رسالة مُختصرة حول التَّصوُّف والصُّوفيَّة بيان أنَّ الصُّوفيَّة منهُم عُلماء صادقون ومنهُم مُدَّعون جَهَلَة

رسالة مُختصرة حول التَّصوُّف والصُّوفيَّة

بيان أنَّ الصُّوفيَّة منهُم عُلماء صادقون ومنهُم مُدَّعون جَهَلَة

وأنَّ التَّصوُّف الحقَّ يجمع بين العلم بالشَّرع والعمل به

والتَّحذير مِن بعض ضلالات جَهَلَة المُتصوِّفة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ قال الله تعالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: <ومَن سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنَّة> رواه مُسلم وهكذا شأن الصُّوفيَّة الحقَّة علم صحيح وعمل مُوافق للشَّرع ولذلك قال إمام صوفيَّة زمانه سيِّدُنا أحمد الرِّفاعيُّ رضي الله عنه: <لا فائدة بالسَّعي والعمل على الطَّريق المُغاير للشَّرع> إلخ..

2

فالعاقل الفَطِن ينظُر في الدَّعاوَى المُختلفة فيختار لنفسه ما يقوم على بيِّنة شرعيَّة ليحفظ دينه وأمر آخرته ولا يلتفت إلى الزَّخارف والألوان ولو كثُرت ولا تخدعُه الشُّبُهات مهما كانت مُشكِلة عليه لأنَّه يسلُك طريقة الشَّرع فينكشف له ما يخرُج عنها فيتميَّز عنده الطَّيِّب مِن الخبيث فيتناول الطَّيِّب وينبُذ الخبيث فينجو بفضل الله مِن المهالك والدَّعاوَى الشَّيطانيَّة.

3

وقد شذَّ جماعة ممَّن ادَّعَوُا التَّصوُّف فقالوا: (إنَّ الأولياء يكفيهمُ الإلهام والفُيوضات فلا حاجة لهُم إلى علم الدِّين ونُصوص الشَّرع) انتهَى وكلامُهُم باطل مردود، ولهُم دعاوَى كثيرة أُخرَى باطلة؛ فهؤُلاء جَهَلَة المُتصوِّفة؛ فإذا وجدتَ عالمًا مُعتبَرًا يطعن بالمُتصوِّفة فاعلم أنَّه لا يطعن بأئمَّة التَّصوُّف الحقِّ وإنَّما بجَهَلَة المُتصوِّفة الَّذين لا يعرفون طريق التَّصوُّف الحقِّ.

4

وطائفة الصُّوفيَّة لا يعني أنَّ لهُم مذهبًا فقهيًّا خاصًّا مُستقلًّا عن مذاهب أهل السُّنَّة والجماعة بل معناها (جماعة الصُّوفيَّة) كما في حديث: <لا تزال طائفة مِن أُمَّتي> إلخ.. فهُم على أُصول وفُروع أهل السُّنَّة والجماعة؛ فالصُّوفيُّ الصَّادق قد يكون شافعيَّ المذهب أو مالكيَّ المذهب وهكذا.. فلا يخرُج الصُّوفيُّ الصَّادق عن عقيدة وفقه ومنهج أهل السُّنَّة والجماعة.

5

وللصُّوفيَّة ألفاظ انفردوا بها معانيها جليلة يعرفونها فيما بينهُم؛ وجعلوها غامضة بحيث تخفَى على مَن خالفهُم لحكمةِ أنْ لا تشيع في غير أهلها، وليس في مُصطلحاتهم ما يُخالف الشَّرع ولكنَّ مُدَّعي التَّصوُّف زادوا مِن كيسهم ألفاظًا فيها كُفر وزندقة أخذها بعض مُتَقَدِّمِيهم عن فلاسفة اليُونان وكانوا يعرفون معناها ثُمَّ قلَّدهُم فيها بعض مُتأخِّريهم على غير بيِّنة.

6

فمِن أشهر ألفاظ الصُّوفيَّة الصَّادقين (الحال) وهُو معنًى يَرِدُ على القلب بدون تعمُّد؛ قال العارف الشَّيخ عبدالله الهرريُّ: <الحال أمر ذَوقيٌّ يحصُل للشَّيخ والمُريد فيتأثَّر منه القلب والجسد لذلك قالوا مَن ذاق عرف> انتهَى وقد يكون في بعض ما يَرِدُ على القلب (إشارة إلى عتاب) فيحصُل في القلب قبض وخَوف (أو إلى إقبال) فيحصل للقلب بسط ورجاء.

