براءة الإمام أحمد ممَّا يقتضي التَّشبيه وبيان أنَّ الله تعالى مُتكلِّم بلا حرف ولا صوت

براءة الإمام أحمد ممَّا يقتضي التَّشبيه

وبيان أنَّ الله تعالى مُتكلِّم بلا حرف ولا صوت

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فاعلم أنَّ حُدوث الصِّفة يستلزم حُدوث الذَّات أي مَن كانت صفتُه حادثة مخلوقة فذاتُه حادثة مخلوقة مِن باب أولَى؛ فلمَّا كان الله تعالَ قديما أزليا أي لا بداية لوُجوده وجب أنْ تكون صفاتُه كُلُّها قديمة أزليَّة لا بداية لها أي غير مخلوقة؛ وهذه عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة.

2

والله تعالَى موصوف بالكلام؛ وقد أجمع عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ كلام الله بلا حرف ولا صوت؛ قال ابن القطَّان في [الإقناع]: <وأجمعوا على أنَّ كلام الله ليس بحُروف ولا أصوات> إلخ.. وهذا دليل على براءة الإمام أحمد مِن القول بالحرف والصَّوت في حقِّ الله تعالَى.

3

والقُرآن كلام الله؛ هذه العبارة لها إطلاقان: الأوَّل: يُراد به كلام الله الذَّاتيُّ الَّذي لا يشبه كلام المخلوقين فليس بحرف ولا صوت ولا لُغة عربيَّة ولا غيرِها، والثَّاني: يُراد به ما في المصاحف فإنَّه وإنْ لم يكُن كلام الله الذَّاتيَّ ولكن يُقال له “كلام الله” لأنَّه عبارة عن كلام الله الذَّاتيِّ.

4

وصفة الكلام وردت في حقِّ الله في النُّصوص الشَّرعية الثَّابتة فتُطلَق على الله تعالَى ولكن لم يرد الصَّوت والحرف في القُرآن ولا في حديث مقطوع بصحَّته؛ والقاعدة الشَّرعيَّة عند أهل السُّنَّة والجماعة أنْ لا نُثبت صفة لله تعالَى إلَّا بوُرودها في القُرآن أو في حديث مقطوع بصحَّته.

5

قال الخطَّابيُّ: <لا تثبُت لله صفة إلَّا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحَّته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السُّنَّة المقطوع على صحَّتها وما بخلاف ذلك فالواجب التَّوقُّف عن إطلاق ذلك ويُتَأَوَّلُ على ما يليق بمعاني الأُصول المُتَّفَق عليها مِن أقوال أهل العلم مِن نفي التَّشبيه> انتهَى.

6

فمَن زعم أنَّ كلام الله الذَّاتيَّ تتعاقب فيه الحُروف فقد كفر؛ أمَّا مَن زعم أنَّه صوت غير مخلوق لا يُشبه أصوات المخلوقين ولا تتعاقب فيه الحُروف فهذا لا يكفُر إنْ كانت نيَّتُه كذلك ولكنَّه خطأ لأنَّ الأحاديث الَّتي فيها لفظ “الصَّوت” لا يصلُح أيٌّ منها للاحتجاج به في العقيدة.

7

وقد افترَى المُشبِّهة المُجسِّمة الحشويَّة على الإمام أحمد فنسبوا إليه القول بالحرف والصَّوت في حقِّ الله تعالَى وهُو بريء مِن هذا الكُفر بدليل الإجماع المذكور آنفًا، والإمام أحمد رضي الله عنه إمام مُعتبر لا يصف الله تعالَى بصفة لم ترد في القُرآن ولا في حديث مقطوع بصحَّته.

8

قال العزُّ بن عبدالسَّلام في [إيضاح الكلام]: <وأنَّه حيٌّ مُريد سميع بصير عليم قدير مُتكلِّم بكلام أزليٍّ ليس بحرف ولا صوت ولا يُتصوَّر في كلامه أنْ ينقلب مدادًا في الألواح والأوراق شكلًا ترمُقُه العُيون والأحداق كما زعم أهل الحشو والنِّفاق بل الكتابة مِن أفعال العباد> إلخ..

