يتَّهمون عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بالقدح بالأنبياء عليهمُ السَّلام

بُطلان فتاوَى أهل الفتنة في مسألة العصمة

أهل الفتنة يتَّهمون عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بالقدح بالأنبياء عليهمُ السَّلام

وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة استخرجوا فتاوَى تكفير مَن أطلق نسبة معصية حقيقيَّة لنبيٍّ مِن الأنبياء دون قيد، ثُمَّ طبَّقوا الفتوَى على مَن ذكر ذلك بقُيود كثيرة! وهذا مِن أهل الفتنة تدليس خبيث وجهل عظيم لأنَّ الكُفر والكبائر والصَّغائر ذات الخسَّة وغير ذات الخسَّة كُلَّ ذلك مِن المعاصي الحقيقيَّة، ولم يُجوِّز الجُمهور مِن ذلك على الأنبياء إلَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها.

فإذا أُطلِقَتِ المعصية الحقيقيَّة ليس كما لو قُيِّدَت بكونها (أ) صغيرة (ب) لا خسَّة فيها (ج) لا تتكرَّر منهُم (د) ولا تكثُر (هـ) وأنَّ الأنبياء لو وقعوا فيها يتوبون منها فورًا قبل أنْ يقتديَ بهم فيها أحد، فضلًا أنَّ القائلين بذلك لم يُريدوا الطَّعن بالأنبياء وإنَّما مُوافقةَ ظاهر القُرآن وبيانَ محلِّ اختلاف العُلماء في مسألة العصمة وصيانةَ الشَّرع مِن الدَّعاوي الكاذبة.

فلا معنَى لاستفتاء أهل الفتنة لبعض المشايخ في مسألة المعصية الحقيقيَّة لأنَّ السَّائل تعمَّد وبخبث جليٍّ إغفال كُلِّ القُيود المذكورة آنفًا؛ وتَعَمُّد أهل الفتنة ذلك ليس بريئًا لأنَّهُم يعلمون أنَّنا ما نقلنا عن الجُمهور إلَّا جواز ووُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء، ولكنَّهُم يُحرِّفون ليخرُجوا بما يُوهمون به العوامَّ بغير الحقِّ وسعيًا لإشعال فتيل الفتنة والعياذ بالله.

وكذلك لا معنَى لتلك الفتاوَى لأنَّ المشايخ لم يُصرِّحوا بتكفير مَن حمل قوله تعالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقولَه تعالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} على ظاهرهما فقال: إنَّ الذَّنب المذكور هُو -عند الجُمهور- ذنب صغير حقيقيٌّ لا خسَّة فيه ولا دناءة تاب منه صلَّى الله عليه وسلَّم وغفره الله تعالَى له وستره كرامة لنبيِّه المُصطفَى عليه السَّلام.

فأيُّ معنًى لفتاوَى أُغفل فيها ذكر عماد المبحث في الحوار وهُو أنَّ الذَّنب الوارد في الآيات مُضافًا إلى النَّبيِّ لو لم يكُن في مذهب الجُمهور ذنبًا حقيقيًّا صغيرًا لا خسَّة فيه لَمَا قال العُلماء: “إنَّه لا يتكرَّر ولا يكثُر مِن الأنبياء لأنَّ ذلك يُلحقه بالكبائر” انتهَى وقد علمتَ أنَّ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة لم يقُل أحد منهُم: إنَّ الذَّنب المجازيَّ يصير ذنبًا مِن الكبائر إنْ تكرَّر وكثُر!

فبعد أنْ ذكر أنَّ جُمهور العُلماء على القول بجواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء قال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ> انتهَى فكيف يرَى أهل الفتنة أنَّ الذَّنب مجازيٌّ ومع ذلك يلتحق بكبائر الذُّنوب والمعاصي والآثام بالتَّكرار والكثرة لولا أنَّهُم مِن الجَهَلَة على التَّحقيق!؟

وليت شعري هل تلك الفتاوَى أراد بها مُطلِقوها ردَّ كلام المُتكلِّم التَّفتازانيِّ في [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ، هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهَى أم يُوافقون عليه لو لم يُغفله سائل أهل الفتنة!؟

وليت شعري هل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الإمام الماتُريديِّ رضي الله عنه لأنَّه أخذ بقول جُمهور العُلماء مرَّة خلال ردِّه على المُعتزلة في [تفسيره] فقال: <وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهَى.

وهل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لأنَّه ردَّ على المُعتزلة فقال: <وَأَمَّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجوزيِّ فِي [مناقب أحمد] ومثله في [طبقات الحنابلة] وهُو دليل أنَّ ذنب آدم عليه السَّلام عنده صغير حقيقيٌّ لأنَّ المُعتزلة لم يُكفِّروا بالذُّنوب المجازيَّة.

وهل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الكستليِّ الفقيه الحنفيِّ لقوله في [حاشية على شرح السَّعد التَّفتازانيِّ]: <أو المُراد الصَّغيرة سهوًا أو عمدًا أو ما كان منه قبل النُّبوَّة، والآية على الوجه الأوَّل مصروفة عن ظاهرها بخلاف الوُجوه الأُخَر إذ ليس فيها إخراجها عن ظاهرها بالكلمة فتدبَّر وقِس عليها نظائرها> انتهَى لأنَّه أشار إلى صحَّة قول مَن حمل الآيات على ظاهرها!؟

