ردُّ شُبهة مُرور الإمام الأشعريِّ بثلاثة مراحل في عقيدته
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
وبعدُ فإنَّ من الافتراء على الإمام أبي الحسَن الأشعريِّ ادِّعاء أنَّه انتقل في آخر حياته إلى اعتقاد مُعتقد المُجسِّمة، وإنَّ أقوَى ما يحتجُّ به المُفترون عليه بذلك كتابُه المُسمَّى [الإبانة عن أُصول الدِّيانة] فإذا بَطَلَ احتجاجُهم بهذا الكتاب ظهر أنَّ الأشعريَّ بريء ممَّا نسبوه إليه رحمه الله ورضي عنه.
1- كتاب [الإبانة] ليس آخر كُتُب الأشعريِّ.
فادعاء أن الإبانة آخر كتب الأشعري دعوى بلا بيِّنة؛ قال الكوثريُّ في تحقيق [السَّيف الصَّقيل]: <وتأليف [الإبانة] كان في أوائل رُجوعه عن الاعتزال لتدريج البربهاريِّ إلى مُعتقد أهل السُّنَّة، ومَن ظنَّ أنَّها آخر مُؤلَّفاته فقد ظنَّ باطلًا> انتهَى ومَن شاء فليُراجع مُقدِّمة [اللُّمَع] لحمودة غرابة.
2- ثُبوت الدَّسِّ في كتاب [الإبانة].
أكثر النَّاس على وُقوع الدَّسِّ في كتاب [الإبانة].
قال الصَّفديُّ في [الوافي بالوَفَيات]: <وُضِع كتابُ [الإبانة] على لسان الشَّيخ أبي الحَسَن الأشعريِّ> انتهَى.
وقال الكوثريُّ في هامش [تبيين كذب المُفتري]: <والنُّسخة المطبوعة في الهند مِن [الإبانة] نسخة مُصحَّفة مُحرَّفة تلاعبت بها الأَيدي الأثيمة> انتهَى.
وقال الكوثريُّ في مُقدِّمة [إشارات المَرام]: <ومِن العزيز جدًّا الظَّفر بأصلٍ صحيح مِن مُؤلَّفاته على كثرتها البالغة، وطَبْعُ كتاب [الإبانة] لم يكن مِن أصل وثيق، وفي المقالات المنشورة باسمه وقفة> انتهَى.
وقال العلَّامة الشيخ عبدالله الهرريُّ: <كتاب [الإبانة] مِن تأليف أبي الحَسَن لكن أكثر نُسَخِهِ سقيمة غير صحيحة لأنَّها لم تكُن مُقابَلَة بيدِ ثقةٍ على نُسخة قابَلَها ثقة وهكذا إلى أصل المُؤلِّف الَّذي كتبه بخطِّه أو كتبه ثقة بإملاء المُؤلِّف فقابله على المُؤلِّف> انتهَى.
3- اختلاف وتناقُض نُسخ كتاب [الإبانة] فيما بينها.
وقد طُبع كتاب [الإبانة] مقابلة على عدَّة نُسخ خطيَّة مُتناقضة يشوبُها الاختلاف والنَّقص والزِّيادة فجاء في نُسخة: (وأنكروا أنْ يكون له عينان) وفي أُخرَى: (وأنَّ له سُبحانه عينَين بلا كيف) وجاء في [تبيين كذب المفتري] للحافظ ابن عساكر: <وأنَّ له عينًا بلا كيف> إلخ..
وما نقله ابن عساكر هُو المُوافق للقُرآن الكريم إذ لفظ التَّثنية غير وارد في القرآن بخلاف الإفراد والجمع كما في قوله تعالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وفي قوله عزَّ وجلَّ: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أمَّا ذكر التَّثنية فبدعة وتحريف ومُخالفة للقُرآن وإجماع عُلماء المُسلمين.
وقال العلَّامة الكوثريُّ في تعليقه على [الأسماء والصِّفات] للإمام البيهقيِّ: <لم تَرِد صيغة التَّثنية في الكتاب ولا في السُّنَّة، وما يُروَى عن أبي الحسَن الأشعريِّ مِن ذلك فمدسوس في كُتُبه بالنَّظر إلى نقل الكافَّة عنه> إلخ..
أمَّا المُشبِّهة فلعلَّهُم اختاروا لفظ التَّثنية مع عدم وُروده في الشَّرع لأنَّهُم حملوا قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: <وإنَّ ربَّكُم ليس بأعور> على ظاهره أي على العضو الَّذي هُو جُزء وهذا ممَّا لا يليق بالله تعالَى وأمَّا معنَى الحديث فهُو نفي النَّقص عن الله تعالَى فهذا الَّذي يدُلُّ على الأُلوهيَّة.
