انتقاد العُلماء أبياتًا قليلة في [البُردة] تُخالف الشَّرع – التَّغالي في المدح يكرهُه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وينهَى عنه

انتقاد العُلماء أبياتًا قليلة في [البُردة] تُخالف الشَّرع

التَّغالي في المدح يكرهُه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وينهَى عنه

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّ البُوصِيريَّ مِن أشهر الشُّعراء الَّذين نظموا في مديح نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وقصيدة “البُردة” مِن أجمل قصائد المديح النَّبويِّ ولكنَّ العُلماء انتقدوا أبياتًا قليلة فيها يُخالف ظاهرُها النُّصوص الشَّرعيَّة وهذا يدُلُّ أنَّ “البُردة” ليست نصًّا شرعيًّا ولا هي مسألة قام الإجماع على صحَّتها.

2

وقد غلا الجَهَلَة المُتصولحة حتَّى قدَّموا بعض ما وجدوه في “البُردة” على كتاب الله وطعنوا بالعُلماء الَّذين انتقدوا أبياتا قليلة فيها فكأنَّها عندهُم قُرآن لا يأتيه الباطل مِن بين يدَيه ولا مِن خلفه ولا يُكذِّبُه شيء فإذَا قال قائل: “إنَّ في البُردة خطأً” اتَّهموه بالجهل حتَّى قبل أنْ ينظُروا في دليله.

3

وقد أنكر الشَّيخ عبدالله الغُماريُّ المغربيُّ رحمه الله قول البُوصيريِّ في [البُردة]: (وقدَّمَتْكَ جميع الأنبياء بها * والرُّسْلِ تقديم مخدوم على خَدَمِ) فقال: <قول البوصيري “تقديم مخدوم على خدم” خطأ قبيح> انتهى مِن [موسوعة العلَّامة الغُماريِّ – المُجلَّد 16 – فتاوَى وأجوبة].

4

ونحن تبعًا لشيخنا الهرريِّ لا نُوافق الغُماريَّ في إنكاره هذا البيت لأنَّ المُراد بيان عُلُوِّ المرتبة ولأنَّ الشَّاعر شبَّه تقدُّم النَّبيِّ عليهم في المنزلة بتقدُّم المخدوم على الخدم فالتَّشبيه وقع على التَّقدُّم؛ ومع ذلك لا نُخطِّئ الغُماريَّ لمُجرَّد أنَّه انتقد كلمات مِن قصيدة [البُردة] دون النَّظر في دليله.

5

ولكنَّ الشَّيخ عبدالله الغُماريَّ أصاب في إنكاره أبياتًا أُخرى؛ فالبُردة ليست آية مِن القُرآن ولا هي مِن كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه فلا يجوز أنْ يُخَطَّأ عالِم لمُجرَّد إنكار بيت فيها؛ وسُكوت بعض العُلماء عمَّا لم يسكت الشَّيخ عبدالله الغُماريُّ عنه فيها: لا يعني أنَّها صارت نصًّا شرعيًّا.

6

وإنكار الشَّيخ عبدالله الغُماريِّ أبياتًا في [البُردة] قديم ولم نسمع ولم نرَ مَن أنكر عليه كما فعل أهل الفتنة الَّذين احتجُّوا بأنَّهُم لم يجدوا مَن اعترض على بيت في [البُردة] قبلَه مع كونها تُقرأ في مساجد المُسلمين مُنذ مئات السَّنوات فاحتجاجُهُم باطل ساقط لأنَّه لا يقوم على دليل الشَّرع.

7

فالعُلماء لا يُنكرون على مَن أنكر بيت شعر في قصيدة إنْ كان إنكاره مُستند إلى دليل مُعتبر لأنَّ العبرة بما وافق الشَّرع؛ ولأنَّ سُكوت غير النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام لا يُفيد تشريعًا كما لا يخفَى على طَلَبَة العلم ولكن يخفَى على أهل الفتنة لأنَّهُم جَهَلَة مُتصَولحة يتمظهرون بالصَّلاح.

8

وقال الشَّيخ عبدالله الغُماريُّ في المرجع نفسه: <جَهَلَة الصُّوفيَّة يعطون بجهلهم سلاحًا قويًّا للوهَّابيَّة وهُم لا يشعُرون كما أنَّهُم لا يُدركون أنَّ تغليط البُوصيريِّ وألفٍ مثله أهون مِن المساس بمقام جبريل والأنبياء عليهمُ السَّلام> انتهى.

9

وقال الشَّيخ عبدالله الغُماريُّ: إنَّ البوصيريَّ: <مُخطئ أيضًا في قوله: “فإنَّ مِن جُودك الدُّنيَا وضُرَّتَها * ومِن عُلُومك عِلم اللَّوح والقَلَم” لأنَّ الدُّنيَا والآخرة مِن جُود الله تعالى لا مِن جُود رسوله وعِلم اللَّوح والقلم مِن عِلم الله تعالى لا مِن عِلم رسوله؛ وهذا التَّغالي في المدح يكرهُه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وينهَى عنه> انتهى.

10

وقد أصاب الغُماريُّ رحمه الله بإنكار قول البوصيريِّ: “ومِن عُلومِكَ عِلمُ اللَّوحِ والقَلَمِ” لأنَّه غُلُوٌّ مُعارض للنُّصوص الشَّرعيَّة ويكفي في ردِّه قولُه تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} والأدلَّة في هذا الباب كثيرة جدًّا.

