بيان أنَّ مَن نطق بالكُفر الصَّريح عالِمًا بمعناه مُختارًا غير مُكره يكفُر ولو لم يعتقد معناه

أهل الفتنة مخانيث المُجسِّمة وأفراخ الوهَّابيَّة

بيان أنَّ مَن نطق بالكُفر الصَّريح عالِمًا بمعناه مُختارًا غير مُكره يكفُر ولو لم يعتقد معناه

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّ ادعاء التَّأويل في لفظ صريح -أي ليس له بحسب اللُّغة إلَّا معنًى واحد- لا يُقبل، نقل القاضي عياض في [الشِّفا] عن حبيب بن ربيع أحد كبار المالكيَّة أنَّه قال: <ادِّعاء التَّأويل في لفظ صُراح لا يُقبل> انتهى.

2

وقال إمام الحرمَين أبو المعالي عبدالملك الجُوينيُّ في كتابه [نهاية المطلب في دراية المذهب] ما نصُّه: <وقد ذكر الأُصوليُّون أنَّ مَن صرَّح بكلمة الرِّدَّة وزعم أنَّه أضمر تورية فإنَّه يكفُر ظاهرًا وباطنًا> انتهى.

3

نقله شمسُ الدِّين الرَّمليُّ الشَّافعيُّ في [نهاية المُحتاج إلى شرح المنهاج] وقال: <ونقل الإمام عن الأُصوليِّين أنَّ إضمار التَّورية أي فيما لا يحتملها كما هُو واضح لا يُفيد فيكفُر باطنًا أيضًا لحُصول التَّهاون منه> انتهى.

4

فمن نطق بالكُفر الصَّريح عالِمًا بمعناه يُحكَم عليه بالكُفر ولا يُقبَل منه تأويل بعيد وينطبق هذا على مَن وصف الله بصفة مِن صفات خلقه كما قال الإمام الطَّحاويُّ في عقيدته الَّتي تلقَّاها أهل السُّنَّة والجماعة بالقَبول.

5

وإنَّ ممَّا يدُلُّ على الحُكم المذكور قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما نصُّه: <إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النَّار سبعين خريفًا> رواه التِّرمذيُّ وحسَّنه، وفي معناه حديث رواه البُخاريُّ ومُسلم.

6

ومعنى قوله: “لا يرى بها بأسًا” لا يراها ضارَّة له في دينه وقولِه: “سبعين خريفًا” سبعين سنة، فالعبد قد يتكلَّم بالكلمة لا يراها ضارَّة له في دينه فينزل بسببها في النَّار سبعين سنة وهذا عُمق جهنَّم والعياذ بالله تعالى.

7

وفي كتاب [خزانة الأكمل] لأبي يعقوب الجُرجانيِّ قال: <وفي كتاب مُوسى بن نصير الرَّازيِّ: أجمع عُلماؤُنا رحمهُم الله أنَّ كُلَّ مَن كَفَر بلسانه طائعًا وقلبُه مُطمئنٌّ على الإيمان أنَّه كافر عند الله وعند الحاكم> انتهى.

8

وفي رسالة البدر الرَّشيد في الألفاظ الكفريَّة: <مَن كَفَر بلسانه طائعًا وقلبُه مطمئن على الإيمان فإنَّه كافر ولا ينفعُه ما في قلبه ولا يكون عند الله مُؤمنًا> انتهى.

9

وقال المُحدِّث الهرريُّ في [مُختصره] بعد ذكر حديث (إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة) ما نصُّه: <وهذا الحديث دليل على أنَّه لا يُشترَط في الوُقوع في الكُفر معرفة الحُكم ولا انشراح الصَّدر ولا اعتقاد معنى اللَّفظ> انتهى.

10

وقال التَّاج السُّبكيُّ في [طبقاته]: <ولا خلاف عند الأشعريِّ وأصحابه بل وسائر المُسلمين أنَّ مَن تلفَّظ بالكُفر أو فعل أفعال الكُفر أنَّه كافر بالله العظيم مُخلَّد في النَّار وإنْ عرف بقلبه وأنَّه لا تنفعُه المعرفة مع العناد ولا تغني عنه شيئًا؛ لا يختلف مسلمان في ذلك> انتهى.