قال ابن الجوزيِّ في [دفع شُبه التَّشبيه]: <إنَّما أراد تحقيق وصفه بأنَّه لا يجوز عليه النَّقص؛ والعَوَرُ نقصٌ؛ ولم يَرد إثبات جارحة بأنَّه لا مدح في إثبات الجارحة> إلى قوله: <كأنَّه قال: ربُّكُم ليس بذي جوارح تتسلَّط عليه النَّقائص وهذا مثل نفي الولد عنه لأنَّه يستحيل عليه التَّجزُّؤ> إلخ..
4- اشتمال كتاب [الإبانة] على الطَّعن بالإمام أبي حنيفة.
وممَّا يدُلُّ على وُقوع التَّحريف في كتاب [الإبانة] اشتمال بعض نُسَخه على الطَّعن بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه واشتمال نُسَخ أُخرَى منه على زيادة فيها: <وحاشَى الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه مِن هذا القول بل هُو زُور وباطل فإنَّ أبا حنيفة مِن أفضل أهل السُّنَّة> انتهَى.
قال الكوثريُّ في تعليقه على [الاختلاف في اللفظ]: <ومن غريب التَّحريف ما دُسَّ في بعض نسخ الإبانة للأشعريِّ كما دُسَّ فيها أشياء أُخَر مِن أنَّ حمَّاد بن أبي سُليمان قال: “بلِّغ أبا حنيفة المُشرك أنِّي بريء مِن دينه”> إلخ.. ولو كان حقًّا لَمَا كان له مكانة عالية عند أتباع أبي حنيفة.
والدَّسُّ على العُلماء غير مُستغرب فقد وُضِع في الحديث الشَّريف؛ وأهل الأهواء والبِدَع حريصون على إتلاف كُتُب أهل السُّنَّة والجماعة قال التَّاج السُّبكيُّ في [الطَّبقات]: <هذا شأن المُصنَّفات اللِّطاف، لا سيَّما ما يُغيظ أهلَ الباطل، فإنَّهم يُبادرون إلى إعمال الحيلة فِي إعدامه> انتهَى.
5- اشتمال كتاب [الإبانة] على ما يُخالف عقائد المُجسِّمة
وكيف يكون الأشعريُّ منتقلًا إلى عقائد المُشبِّهة وفي [الإبانة] ما يُخالف عقائدهُم؛ ففيه ما نصُّه: <نقول إنَّ الله عزَّ وجلَّ استوَى على عرشه استواءً يليق به مِن غير حُلول ولا استقرار> إلخ.. وفيه ما نصُّه: <نزولًا يليق بذاته مِن غير حركة وانتقال تعالَى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا> إلخ..
6- اشتمال كتاب [الإبانة] على ما يُخالف عقائد الكافَّة
ففي بعض نُسَخ [الإبانة] عبارة يزعمون فيها أنَّ المُسلمين يقولون في دعائهم (اللَّهُمَّ يا ساكن السَّماء) وهذا كُفْرٌ مُناقض لعقيدةِ الرَّسولِ والصَّحابة ومُناقض لعقائد كُلِّ الفِرَق المُنتسبة إلى الإسلام؛ ولو تأمَّلت أخي القارئ فإنَّك تُلاحظ أنَّها أشبه بعبارة النصارى التي يقولون فيها: (أبانا الَّذي في السَّموات)!
وأهل السُّنَّة والجماعة مُجمعون أنَّ الله تعالَى موجود بلا كيف ولا جهة ولا مكان كما في قول الطَّحاويُّ في عقيدته الَّتي ذكر أنَّها بيان عقيدة أهل السُّنَّة: <ولا تحويه الجهات السِّتُّ كسائر المُبتدعات> انتهَى فوُجود ما يُخالف عقائد المُسلمين دليل على وقوع التَّحريف في [الإبانة].
6- عدم قَبول مُجسِّمة الحنابلة لِمَا في كتاب [الإبانة]
وقال الذهبيُّ: <قيل إنَّ الأشعريَّ لَمَّا قَدِم بغداد جاء إلى أبي مُحمَّد البربهاريِّ فجعل يقول رددت على الجُبَّائيِّ، رددت على المجوس وعلى النَّصارى فقال أبو مُحمَّد لا أدري ما تقول ولا نعرف إلَّا ما قاله الإمام أحمدُ فخرج وصنَّف [الإبانة] ولم يُقبَل منه> انتهَى فهذا يدُلُّ أنَّ [الإبانة] اليوم مُحرَّفة.