11

وقال الشَّيخ جميل حليم الحُسَينيُّ: <فالنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعلم بعض ما في اللَّوْح المحفوظ ممَّا أطلعه الله عليه مِن الأُمُور الَّتي حصلت وستحصُل في الدُّنيَا وليس يعلم كُلَّ ما في اللَّوْح المحفوظ لأنَّ اللَّوْح المحفوظ مكتوب فيه كُلُّ ما يجري في هذه الدُّنيَا إلى نهايتها أي إلى يوم القيامة فاعتقادُنا أنَّ النَّاظم بريء منه ولا يُستبعد أنْ يكون حصل تصحيف في بعض ألفاظ البيت> انتهى.

12

وقال المُحدِّث الهرري رحمه الله: <في البُردة مكتُوب: (وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمُ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ) هذا الكلام غَلَطٌ، في اللَّوْح المحفوظ مكتوب أنَّ أُنَاسًا يَرتَدُّون، وفي الحديث يُؤتَى بأُناسٍ إلى حَوض الرَّسُول قال عليه الصَّلاة والسَّلام: “وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُم” “فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي” البُخاريُّ ومُسلم وغيرُهُما، ما كان يعلم أنَّهُمُ ارتدُّوا ثُمَّ عَلِمَ> انتهى.

13

فأمَّا الجَهَلَة الَّذين أنكروا انتقاد هذا البيت فإنَّهُم مُتنطِّعون إلى حيث اضطرب العُلماء؛ قال عليٌّ القاري في [الزُّبدة شرح البُردة]: <واضطرب الشُّرَّاح في المِصراع الثَّاني> إلخ.. أي في قوله: “ومِن عُلومِكَ علمُ اللَّوْح والقَلَمِ”.

14

ومِن الأبيات المُنتَقَدة بيت فيه: “أَطْفَأْتَ نارَ لظَى مِن وِرْدها الشَّبِمِ” وفي رواية: “أَطْفَأْتَ حرَّ لظَى مِن وِردها الشَّبِمِ” وظاهرُه مُخالف لِمَا تضافر القُرآن والسُّنَّة والإجماع عليه مِن أنَّ نار جهنَّم لا تفنى ولا تنطفِئ ولا للحظة.

15

وهذا التَّحقيق لا يُعاب فإنَّه في مذهب أهل السُّنَّة لو بلغَنا خبر مِن طريقِ ثقةٍ وكان مُخالفًا للعقل أو للقُرآن أو للسُّنَّة المُتواترة أو الإجماع فيُعلَم أنَّه منسوخ أو لا أصل له؛ فكيف بقصيدة نظمها بعض أهل القرن السَّابع!؟

16

ورُبَّما كانت هذه الأبيات المُنتقَدة مِن أخطاء النُّسَّاخ وليست مِن كلام البوصيريِّ في الأصل لأنَّ [البُردة] ليست ثابتة ثُبوتًا قطعيًّا بكُلِّ أبياتها إليه؛ ولذلك قال القاضي زكريَّا الأنصاريُّ في [الزُّبدة الرَّائقة] في بيت منها: <قال بعضُهم: ولستُ على يقين مِن ثُبوت هذا البيت في الرِّواية> انتهى.

17

وقال الشَّيخ جميل حليم الحُسَينيُّ: <فلأنْ يُقال أخطأ ناسخ أو صحَّف بعضُهُم أو حرَّف آخَرون أهون بألف مرَّة بل أكثر مِن أنْ يُعتَقَد ظاهر لفظ يُصادم الشَّريعة وأهون مِن أنْ يُنسَب للبُوصِيريِّ كلام مُخالف للشَّريعة وهُو مِن ذلك بريء فنحن نُبَرِّئُه مِن كُلِّ ما عارض الشَّريعة بلا تَوَقُّف؛ والأدب كُلُّ الأدب في الوُقوف مع القُرآن وعند حُدوده لا مُعارضته ومُخالفته> انتهى وكلامُه حفظه الله قريب مِن كلام العلَّامة الغُماريِّ رحمه الله.

18

وأمَّا أهل الفتنة ففي دِينهم لو سكت بعض العُلماء عن النَّهي عن عبارة أو تغافل عنها أحدُهُم صارت عندهُم مُقرَّرة شرعًا مُطلقًا وكأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام هُو مَن سكت عنها وقرَّرها؛ وهذا جهل منهُم عظيم.

19

والخُلاصة أنَّ أحسن المسالك وأعلى الطُّرُق تخريج بعض الأبيات الَّتي تُشكل على القُرَّاء وانتقاد ما لا يُمكن تأويله بغير تكلُّف لأنَّ في هذا المسلك تحقيق وضبط وأخذ بالدَّليل والحُجَّة وتقديم العمل بالشَّرع الشَّريف.

20

وهذه الأبيات القليلة المنتقدة لا تمنع أنَّ في [البُردة] ما تهيم به القُلوب فهُو مِن أرقَى الشِّعر وأجودِه وأرقِّه وأطيبه ولا سيَّما أنَّه في مديح أُنس الغريب وشفاء السِّقام حِبِّ قُلوبنا نبيِّنا المُصطفى صلوات الله عليه وسلامُه.

نهاية المقال.

May 24, 2021, 11:52 PM