11

وقال مُلَّا عليٌّ القاري الحنفيُّ في [شرح الفقه الأكبر] للإمام أبي حنيفة النُّعمان بن ثابت الكُوفيِّ: <ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَالِمًا بِمَعْنَاهَا وَلَا يَعْتَقِدُ مَعْنَاهَا لَكِنْ صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ بَلْ مَعَ طَوَاعِيَةٍ فِي تَأْدِيَتِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ> انتهى.

12

وهذا معناه أنَّ مَن تلفَّظ بالكُفر الصَّريح عالِمًا بمعناه فقد ثَبَت وُقوعه في الكُفر ولو كان في قلبه لا يُصدِّق بما نطق به لسانُه مِن الكُفر؛ كما أنَّ مَن اعتقد اعتقادًا كُفريًّا بقلبه فإنَّه يكفُر بالله ولو لم ينطِق لسانُه بذلك.

13

والجسم ما له حجم كبيرًا كان أو صغيرًا وهذا لا يجوز أنْ يُوصف الله به؛ فمَن وصف الله بالجسم وكان يعرف المعنى فإنَّه يكفُر ولو قال إنَّه لا يلتزم لوازم الجمسيَّة لأنَّه وصف الله تعالى بصفة مِن صفات مخلوقاته.

14

فمَن قال: (إنَّ الله جسم) أو قال: (إنَّه جسم لا كالأجسام) وكان يعرف المعنَى فإنَّه يكفُر ولو لم يعتقد بقلبه أنَّ الله جسم، وذلك لأنَّ مُجرَّد النُّطق بالكُفر اختيارًا دون إكراه: كُفر ولو لم يعتقد القلب ما نطق به اللِّسان.

15

هذا ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة ولكن أراد بعض المُصنِّفين بيان أنَّ مَن قال بالجسميَّة في حقِّ الله وكان لا يعلم معنى الجسم لا يكفُر؛ فخرجت عباراتُهُم مُوهمة للخلاف، والحقُّ أنَّهُم لم يختلفوا في كُفر المُجسِّمة.

16

قال إمامُنا الشَّافعيُّ: <لا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَاسْتُثْنَيَ مِن ذَلِكَ الْمُجَسِّمُ> إلخ.. ذكره السُّيُوطيُّ في [الأشباه والنَّظائر]، وقال أبو حنيفة في [الوَصِيَّة]: <مَنِ اعْتَقَدَ حُدُوثَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ أو شَكَّ أو تَوقَّفَ كَفَرَ> انتهى.

17

وقال ابن حجر الهيتميُّ في [المنهاج القويم شرح المقدِّمة الحضرميَّة]: <واعلم أنَّ القَرافيَّ وغيره حكَوا عن الشَّافعيِّ ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهُمُ القَولَ بكُفر القائلين بالجهة والتَّجسيم وهُم حقيقون بذلك> انتهى.

18

وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل ما نصُّه: <مَن قَالَ (اللهُ جِسْمٌ لا كَالْأَجْسَامِ) كَفَرَ> انتهى نقله عنه بدر الدِّين الزَّركشيُّ وصاحب الخصال الحنبليُّ.

19

وقال ابن بلبان الدِّمشقيُّ الحنبليُّ في كتابه [مُختصر الإفادات] ما نصُّه: <ولا يُشْبِهُ شَيْئًا ولا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ فَمَنْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ كَمَنِ اعْتَقَدَهُ جِسْمًا أو قَالَ إِنَّهُ جِسْمٌ لا كَالْأَجْسَامِ> انتهى.

20

وبرَّأ الزَّركشيَّ الأشاعرة مِن القول بعدم كُفر المُجسِّمة فقال في [تشنيف المسامع]: <ونُقِلَ عن الأشعريَّة أنَّه يَفْسُقُ وهذا النَّقل عن الأشعريَّة ليس بصحيح> انتهى أي ليس صحيحًا أنَّهُم يُفسِّقونه وحسب بل ويُكفِّرونه.

