المُبتدعة ونسبتُهُمُ الذُّنوب الكبيرة والصَّغيرة ذات الخسَّة إلى الأنبياء
وبيان مُراد جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة بقولهم: صغيرة لا خسَّة فيها
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
وبعدُ فإنَّ أهل البِدع والأهواء عندهُم وَلَع بنسبة الذُّنوب الكبيرة والصَّغيرة ذات الخسَّة إلى أنبياء الله عليهمُ السَّلام، وأمَّا أهل السُّنَّة والجماعة فقد قالوا بعصمة الأنبياء عن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدهَا. وأجاز جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء وقالوا: إنَّ الأنبياء يُنبَّهون فَورًا للتَّوبة قبل أنْ يُقتدَى بهم فيها.
وقد نسب المُبتدعة الشِّرك إلى أنبياء الله عليهمُ السَّلام فقال سيِّد قُطُب في كتابه المُسمَّى [في ظلال القُرآن] في حقِّ سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام: <يرى القمر فيظنُّه ربَّه ولكنَّه يأفُل كذلك فيترُكُه ويمضي ثُمَّ ينظُر إلى الشَّمس فيُعجبُه كِبَرُها ويظنُّها ولا شكَّ إلهًا ولكنَّها تُخلف ظنَّه هي الأُخرى> انتهى والصَّواب أنَّ ذلك كان سُؤالًا إنكاريًّا مِن سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام.
وإنَّ الكذب مِن المعاصي المُنفِّرة؛ والإجماع قائم على عصمة الأنبياء مِن الكذب، وخالف أهل البِدع والأهواء فنسبوا الكذب إلى إبراهيم عليه السَّلام لأنَّه قال عندمَا كسَّر الأصنام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، أمَّا أهل السُّنَّة والجماعة فقالوا: إبراهيم عليه السَّلامُ نسب الفعل إلى الصَّنم الكبير لأنَّه كان سببًا في تكسيره تلك الأصنام فهذا مجاز وهُو حقٌّ وصدقٌ وليس كذبًا حقيقيًّا.
وممَّا خالف به البعض نسبتُهُ إخوة يوسُف عليه السَّلام إلى النُّبُوَّة؛ فقد ثبت كذبُهُم بنصِّ القُرآن الكريم لقولهم: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} الآية.. وغير ذلك مِن الخسائس كرميهم ليُوسُف عليه السَّلام في الجُبِّ ولو كانوا أنبياء لَمَا فعلوا ذلك لأنَّ الأنبياء معصومون مِن الكذب ومِن الخسائس قبلَ النُّبُوَّة وبعدهَا؛ ولكنَّ إخوة يُوسف تابوا بعد ذلك ممَّا كان صدر منهُم وحسُنت أحوالُهُم.
وفي بعض كُتُب التَّفسير ما يُخالف الإجماع لأنَّها اشتملَت على روايات فيها أنَّ نبيَّ الله يُوسف عليه السَّلام هَمَّ بالزِّنَا بامرأة العزيز؛ وفي بعض الكُتُب أنَّ نبيَّ الله داود عليه السَّلامُ زنَا بامرأة أُوريَا وكان مِن قادة جُنده؛ وكُلُّ هذا ممَّا يجب عصمة الأنبياء منه إجماعًا لأنَّ الزِّنَا ذنب عظيم؛ والهَمُّ به فعل خسيس مُنفِّر لا يليق بنبيٍّ مِن أنبياء الله عليهمُ السَّلام.
فالمُبتدعة وأهل الأهواء في قُلوبهم وَلَع بنسبة الذُّنوب إلى الأنبياء عليهمُ السَّلام ولذلك يتَّهمونهُم بالذُّنوب الكبيرة والصَّغيرة ذات الخسَّة؛ أمَّا الجُمهور فقالوا بوُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها اتِّباعًا لظاهر النَّصِّ القُرآنيِّ والحديثيِّ الصَّحيح فيما يُجوِّزُه الشَّرع وليس لأنَّ في قُلوبهم وَلَع بنسبة الذُّنوب إلى الأنبياء كما هُو حال المُبتدعة وأهل الأهواء.. فتبيَّنِ الفَرْق.
قال القاضي عياض فِي [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ. وَلَا فِي صَغِيرَةٍ أَدَّتْ إِلَى إِزَالَةِ الحِشْمَةِ وَأَسْقَطَتِ المُرُوءَةَ وَأَوْجَبَتِ الإِزْرَاءَ وَالخَسَاسَةَ؛ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْصَمُ عَنْهُ الأَنْبِيَاءُ إِجْمَاعًا> انتهى فلم يَقُمِ الإجماع على عصمتهم مِن صغائر لا خسَّة فيها وإنَّمَا مِن تكرارها وكَثرتها.
وكلام القاضي عياض دليل أنَّ الجُمهور إنَّمَا جوَّز الصَّغائر الحقيقيَّة -الَّتي لا خسَّة فيها- لأنَّ الصَّغائر الحقيقيَّة هي الَّتي بالتَّكرار والكثرة تلتحق بالكبائر وهذا بيان عظيم وردٌّ مُفحم على أهل الفتنة الَّذين أنكروا وصف تلك الصَّغيرة بالحقيقيَّة وهذا ممَّا لم يستطيعوا الجواب عنه ولن يستطيعوا وذلك لأنَّ الصَّغيرة المجازيَّة لا تلتحق بالكبائر مهمَا تكرَّرت وكثُرت.
وقال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى. فقد نقل عن الجُمهور أنَّ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها جائزة “عَمْدًا” بعد الوحي أي بعد النُّبُوَّة كذلك.
وممَّا يدُلُّ كذلك على أنَّ مُرادَ الجُمهور بالصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها الحقيقيَّةُ وليس ما يكون في حقِّ غيرهم مِن الحَسَنَات قولُ العُلماء: <ولكن يُنبَّهون فورًا للتَّوبة قبل أنْ يقتديَ بهم فيها غيرُهُم> لأنَّها لو كانت مِن قبيل ما يكون في حقِّ غيرهم مِن الحَسَنَات: لم يُحتَجْ إلى الحذر مِن أنْ يَتَّبِعَهُم النَّاس فيه لأنَّ الشَّرع حضَّ على اتِّباع الأنبياء عليهمُ السَّلام في الحَسَنَات.
فلا يبقَى مِن وصف تلك الصَّغيرة بـ(الحقيقيَّة) إلَّا بيان المعنَى وهذا مطلوبٌ لردِّ تحريف الشَّرع لا سيَّما مع وُجود الدَّعاوي الكاذبة. ومَن أصرَّ مِن أهل الفتنة على الإنكار فليُجب على ما قدَّمناه ولن يستطيع. ونسأل الله تعالى أنْ لا يجعل في قُلوبنا وَلَعاً بنسبة الذُّنوب إلى أنبياء الله عليهمُ السَّلام وأنْ لا يجعلَنا مِن الجَهَلَة المُتصولحة أصحاب الدَّعاوي الكاذبة الباطلة.
أرشيف صفحة السُّنَّة في فيسبوك من 1 حزيران 2021 حتى 23 تشرين أول 2021
