بيان الإجماع على أنَّه لا يشفع أحد في الكُفَّار يوم القيامة
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فقد قال الله تعالَى: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} وقال تعالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ} وقال تعالَى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} فالله تعالَى أخبرنا أنَّه منع الشَّفاعة للكافرين يوم القيامة، وإذا قال الله تعالَى؛ تركنا كُلَّ ما يُخالفه مِن كلام النَّاس وراء ظُهورنا ولم نُبالِ.
2
وقد ثبت أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (شفاعتي لأهل الكبائر مِن أُمَّتي) كما روَى الحاكم وأبو داود والتِّرمذيُّ والبيهقيُّ مِن طُرُق كثيرة وورد في الصَّحِيحَين ما يشهد له، ونبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قال: تركنا كُلَّ ما يُخالفه مِن كلام غيره مِن النَّاس وراء ظُهورنا ولم نُبالِ.
3
وأمَّا شفاعة النَّبيِّ يوم القيامة عند ربِّه ليرتاح المُؤمنون مِن هول الموقف وكربه فهذه الشَّفاعة ليس المقصود بها الكُفَّار والمُشركين وإنَّما المقصود بها هُمُ المُؤمنون لأنَّ الشَّفاعة تعني الإراحة وأمَّا المُشركون فلا تُصيبُهُم راحة بسببها بل ينتقلون مِن شدَّة إلى ما هُو أشدُّ والعياذ بالله.
4
جاء في [صحيح البُخاريِّ]: <يَجْتَمِعُ (الْمُؤْمِنُونَ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا> الحديث.. وجاء نحوه في [صحيح مُسلم].
5
والحديث صريح أنَّ الَّذين يستشفعون يومئذ المُؤمنون كما بيَّن حديث مُسلم والبُخاريِّ، وإذا استشكل على البعض أحاديث غيرُها ورد فيها عبارة (الخلق) ونحوها فالحديث يُفسِّره الحديث ولا يجوز أنْ يُحمَل على أنَّ للمُشركين شفاعة يوم القيامة لأنَّ الله تعالَى نصَّ أنَّه لا شفاعة لهُم.
6
ونقل عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة الإجماع أنَّ شفاعة النَّبيِّ والصَّالحين إنَّما هي لأهل الكبائر مِن المُسلمين فخرج بذلك أنْ تكون للكُفَّار والمُشركين. قال ابن القطَّان في كتابه [الإجماع]: <وأجمعوا على أنَّ الإيمان مع القول بشفاعة النَّبيِّ عليه السَّلام لأهل الكبائر مِن أُمَّته> انتهَى.
7
قال أبو منصور عبدالقاهر البغداديُّ المُتوفَّى 429 للهجرة في [الفَرق بين الفِرق] – في خلال كلامه عمَّا أجمع عليه أهل السُّنَّة والجماعة: <وقالوا بإثبات الشَّفاعة مِن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومِن صُلحاء أُمَّته: للمُذنبِين مِن المُسلمين ولمَن كان في قلبه ذرَّة مِن الإيمان> إلخ..
8
وقال ابن جزي في [تفسيره]: <قال ابن عطيَّة: إنَّما اليقين الَّذي أرادوا ما كانوا يُكذِّبون في الدُّنيَا، فيتيقَّنونه بعد الموت {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} إنَّما ذلك لأنَّهُم كُفَّار، وأجمع العُلماء أنَّه لا يشفع أحد في الكُفَّار> انتهَى وهذا لفظ صريح في الإجماع على إنكار الشَّفاعة للكُفَّار.
9
وفي [حاشية السُّيوطيِّ على تفسير البيضاويِّ] قال: <فإنَّ شفاعة الشَّافعين بالنِّسبة إلى الكافرين غير موجودة يوم القيامة لأنَّ الله تعالَى لا يأذن لأحد في أنْ يشفع لهُم لأنَّه لا يأذن فيما لا ينفع لتعاليه عن العَبَث، ولا يشفع أحد عند الله إذا لم يأذن الله له> انتهَى فتأمَّل يرحمك الله.