21

وقال الحليميُّ في [المنهاج في شُعَب الإيمان]: <ومنهُم مَن قال إنَّه جسم ومنهُم مَن أجاز أنْ يكون على العرش قاعدًا كما يكون المَلِك على سريره (وكُلُّ ذلك في وُجوب اسم الكُفر لقائله كالتَّعطيل والتَّشريك)> انتهى

22

والإمام البيهقيِّ نقل كلام الحليميِّ في كتابه [الجامع لشُعَب الإيمان] وأقرَّه بحُروفه؛ ويدُلُّ قولُهُما: (وكُلُّ ذلك في وُجوب اسم الكُفر لقائله كالتَّعطيل والتَّشريك) أنَّ كُفر مَن نسب الجسم إلى الله لا خلاف فيه.

23

وقال عبد الوهَّاب البغداديُّ في [شرح عقيدة مالك الصَّغير]: <ولأنَّ ذلك يرجع إلى التَّنقُّل والتَّحوُّل وإشغال الحيِّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤُول إلى التَّجسيم وإلى قِدَم الأجسام وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام> انتهى.

24

وعبد الوهَّاب البغداديُّ المالكيُّ تُوُفِّي 422 هجريَّة؛ ولاحظوا قوله: (وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام) انتهى لتعلموا أنَّه لا خلاف في تكفير المُجسِّمة وأنَّه لم يشترط تصريحهُم بالتَّركُّب والتَّأليف قبل الحُكم بالكُفر عليهم.

25

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين الحصنيُّ الشَّافعيُّ مِن أهل القرن التَّاسع الهجريِّ في [كفاية الأخيار في حلِّ غاية الاختصار] في تكفير المُجسِّمة ما نصُّه: <وهُو الصَّواب الَّذي لا محيد عنه إذ فيه مُخالفة صريح القُرآن> انتهى

26

إذًا.. لا خلاف عند عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في كُفر المُجسِّمة وفي كُفر مَن قال عن الله (جسم) عالمًا بالمعنَى، ولا خلاف عندهُم في كُفر مَن تلفَّظ بالكُفر الصَّريح مُختارًا ولو لم يعتقد بقلبه الكُفر الَّذي نطق به لسانُه.

27

وخالف أهل الفتنة فقالوا إنَّ مَن وصف الله بالجسم لا يكفُر ولو كان عالِمًا بالمعنَى إلَّا إنْ قال إنَّه يلتزم لوازم الجسميَّة أو يعتقد ذلك بقلبه؛ وكلامُهُم هذا مُخالف لِمَا سُقناه مِن كلام أئمَّة أهل السُّنَّة والجماعة آنفًا.

28

ولذلك أقول إنَّ أهل الفتنة هُم مخانيث المُجسِّمة وأفراخ الوهَّابيَّة وذلك لأنَّهُم يتَّبعونهُم في ادِّعاء أنَّ المُجسِّمة لم يخرُجوا مِن الإسلام بقولهم بالتَّجسيم والتَّشبيه ويُصوِّرونهُم وكأنَّهُم فرقة مقبولة عند أهل السُّنَّة والجماعة.

29

فأهل الفتنة بإنكارهم كُفر مَن قال: (جسم لا كالأجسام) مثل الوهَّابيَّة في قولهم: (يجلس لا كجُلوسنا) وهذا كُفر صريح؛ فالجسم والجُلوس لا يليق نسبتُهُما إلى الخالق سُبحانه وتعالى عمَّا يقول الكافرون عُلُوًّا كبيرًا.

30

ومثل الوهَّابيَّة في هذا بعض المُنتسبين إلى الأشعريَّة وإلى التَّصوُّف زُورًا؛ فتراهُم يدخُلون على النَّاس مِن باب مُكافحة البدعة الوهَّابيَّة؛ وسُرعان ما يكشفون عن حقيقة أنَّهُم يُروِّجون لتلك البدعة الَّتي يدُّعون مُحاربتها!

31

وفعلهم هذا يُشبه ما كان عليه الخوارج الَّذين جاء فيهم الحديث الصَّحيح: <يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ> رواه البُخاريُّ ومُسلم وهؤُلاء يُداهنون عَبَدَة الأجسام ويطعنون بأهل السُّنَّة والجماعة ويُضلِّلونهُم.

