بَين المُنصِف وغيره
كلام في مسألة عصمة الأنبياء
عن الصَّغائر غير المُنفِّرة
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فإنَّ المُنصِف إذَا تكلَّم عرَف كيف يتكلَّم؛ وإذَا حقَّق مسألة عرَف كيف يكون تحقيقُها، فإذَا رأى مسألة خلافيَّة بَين المُعتبَرِين: بيَّن كونها كذلك ولم يأتِ بدعوى كاذبة لينتصر بها لِمَا رآه أو اعتقده أو ظنَّه.
2
وأمَّا غير المُنصِف إذَا تكلَّم في مسألة خلافيَّة: نقل لك أقسى كلام يقع عليه عند القائلين بمَا وافقه؛ ثُمَّ أعدم ما لم يُوافِقْهُ مِن الأقوال والوُجوه، ثُمَّ صرخ في النَّاس: يا أيُّها النَّاس إنِّي لكُم ناصح مُشفق أمين!؟
3
هذا ولا زال بعض العامَّة يُنكرون لفظ (حقيقيَّة) بعد لفظ (معصية) دون أنْ يفهم أنَّ هذا اللَّفظ لم يزد على حقيقة معنى المعصية في الشَّرع شيئًا ثُمَّ هي مُقيَّدة بأنَّها صغيرة غير مُنفِّرة لا خسَّة فيها ولا دناءة.
4
وقد رأى شيخُنا رحمه الله ورضي عنه كثرةَ الدَّعاوي الكاذبة في مسألة العصمة ولذلك استعمل لفظ (الحقيقيَّة) لبيان أنَّها ممَّا يُقابل المجاز؛ فيُفهَم الخلاف ويمتنع تحريف الشَّريعة على أَلْسِنَة المُتصولحة.
5
فلمَّا لم يكن لفظ الحقيقيَّة مُشتمِلًا على الشَّتم والسَّبِّ والاستهزاء والاستخفاف والاستهانة واستُعمل لبيان مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة وبُغية حفظ الشَّريعة مِن التَّحريف: لم يكُن في استعماله سُوء أدب.
6
وقد نطق كتاب الله بإضافة لفظ (ذنب) إلى الأنبياء عليهم السَّلام؛ والقائلون بالعصمة المُطلقة يقولون: (للأنبياء ذُنوب وذنوبُهُم ترك الأَولى) فمُجرَّد هذه الإضافة ليس سُوء أدب ما لم يُقصد التَّنقيص ونحوه.
7
فلو قيل بعد ذلك إنَّ الذَّنب المذكور (مجازيٌّ) أو (حقيقيٌّ) لا يزيد على المعنى ما يجعله مُشتمِلًا على سُوء أدب في حقِّ الأنبياء لا سيَّما وقد قيَّد المُتكلِّم ذلك بأنَّه صغير غير مُنفِّر لا خسَّة فيه ولا دناءة.
8
وعشرات المُفسِّرين مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة يقولون إنَّ ما ورد في كتاب الله في حقِّ الأنبياء محمول على الصَّغائر أو على ترك الأَوْلى ومن ذلك ما ورد في حقِّ سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
9
فمَن حمله على الصَّغائر لم يُرد إلَّا ما يُقابل المجاز وهُو الحقيقة، قال الآمديُّ: <والأصل في الإطلاق الحقيقة> انتهى وهذا معناه أنَّ بعض العُلماء أوَّلوا وبعضَهُم لم يُؤَوِّل بل حمله على الحقيقة.
10
وقد بيَّنَّا أنَّ المعاني في اللُّغة لا تخرُج عن كونها (حقيقيَّة) أو (مجازيَّة) وعلى هذا التَّقسيم سائر العُلماء بل سائر النَّاس فمن زاد نوعًا ثالثًا فقد افترى على الدِّين وعلى اللُّغة وعلى النَّاس والعياذ بالله.
11
قال أبو إسحاق الشِّيرازيُّ في [المعونة في الجدل]: <وغير ذلك مِن الأسماء المنقولة مِن اللُّغة إلى الشَّرع. وحكمُه أنْ يُحمل على ما نُقل إليه في الشَّرع ولا يُحمل على غيره إلَّا بدليل> انتهى كلامه بحروفه.