7- أقوال المُؤرِّخين أنَّ الأشعريَّ إنَّما ترك الاعتزال إلى السُّنَّة
فإنَّ المُؤرِّخين أثبتوا انتقال الأشعريَّ مِن الاعتزال إلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة دون أدنَى إشارة إلى مرحلة ما بين مرحلة الاعتزال ومرحلة السُّنَّة؛ ولا يُصدَّق أنْ يكون أبو الحسَن الأشعريُّ انتحل مذهبًا ثُمَّ تركه ولا يذكُر ذلك أحد مِن أصحابه أو أتباعه أو أتباعهم مع عُلُوِّ وجلالة قدره.
وهكذا في كُلِّ كُتُب التَّاريخ الَّتي ترجمت للإمام أبي الحسَن الأشعريِّ رحمه الله كما في [تاريخ بغداد] و[طبقات الشَّافعيَّة] للتَّاج السُّبكيِّ ولابن قاضي شُهبة وللإسنويِّ و[شذرات الذَّهب] و[الكامل] و[تبيين كذب المُفتري] و[ترتيب المدارك] و[الدِّيباج المُذهَّب] و[مرآة الجنان] لليافعيِّ وغيرها.
8- أصحاب الأشعريِّ أدرَى به
وأَولَى النَّاس بمعرفة الأشعريِّ هم أصحابُه لأنَّ أَولَى النَّاس بمعرفة الرَّجُل هُم خاصَّتُه وأصحابه المُلازمون له فهؤُلاء هُم أقرب النَّاس إليه وأعرفُهُم بأحواله وأقواله لا سيَّما في القضايا الخطيرة في أُصول الدِّين؛ وأصحاب الأشعريِّ مُتَّفقون أنَّه لم يَمُرَّ بمراحل ثلاثة كما ادَّعَى خصومُه.
فائدة:
ولا يغُرَّك أخي القارئ انتساب المُجسِّمة إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فإنَّه انتساب باطل غير صحيح؛ ولقد ذكر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بُلِيَ بأصحاب سُوء ولا عارَ على أحمدَ فقد ابتُلِيَ بمثل ذلك قبلَه مَن هُو أفضل منه.
أمَّا فُضلاء الحنابلة فقد كانوا يوالون الإمام أبا الحسن الأشعريَّ ويُحبُّونه وينتسبون إليه كما بيَّن الحافظ ابن عساكـر الدِّمشقيُّ في [التَّبيين] [ص/389] وكذلك كان بينهُم وبين صاحبه أبي عبدالله بن مُجاهد وصاحب صاحبه أبي بكر بن الطَّيِّب الباقلَّانيِّ رحمَهُم الله ورضي عنهُم.
فائدة:
وحاول المُجسِّمة عَبَثًا التَّمويه على البُسَطَاء مِن واقع أنَّ للأشعريِّ طريقتين في تفسير النُّصوص المُوهِمَةِ للتَّشبيه أوَّلُهُما (التَّفويض) وهُو تأويل إجماليٌّ ليس فيه تعيين المعنَى المُراد وثانيهُما (التَّأويل التَّفصيليُّ) وكُلُّ أهل السُّنَّة المُفوِّضة والمُؤوِّلة على نفي الكَيف عن الله تعالَى وعن صفاته.
والأشاعرة لا يُنكرون التَّفويض بل هُم لا يذهبون إلى التَّأويل التَّفصيلي إلَّا لضرورة شرعيَّة لرفع الإشكال عن عامَّة المُسلمين صيانة لهُم عن اعتقاد التَّجسيم في حقِّ الله تعالَى والأشعريُّ في مواضعَ مِن كُتُبه فوَّض المعنَى حيث لم تدعُ ضرورة للتَّأويل وهذا هُو عين مذهب الإمام أحمد.
خاتمة.
والخُلاصة أنَّ (الإبانة) إبانتان؛ الأُولَى: كتبها الأشعريُّ على طريقة أهل السُّنَّة، والثَّانية: مُحرَّفة اليوم بين أيدي النَّاس وأنَّ المُؤرِّخين لم يُثبتوا مرحلة ثالثة مرَّ بها الأشعريُّ وإلَّا فأين هي في كُلِّ هذا المبحث!؟ وقد قيل:
والدَّعاوَى ما لم تُقيموا عليها * بيِّنات أبناؤُها أدعياءُ
Sep 6, 2021, 7:20 AM
فيديو
حول الصَّلاة على النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعد الأذان Sep 7, 2021, 4:40 AM