9

إلى أنْ قال: <وأحمد بن حنبل وفُضلاء أصحابه وسائر عُلماء السَّلف بَراء ممَّا نسبوه إليهم واختلقوه عليهم، وكيف يُظنُّ بأحمد وغيره مِن العُلماء أنْ يعتقدوا أنَّ وصف الله تعالَى قديم وهذه الألفاظ والأشكال حادثة بضرورة العقل وصريح النَّقل، وقد أخبر الله تعالَى عن حُدوثها> إلخ..

10

قال الفقيه الحنفيُّ مُلَّا عليٌّ القاري في [شرح الفقه الأكبر]: <وقد ذكر المشايخ رحمهُمُ الله تعالَى أنَّه يُقال: (القُرآن كلام الله غير مُخلوق) ولا يُقال: (القُرآن غير مخلوق) لئلَّا يسبق إلى الفهم أنَّ المُؤلَّف مِن الأصوات والحُروف قديم كما ذهب إليه بعض جَهَلَة الحنابلة> انتهَى.

11

ومرادُه بقوله: (المُؤلَّف مِنَ الأصوات والحُروف) ما في المصاحف فهذا مخلوق مُؤلَّف مِن حُروف تتعاقبُ وأصواتٍ وليس هُو كلام الله الذَّاتيُّ ولكنَّه عبارة عن كلام الله الذَّاتيِّ الَّذي ليس بمخلوق لأنَّه صفة ذاتيَّة لله تبارك وتعالَى فالكلام الذَّاتيُّ ليس بحرف ولا صوت ولا لُغة.

12

وقال مُلَّا عليٌّ القاري في [شرح الفقه الأكبر]: <ومُبتدعة الحنابلة قالوا: (كلامُه حُروف وأصوات تقوم بذاته وهُو قديم)> انتهَى. فالقائلون بالحرف والصَّوت في حقِّ الله تعالَى هُم مُبتدعة الحنابلة مِن المُجسِّمة المُشبِّهة الحشويَّة أمَّا الإمام أحمد بن حنبل فبريء مِن هذا التَّشبيه.

13

وقد أثبت الجَهَلَة المُتصولحة على الإمام أحمد القول بالحرف والصَّوت في حقِّ الله اتِّباعًا لِمَا افتراه عليه المُجسِّمة المُشبِّهة الحشويَّة؛ ولذلك اعتبر أُولئك الجَهَلَة أنَّ مَن كفَّر مَن قال بالحرف والصَّوت في حقِّ الله يكون قد كفَّر الإمامَ أحمدَ! وقد صرَّح بعضُهم بهذا الباطل.

14

قال القُرطبيُّ في [التَّذكرة]: <قولُه في الحديث: “فيُناديهم بصوت” استدلَّ به مَن قال بالحرف والصَّوت وأنَّ الله يتكلَّم بذلك، تعالَى عمَّا يقول المُجسِّمون والجاحدون عُلُوًّا كبيرًا، إنَّما يُحمَل النِّداء المُضاف إلى الله تعالَى على نداء بعض الملائكة المُقرَّبين بإذن الله تعالَى وأمره> إلخ..

15

فانظُر كيف جعل القُرطبيُّ رحمه الله القائلين بالحرف والصَّوت مِن المُجسِّمين الجاحدين لتعلم مذهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في تنزيه الله تعالَى عن الحرف والصَّوت وأنَّ مَن قال بهما في حقِّ الله تعالَى لا يكون مُسلمًا بل مُجسِّمًا مُشبِّهًا حشويًّا والعياذ بالله تعالَى.

16

فإذَا وجدتَ أخي القارئ قولًا فيه نسبة الصَّوت والحرف إلى الله تعالى: فاعلم أنَّه غير صحيح فإمَّا -1- هُو نقل بلا تحقيق وإمَّا -2- هُو غلط فلا عبرة به على كُلِّ حال؛ لأنَّ إثبات مذاهب الأئمَّة لا يصحُّ بغير طريق البيِّنة الشَّرعيَّة ولا سيما إذَا كانت المسألة في العقائد الأُصوليَّة.

نهاية المقال.

Oct 12, 2021, 1:56 AM