12
وعليه فالذَّنب في الحقيقة الشَّرعيَّة هُو الذَّنب حقًّا وهذا معنى الذَّنب الحقيقيِّ؛ وقد انتفى الدَّليل على التَّأويل عند مَن جوَّزوا الصَّغائر غير المُنفِّرة على الأنبياء بخلاف الحال عند القائلين بالعصمة المُطلَقة.
13
وقد سبق أنْ قُلنا لأمثال هذا المُنكر إنَّ الكُتُب محشُوَّة بذكر خلاف أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة عصمة الأنبياء عن الصَّغائر غير المُنفِّرة فاتركوا الدَّعاوي الكاذبة فإنَّكم فيها على غير هُدًى والعياذ بالله.
14
وليكن لكُم في التَّاج السُّبكيِّ قُدوة فإنَّه لمَّا خالف الأشعريَّ في العصمة لم يأتِ بدعوى كاذبة لينتصر لرأيه بل صرَّح بمُخالفته له فقال: <والأشعريُّ إمامُنا لكنَّنا * فِي ذا نُخالفه بكُلِّ لسانِ> انتهى.
15
ومع كونه مِن القائلين بالعصمة المُطلقة لم يكذب بل قال: <قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ على المُبتلَى)> انتهى.
16
والقاضي عياض مع أنَّه مِن القائلين بالعصمة المُطلقة لم يكذب بل قال: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهى.
17
أمَّا مَن أنكر أنَّ الخلاف بين عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة هُو في كون تلك الذُّنوب حقيقيَّة في عُرف الشَّرع؛ فالرَّدُّ عليه سهل ومِن لسان بعض أشهر القائلين بالعصمة المُطلقة عنيت به القاضي عياض.
18
قال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ> انتهى واحفظ كلامه جيِّدًا لتفهم ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء.
19
فلو كان ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء المعصية المجازيَّة لَمَا الْتَحَقَ بالكبائر إنْ تكرَّر وكثُر، فيُعلم بوُضوح أنَّ ما جوَّزه الجُمهور هُو الذَّنب الحقيقيُّ لأنَّه هُو ما يلتحق بالكبائر فيما لو تكرَّر وكثُر.
20
وابتعد عن الإنصاف مَن شبَّه قول شيخنا في مذهب الجُمهور: <معصية حقيقيَّة صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة> اهـ؛ وبين قول الزَّمخشريِّ في نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: <أخطأتَ وبئسَ ما فعلتَ> اهـ!
21
وهذا مِن المُخالف ظُلم وبُعدٌ عن الصَّواب لأنَّ الفرق بَين العبارتَين كبير؛ فليس في عبارة شيخنا إلَّا لفظ (حقيقيٍّ) وهذا اللَّفظ ليس لفظ ذمٍّ وقدح ولا هُو لفظ سبٍّ وشتم ولا هُو لفظ تنقيص وإنَّما بيان.
22
أمَّا الزَّمخشريُّ فقد أضاف لفظ (بئسَ) في حقِّ الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهذا لفظ مُستعمل للسَّبِّ والشَّتم في لُغة العرب، قال ابن منظور: <وَبِئْسَ: كَلِمَةُ ذَمٍّ> انتهى. فشتَّانَ بَين العبارَتين.
23
وهذا كلام لو عَلِمَه مَن أنكر علينا لسكتَ طويلًا كي لا يلوك الجَهَلَة المُتصولحة أخطاءهُم في مسألة العصمة ولكنَّ الله يُوفِّق مَن شاء إلى ما شاء مِن الخير ويحرُم مَن شاء ممَّا شاء مِن الخير سُبحانه.
24
وهذا الَّذي قدَّم نفسه اليومَ مُحقِّقًا ناصحًا كان أَوْلى به أنْ يتعلَّم ما فاته ممَّا اشتملت عليه مقالاتُنا المُباركة قبل أنْ يقع في اتِّهام (مَن علَّمه حُبَّ النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام-) بالتَّعدِّي على المقام النَّبويِّ!
25
وختامًا أسأل اللهَ تعالى أنْ يُوفِّق إلى الحقِّ والصَّواب مَن تاه عنهُمَا وأنْ يجعل حُروفنا هذه سببًا في يقظة مَن غفَل عنِ الرَّشاد قلبُه ونامت عن أوجُه الدَّلائل عينُه؛ واللهُ مِن وراء القصد هُو يهدي السَّبيل سُبحانه.
نهاية المقال. Jun 28, 2020, 8:10 AM
