مكروه مذموم في الشَّرع مُطلقًا وفاعله خسيس مُنحطُّ الهمَّة! فهذا ضلَّ سواء السَّبيل لأنَّه كذَّب الشَّرع والعياذ بالله تعالى إذ كون ذلك مُباحًا أمر معلوم مِن الدِّين بالضَّرورة فيشترك في معرفته العالِم والجاهل. أمَّا مَن قال إنَّ شُرب الماء البارد تنعُّم مُتوهِّمًا أنَّ التَّنعُّم مُجرَّد النِّعمة والرِّزق فهذا لا نُضلِّلُه بل نُعلِّمُه.
13
أمَّا المُتفحِّشون المُتكبِّرون مِن أهل الفتنة وقد كذَّبوا وافترَوا علينا بالباطل وجاءوا بالبُهتان العظيم؛ فإنَّما يملأون صحائف أعمالهم بتبعات جرائمهم وجناياتهم وما أكثرها عندهُم والعياذ بالله تعالى، فأحوال أهل الفتنة الفاسدة تُذكِّرُنا بما ورد في الأَثَر الشَّريف ممَّا نصُّه: <إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأُولى: إذَا لم تستحِ فَاصْنَعْ ما شئتَ> انتهى.
انتهى.
Jan 17, 2021, 8:21 AM
