الحقيقة والمجاز في النُّصوص الشَّرعيَّة
متَى يُحمَل ظاهر الكلام على الحقيقة ومتَى يُحمَل على المجاز؟
فائدة في بيان أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها: معصية حقيقيَّة
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فاعلم أخي أيَّدك الله بتوفيقه أنَّ الكلام المُستعمل في اللُّغة العربيَّة إمَّا يكون المُراد منه في الحقيقة المعنَى القريب الظَّاهر له وهُو الغالب؛ أو يكون المُراد الحقيقيُّ منه معنًى بعيدًا غير ظاهر ويُسمَّى مجازًا.
2
والنُّصوص الشَّرعيَّة يُحمل المُراد الحقيقيُّ منها على ظاهرها أي على المعنى القريب الَّذي يتبادر إلى الذِّهن أوَّلاً، ولا يجوز حمل المُراد الحقيقيِّ منها على المعنى البعيد لها إلَّا بقرينة أي بدليل يدُلُّ على ذلك.
3
وقد اتَّفق الأُصوليُّون من عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة على أنَّ القُرآن الكريم والحديث الثَّابت عن الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُترك ظاهرُه إلَّا لدليل سمعيٍّ ثابت أو عقليٍّ قاطع وقالوا: لا يجوز تأويل النَّصِّ لغير ذلك.
4
فإذَا أوَّل أحد نصًّا شرعيًّا مِن آية أو حديث ثابت بدون قرينة دالَّة أي بدون دليل شرعيٍّ فهذَا يُسمَّى عَبَث -أي لَعِب- تُصان عنه النُّصوص الشَّرعيَّة -أي تُحفظ عن ذلك- ذكره الإمام الرَّازيُّ في [المحصول] وغيرُه.
5
وقد اتَّفق عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة على عصمة الأنبياء عن الكُفر والكبائر والصَّغائر ذات الخسَّة، واختلفوا في عصمة الأنبياء عمَّا سوى ذلك أي عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة وهي ذُنوب غير مُنفِّرة.
6
ولذلك اختلف عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة المُتقدِّمون والمُتأخِّرون عند تفسير الآيات والأحاديث الَّتي جاء فيها إضافة الذُّنوب إلى ساداتنا الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه، وانقسموا في تفسيرها وشرحها إلى فريقَين اثنَين.
7
فأمَّا الفريق الأوَّل -وهُم أكثر المُجتهدين والعُلماء مِن المُتقدِّمين- فحملوا ظاهر النُّصوص مِن الآيات والأحاديث على أنَّها هي المعنَى المُراد حقيقةً مِن لفظ الذَّنب والمعصية والإثم والوزر والخطيئة ونحو ذلك.
8
ولأنَّهُم لا يقولون بعصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها؛ انعدم عندهُم دليل تأويل هذه النُّصوص عن ظواهرها إلى معانٍ أُخرى بعيدة فصارت عندهُم هذه الظَّواهر حقيقيَّةً فقالوا: ذنب صغير لا خسَّة فيه.
9
وأمَّا الفريق الثَّاني -وهُم الأقلُّ مِن المُجتهدين والأكثر في المُتأخرين- فقد تأوَّلوا هذه النُّصوص وقالوا إنَّ المعنى المُراد في الحقيقة ليس هُو الظَّاهر مِنَ النَّصِّ وإنَّما هُو معنًى آخَرُ تحتمله ألفاظ النَّصِّ وإنْ كان بعيدًا.
10
وهؤُلاء كانتِ الضَّرورة الشَّرعيَّة عندهُم في إخراج النَّصِّ عن ظاهره: اعتقادَهُم عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها؛ فهُم لم يتأوَّلوا عَبَثًا؛ وقولُهُم مُعتبَر كما أنَّ قول الجُمهور -الفريق الأوَّل- مُعتبَر.
11
وللتَّقريب فإنَّ كلمة ذنب معناها القريب المُتبادر إلى الذِّهن هُو الذَّنب الحقيقيُّ أي ذنب في حقيقة الشَّرع؛ ولكن إنْ دلَّ دليل فقد تُحمل على (ترك الأَولى) مِن باب التَّشبيه المجازيِّ رغم كونه معنًى بعيدًا.