10
وفي فتاوَى ابن رُشد الجَدِّ: <وأجمع أهل العلم على أنَّ المقام المحمود الَّذي وعده الله به في كتابه هُو شفاعتُه لأُمَّته فتنال شفاعتُه صلَّى الله عليه وسلَّم المُحسنين منهُم في وضعَين أحدُهما: الإراحة مِن الموقف، الثَّاني: الزِّيادة في الكرامة والتَّرفيع في المنزلة والدَّرجة. وأمَّا المُذنبون فمنهُم مَن تنالُه شفاعتُه في التَّجاوز عن ذُنوبه ومنهُم مَن تنالُه شفاعتُه في إخراجه مِن النَّار فلا يُحرَم أحد شفاعة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ إلَّا الكُفَّار> انتهَى.
11
وبهذا يثبُت منع الشَّفاعة للكُفَّار -1- في القُرآن الكريم -2- وعلى لسان نبيِّنا المُصطفَى الكريم – 3- وفي إجماع عُلماء الأُمَّة؛ فإذا وجدنا ما يُخالف كُلَّ ما تقدَّم رمينا بما خالف وراء ظُهورنا ولم نُبالِ فإنَّما نحن أتباع مُحمَّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى دينه نحيا ونموت.
12
هذا وقد تجوَّز بعض المُصنِّفين فاستعملوا لفظ (الشَّفاعة) في حقِّ الكافر دون أنْ يكون مُرادُهُم أنَّه يحصُل للكُفَّار راحة كما يحصُل للمُؤمنين وقد أخطأوا في ذلك وهُم ليسوا معصومين؛ ولو أرادوا تحقيق معنَى الشَّفاعة للمؤمن في حقِّ الكافر لصاروا مُكذِّبين بالدِّين والعياذ بالله.
13
إنَّ تسمية شفاعة النَّبيِّ عند ربِّه لفصل القضاء بين الخلائق -بعد أنْ يتردَّد المُؤمنون إلى الأنبياء- تسمية ذلك (شفاعة في حقِّ الكافر) هذا لا معنَى له لأنَّ الكُفَّار لا ينالون راحة وإنَّما ينتقلون مِن شدَّة إلى ما هُو أشدُّ وقولُهم ظاهرُه يُناقض مدلول الشَّفاعة ويُناقض تحقيق معناها.
14
فأمَّا أُولئك المُصنِّفون فاستعملوا لفظ شفاعة في حقِّ الكافر دون أنْ يكون مُرادُهُم أنَّها في حقِّ الكافر كما هي في حقِّ المُؤمن ويحتمل أنْ تكون تلك العبارات دسَّها بعض النُّساخ أو وضعها أولئك المُصنِّفون أنفسُهُم دون تدبُّر لحقيقة معانيها.. فهل يُترك كتاب الله لأجل ذلك!
15
وأعظم مِن ذلك أنَّ بعض الجَهَلَة المُتصولحة يستعملون لفظ الشَّفاعة في حقِّ الكافر في سياق يدُلُّ على لُحوق الرَّاحة بالكُفَّار يوم القيامة! وهذا ضلال مُبين لأنَّه تكذيب للدِّين ورَدٌّ لآيات القُرآن الكريم والأحاديث الصَّحيحة الثَّابتة عن سيِّد الخَلْق حبيبنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
16
والخُلاصة أنَّ العبد المُؤمن إذا قرأ الآيات الَّتي فيها منع الشَّفاعة للكُفَّار يوم القيامة وما جاء في ذلك مِن الأحاديث الصَّحيحة الثَّابتة وإجماع عُلماء الأُمَّة؛ لا يتجرَّأ بعدها على مُناقضة ذلك لا في ظاهر كلامه ولا في حقيقته لأنَّ هذا شأن مَن يرجو رحمة الله يوم لا ينفع مال ولا بنون.
انتهَى.