وليت شعري هل احتجَّ أحد مِن أولئك المشايخ بكلام ابن حزم الظَّاهريِّ كما فعل أهل الفتنة! وهل يُوافق أولئك المشايخ على أنَّ لفظ المعصية له إطلاقات ثلاثة (1) الأوَّل حقيقيٌّ (2) والثَّاني مجازيٌّ (3) وثالث لا هُو حقيقيٌّ ولا مجازيٌّ كما افترَى أهل الفتنة! وهل يُوافق أولئك المشايخ على بدعة أهل الفتنة في قولهم: إنَّه لا يُوجد صغائر غير ذات الخسَّة والدَّناءة!؟

وهل أحد مِن أولئك المشايخ تجرَّأ على شتم الفقيه الحنفيِّ الشَّيخ مُلَّا عليٍّ القاري رحمه الله لأنَّ الشَّيخ المذكور بيَّن أنَّ قول الجُمهور -بحمل الآيات الَّتي أُضيف فيها الذَّنب للأنبياء على ظاهرها- لا يُناقض إجماع الصَّحابة على التَّأسِّي بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لأنَّ قول الجُمهور فيه شرط وهُو أنَّ النَّبيَّ لو وقع في صغيرة لا خسَّة فيها يُنبَّه للتَّوبة قبل أنْ يُقتدَى به فيها.

وقال ابن بَطَّال -شيخ المالكيَّة- في [شرح البُخارِيِّ]: <وقالَ أهلُ السُّنَّةِ: جائزٌ وقوعُ الصَّغائرِ مِنَ الأنبياءِ. واحتجُّوا بقولِهِ تعالَى مُخاطبًا لرسولِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضافَ إليهِ الذَّنْبَ> انتهَى وقال فيه: <وَإِنَّمَا يَقَعُ اسْتِغْفَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ الجَائِزَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ الَّتِي سَأَلَ اللَّهَ غُفْرَانَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ: {اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ}> انتهَى.

وقال المُتولِّي -شيخ الشَّافعيَّة- فِي [الغُنية]: <وأمَّا الصَّغائرُ فاختلفُوا فِي جوازِها عليهمْ..> انتهَى وقال: <ومنهمْ مَن جوَّزها وعليه يدلُّ قَصَصُ الأنبياءِ وهوَ ظاهرٌ فِي القُرآنِ> انتهَى فهل ظاهر القُرآن إلَّا إضافة الذَّنب؟ وهل يرى أهل الفتنة بحملهم تلك الفتاوَى في غير محلِّها وُجوب استتابة ابن بطَّال شيخ المالكيَّة واستتابة المُتولِّي شيخ الشافعيَّة بعلَّة القدح بالأنبياء!؟

ولو كان الإجماع مُنعقدًا على أنَّ الأنبياء لا يقعون في صغيرة لا خسَّة فيها -كما يفتري أهل الفتنة- فلماذا قال الإمام الغزاليُّ فِي [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهَى أم تُراهم كذلك يُوجبون استتابة الإمام الغزاليِّ لقوله بوُقوع الصَّغائر مِن الأنبياء!

وقال المازريُّ المالكيُّ في [إيضاح المحصول]: <فبَيْنَ أئمَّتِنا اختلافٌ فِي وُقوعِ الصَّغائرِ> إلخ.. وقال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهَى وقال النَّوويُّ الشَّافعيُّ مثله في [شرح مُسلم] فهل كُلُّ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة يُستتابون عند أهل الفتنة!

وقال الأبياريُّ الأُصوليُّ المالكيُّ فِي [التَّحقيق والبيان فِي شرح البُرهان فِي أصول الفقه] ما نصُّه: <وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الصَّغَائِرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُقُوعِهَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ) فَهُوَ كَذَلِكَ “وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ” مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهَى فهل يودُّ أهل الفتنة أنْ يستتيبوا الإمام مالكًا رضي الله عنه!

وقبل أنْ يهجم أهل الفتنة والزَّيغ على تكفير المُؤمنين -المُعظِّمين للأنبياء- بغير حقٍّ؛ نسألُهُم هل أخفَوا عن أُولئك المشايخ -لغرض خبيث- أم بيَّنوا لهُم أنَّ مَن قال بوُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء اشترط أنَّ الأنبياء لا يُصرُّون عليها وبيَّن أنَّهُم صلوات الله عليهم وسلامُه لا يقتحمونها اقتحامًا ولا يتلبَّسون بها وإنَّما تكون طارئة على جليل أحوالهم يتبرَّأون منها فورًا!؟

ولو كان أهل الفتنة صادقين في تبرئة الأنبياء مِن مُخالفة الأمر والنَّهي فلماذَا زعموا أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يُوسف هُو قول مُعتبَر صحيح يجوز اعتقادُه! مع أنَّ القُرآن الكريم أثبت في حقِّهم أنَّهُم كَذَبُوا وفعلوا الكبائر والخسائس؛ ولمَّا نبَّهناهُم إلى هذه السَّقطة وقُلنا لهُم هذا منكُم طعن بمقام النُّبُوَّة ركبوا رُؤوسَهُم وأخذتهُمُ العزَّة بالإثم وتكبَّروا عن قَبول النُّصح.

وفي الختام هل يجرُؤ أهل الفتنة على قراءة مثل هذا المقال بحروفه كاملًا أمام أُولئك المشايخ الَّذين يستفتونهُم في مسألة عصمة الأنبياء؟ أم أنَّهُم يخافون لو فعلوا أنْ تنكشف ألاعيبُهُم ومُخادعاتُهُم لهُم في صِيَغ السُّؤال وأنْ يفوتَهُم ما يبتغون مِن الشُّرور وتحريف الشَّرع الشَّريف وأنْ يُطرَدوا مِن مجالسهم طرد الكلاب الشَّاردة.. وما قول بعضهم (ترجم) عنهُم ببعيد!

Aug 8, 2021, 2:28 AM