12
وشيخُنا الهرريُّ باستعماله لفظ (الذَّنب الحقيقيِّ) في بيان مذهب الجُمهور وافق عُلماءَ أهل السُّنَّة والجماعة لأنَّ الذَّنب الحقيقيَّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه هُو ظاهر النَّصِّ؛ والجُمهور على جوازه فامتنع عندهُم التَّأويل.
13
فلا سبيل إلى إنكار كون الصَّغائر ذُنوبًا حقيقيَّة في الإطلاق الشَّرعيِّ، وإنكار ذلك مُكابرة لا تصدُر إلَّا مِن جاهل مُتصولح شأنُه التَّظنِّي والتَّجرُّؤ على الفتوى بغير عِلم إذ لا يعرف مِن قواعد الشَّرع واللُّغة شيئًا.
14
ووصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بـ(الحقيقيِّ) القصد منه بيان مذهب الجُمهور وأنَّهُم ما قصدوا بإطلاقه معنى بعيدًا لكلمة الذَّنب كما فعل غيرُهُم مِن العُلماء في مسألة العصمة عن الصَّغائر غير المُنفِّرة.
15
ولكنَّ الجَهَلَة المُتصولحة تجرَّأوا على تحريم بيان مذهب جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة العصمة لِمَا في نُفوسهم مِن أغراض خبيثة ومقاصد في الفتنة الَّتي كانت نائمة فلعنة الله على مَن أيقظها.
16
ووصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بـ(الحقيقيِّ) ليس بدعة لأنَّ العُلماء بيَّنوا أنَّ الأصل في الإطلاق أنْ يُحمل على الحقيقة لا على المجاز إلَّا لضرورة كما صرَّح عُلماؤُنا وسأذكُر بعض أقوالهم في آخر المقال.
17
ولكنَّ أهل الفتنة قاسوا وصف الذَّنب الَّذي لا خسَّة فيه بالحقيقيِّ على ما لو أطلق الجَهَلَة المُتصولحة على ربِّ العالمين اسمًا لم يُسَمِّ به نفسَه ولا أجمعتِ الأُمَّة على تسميته به؛ وقياسُهُم هذا لم يأتِ به الشَّرع.
18
فائدة: قال جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ما معناه: إنَّ الأنبياء لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة؛ كي تقوَى شفاعتُهُم يومَ القيامة لأهل الذُّنوب مِن المُسلمين والَّذين ماتوا بدون توبة.
19
قال التَّاج السُّبكيُّ في [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]: <قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ على المُبتلَى)> انتهى.
20
وقد علمتُم أنَّه إنَّما أراد الشَّفاعة الَّتي تكون لمَن احتاج أنْ تَرِقَّ عليه قُلوب الشَّافعين لاقترافه الذُّنوب الحقيقيَّة ثُمَّ الموت دون توبة صحيحة ولم يُغفَر له؛ وهذه لا تكون لمَن كان تقصيره في ترك الأَولى حصرًا.
21
وجَهَرَ التَّاج السُّبكيُّ بمُخالفة إمامنا الأشعريِّ فقال: <والأشعريُّ إمامُنا لكنَّنا * في ذا نُخالفه بكُلِّ لسانِ> انتهى لأنَّه فَهِم أنَّ مذهب الأشعريِّ يقول بجواز الذُّنوب الحقيقيَّة الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء.
22
ومعنى قول التَّاج السُّبكيِّ: أنَّ الأشعريَّ يبقى إمامَهُم وهُم مُتمسِّكون بأذيال أقواله لأنَّها على النَّهج الحقِّ وإنْ كانوا خالفوه في هذه المسألة لكن لا يُكفِّرونه ولا يُضلِّلونه كما فعل الجَهَلَة المُتصولحة مِن أهل الفتنة.
23
وقد قال الإمام الماتُريديُّ في [تأويلاته]: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى.
24
وقد اشترك العالم والجاهل في معرفة أنَّ الشَّرع دلَّ أنَّه لا عذاب على ترك الأفضل والأَولى فلا يقع العذاب يوم القيامة إلَّا على اقتراف الذُّنوب الحقيقيَّة مع ترك التَّوبة الصَّحيحة بشُروطها وعدم إدراك أسباب المغفرة.