32

وهؤُلاء الجَهَلَة مُذبذبون فلا هُم أشاعرة ولا هُم مُجسِّمة ولكنَّهُم يُحاربون مَن يُحارب المُجسَّمة فيأمن جانبَهُم أهل الضَّلال لأنَّهُم لا يضُرُّونهُم شيئًا فيما يدعون إليه مِن باطل بل يُعينونهُم في الطَّعن بأهل السُّنَّة والجماعة.

33

وقد رأينا بعض أُولئك الجَهَلَة المُتصولحة يفتتح قناة في يوتيوب أو فيسبك زاعمًا أنَّها مُخصَّصة لمُكافحة شُبُهات الوهَّابيَّة فلمَّا دخلنا إليه وجدنا أنَّه لا يطعن إلَّا بجماعة مِن أهل السُّنَّة ردَّت شُبُهات الوهَّابيَّة في كُلِّ مسألة.

34

وأقول له: لستَ أشعريًّا إنْ أنتَ أدخلتَ المُجسِّمة في أهل السُّنَّة والجماعة؛ صنَّف الوهَّابيَّة الكُتُب الكثيرة لإثبات الحدِّ والتَّحيُّز لله سُبحانه وأنتَ تمنع مِن تكفيرهم فينطبق عليك الحديث: إذَا لم تستحِ فاصنع ما تشاء..

35

وأقول له: لستَ على التَّصوُّف الصَّحيح في شيء إنْ أنتَ تركتَ ذكر الله وانشغلتَ بالطَّعن بالسَّادة الأحباش الأشاعرة أهل السُّنَّة والجماعة؛ وليس مِن خُلُق الصُّوفيِّ الدِّفاع عن أهل البِدَع مِن المُجسِّمة والمُشبِّهة.

36

المنهج الأشعريُّ يحمي العاميَّ المُسلم مِن الوُقوع في شُبُهات المُجسِّمة الَّتي مَن اعتقدها يخرُج مِن الدِّين ويصير كافرًا؛ والتَّصوُّف الحقُّ يحفظ صاحبه مِن أنْ يستدرجه الشَّيطان إلى الطَّعن بالصَّالحين والدِّفاع عن الفُجَّار.

37

ورأيتُ بعض أهل الفتنة قد فرح بكلام للشَّيخ عبدالغنيِّ النَّابُلُسيِّ؛ فأقول إنَّه لو عمل بمُقتضى الكلام الَّذي نشره لَمَا وقع في تضليل العالِم العامل والعارف الثِّقة مولانا شيخ الإسلام عبدالله الهرريِّ الحبشيِّ رحمه الله.

38

فكلام الشَّيخ عبدالغنيِّ النَّابُلُسيِّ عن حُسن الظَّن بالمُسلمين لا يعني الحُكم بإسلام وإيمان المُشبِّهة المُجسِّمة الَّذين عبدوا جسمًا له حجم كبير تخيَّلوه جالسًا مُستقِرًّا بذاته على العرش حقيقةً! سُبحان الله عمَّا يفترون.

39

وكلامُه عن حُسن الظَّن بالمُسلمين ليس فيه إنكار قول الشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي حنيفة في تكفير مَن أثبت لله الجسم والعياذ بالله ولكنَّ أهل الفتنة يُحرِّفون مقاصد العُلماء في أقوالهم كما يُحرِّفون مذاهبهُم في الأُصول والفُروع.

40

ويقول الشَّيخ عبدالغنيِّ النَّابُلُسيُّ في [الفتح الرَّبَّانيِّ]: <مَن اعتقد أنَّ الله ملأ السَّموات والأرض أو أنَّه جسم قاعد فوق العرش فهُو كافر وإنْ زعم أنَّه مُسلم> انتهى وهُو الحقُّ فلماذَا لم يفرح به الجَهَلَة المُتصولحة!

41

فيكفيكم يا أهل الفتنة خزيًا أنَّكُم خالفتُم شيخَ الإسلام في زمانه (بلا مُنازع) وأنكم خالفتُم عقيدة الإمام الطَّحاويَّ الَّتي يقول فيها: <ومَن وصف الله بمعنًى مِن معاني البشر [أي بصفة مِن صفاتهم] فقد كفر> انتهى.

نهاية المقال.

Mar 5, 2021, 3:14 AM