25
وقد تسأل -أخي القارئ- أليس مذهب الماتُريديِّ القول بالعصمة حتَّى مِن صغيرة لا خسَّة فيها؟ والجواب: أنَّه أحد قولَيه؛ وإلَّا ففي ردِّه على الخوارج والمُعتزلة قال بقول الجُمهور كما نسخنا مِن كريم قوله وبيانه.
26
وفيما يلي بعض نُصوص وأقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في فهم الحقيقة والمجاز في النُّصوص الشَّرعيَّة وبيان متَى يُحمَل ظاهر الكلام على الحقيقة ومتَى يُحمَل على المجاز وفوائد أُخرى فاحفظوها تربحوا.
27
قال الغزاليُّ في [المُستصفى]: <مَسْأَلَةٌ إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَاللَّفْظُ لِلْحَقِيقَةِ إلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَجَازَ> انتهى.
28
قال الآمديُّ في [أبكار الأفكار]: <والأصل فى الإطلاق الحقيقة> انتهى وقال [فيه]: <ولا يخفى أنَّ ترك الظَّاهر مِن غير دليلٍ ممتنِعٌ> انتهى وقال في موضع آخر [منه]: <فإنَّه لا مُناسبة بين الغُفران والذَّنب بهذا المعنى كيف وأنَّه على خلاف الظَّاهر مِن اللَّفظ فيمتنع المصير إليه إلَّا بدليل> انتهى.
29
وقال ابن التلمسانيِّ المُتوفَّى 658 للهجرة في شرح [معالم أُصول الدِّين للرَّازيِّ]: <وحَمْلُ اللَّفظ على احتماله البعيد مجاز وشرطُه القرينة؛ ومع انتفاء القرينة لا يُمكن المصير إليه لِمَا فيه مِن إثبات المشروط بدون شرطه، فتعيَّن البقاء مع تلك الظَّواهر وهكذا القول في جميع ما ورد مِن أحكام الآخرة؛ متَى كان ظاهرُه جائزًا وجب اعتقادُه إلَّا أنْ يدُلَّ دليل على امتناعه> انتهى.
30
وقال [فيه]: <المسألة الثَّالثة في بيان أنَّ الأصل في الكلام هُو الحقيقة، ويدُلُّ عليه وُجوه: الأوَّل: أنَّ الأمر إذَا تجرَّد مِنَ القرينة: -1- فإمَّا أنْ يُحمل على حقيقته وهُو المطلوب، أو -2- على مجازه وهو باطل لأنَّ شرط كونه مجازًا: ألَّا يُحمَل اللَّفظ عليه إلَّا لقرينة مُنفصلة لأنَّ الواضع لو أمر بحمل اللَّفظ عليه -عند تجرُّده- على ذلك المعنَى لكان ذلك اللَّفظ حقيقة فيه إذ لا معنَى للحقيقة إلَّا ذلك، أو -3- عليهمَا معًا وهُو أيضًا باطل لأنَّ الواضع لو قال: “احملوا هذا اللَّفظ عند تجرُّده عليهمَا معًا” لكان ذلك اللَّفظ حقيقة في ذلك المجموع؛ ولو قال: “احملوه إمَّا على هذا أو على ذاك لكان ذلك مُشترَكًا بينهُما” أو لا على واحد منهُمَا ألبتَّة وحينئذ: يصير هذا اللَّفظ مِنَ المُهملات لا مِن المُستعملات، فلمَّا بطلت هذه الأقسام تعيَّن القسم الأوَّل وهو أنَّه يجب حمله على حقيقته فقط فقد ثبت أنَّ ذلك هُو الحقُّ> انتهى.
31
والخُلاصة أنَّ وصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بالحقيقيِّ كان بقصد بيان مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة العصمة عن الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها وردِّ دعوى الإجماع المُفترى على الشَّرع.
32
فيُعلَم أنَّ ذلك ليس فيه إساءة للأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه وأنَّه ليس تنقيصًا للأنبياء ولا طعنًا بهم ولا ذمًّا لهُم لأنَّه مبنيٌّ في قَول الجُمهور على ما يجوز في حقِّهم شرعًا ولأنَّ المرجع فيه كتاب الله الكريم.
نهاية المقال. Mar 2, 2021, 11:02 PM