7

وممَّا شاع بين جَهَلَة المُتصوِّفة مِن عبارات فاسدة قول بعضهم: (لا موجود إلَّا الله) والعبارة معناها أنَّ العالَم أجزاء مِن الله فهي عقيدة كُفريَّة يقول أهلُها بوَحدة الوُجود يعنون بذلك أنَّ الخالق هُو جُملَة العالَم ولذلك قال سيِّدُنا الجُنيِّد: <لو كُنتُ حاكمًا لضربتُ عُنُق مَن سمعتُه يقول: (لا موجود إلَّا الله)> انتهَى أي مع العلم بمعناها ولو قال إنَّه لا يُريد معناها اللُّغويَّ.

8

ومِن ضلالات جَهَلَة المُتصوِّفة قول بعضهم: (أنا الله) وقوله: (أنا الحقُّ) وقوله: (ما في الجُبَّة إلَّا الله) والعياذ بالله تعالَى فيجب التَّحذير مِن هذا الكُفر وكذلك يجب التَّحذير مِن كتاب منسوب لابن عجيبة الشَّاذليِّ يُسمَّى [معراج التَّشوُّف إلى حقائق التَّصوُّف] فيه أنَّ الله تعالَى يُسمَّى عند الصُّوفيَّة الخمرة وعبارتُه: (أمَّا الخمرة فقد يُطلقونها على الذَّات العليَّة)! إلخ..

9

والصُّوفيُّ الصَّادق يتذلَّل قلبُه لله وينقاد للحقِّ ويستسلم لحُكمه ويتواضع مع إخوانه المُؤمنين عملًا بقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: <مَن تواضع لله رفعه الله> رواه ابن ماجه وقد سُئل إمام أهل التَّصوُّف فقال: <التَّواضع خفض الجَناح للخَلْق ولين الجانب لهُم> انتهَى وقيل لأبي يزيد: متَى يكون الرَّجُل مُتواضعًا؟ فقال: <إذا لم يرَ لنفسه مقامًا ولا حالًا> انتهَى.

10

ويحصُل أنَّ بعض الَّذين يتمظهرون بالزُّهد والتَّصوُّف وهُم أبعد الخَلْق عن ذلك؛ يستعملون أمام العاميِّ ألفاظًا ومُصطلحات لا يعرف معانيها بقصد أنْ يدفعوه إلى تعظيمهم وتبجيلهم وتقديمهم ومِن هذا المدخل دَسَّ الجَهَلَة في كُتُب التَّصوُّف تلك العبارات الكُفريَّة الَّتي شاعت في مجالسهم والَّتي يُدافع بعض المشايخ الفاسدين اليوم عنها؛ فما أبعدهُم عن كُلِّ خير.

11

والصُّوفيَّة الصَّادقون فيهم أولياء. وقد يُصاب بعض الأولياء بالجذب وهؤُلاء قسمان. القسم الأوَّل: قُلوبُهُم صاحية وعُقولُهُم حاضرة لكن يتصرَّف الحال بأعضائهم؛ والثَّاني: يغيبون عن عُقُولهم مِن فرط الحُبِّ لله فقد تنطق ألسنتُهُم بما يُخالف الشَّرع حالَ الجذب ولا يكون عليهم في ذلك بأس لغياب التَّكليف ولكن لا يجوز تقليدُهُم بما يصدُر منهُم مِن ذلك حالَ الجذب.

12

ولا ريب أنَّ الطَّريقة السُّهْرَوَرْدِيَّة والجِشتيَّة والقادريَّة والسَّعديَّة والشَّاذليَّة والنَّقشبنديَّة والبدويَّة والدُّسوقيَّة والمولويَّة والرِّفاعيَّة وغيرها مِن الطُّرُق المُباركة تندرج تحت البدعة الحسَنة، ولكن معلوم مِن الدِّين بالضَّرورة أنَّ أوراد الطَّريقة ليست واجبة، وقد علمتَ أنَّ مِن الضَّلال إيجاب ما لم يجب إجماعًا فاحذروا ممَّن يزعُم أنَّ أوراد الطَّريقة فرض أو واجب.

13

ومَن أراد فليُراجع [التَّشرُّف بذكر أهل التَّصوُّف] فهو كتاب مُفيد طبعته دار المشاريع سنة 1423هـ/2002ر؛ ولابن الجوزيِّ الفقيه الحنبليِّ المُتوفَّى سنة 592 للهجرة كتاب سمَّاه [تلبيس إبليس] وهُو كتاب مُفيد ولكنَّه يُنكر على الصُّوفيَّة أشياء لبعضها وُجوه مقبولة؛ والشَّيخ عبدالغنيِّ النَّابُلُسيُّ ثابت عنه كتاب [التَّعبير] أمَّا كُتُبُه الَّتي ألَّفها باسم التَّصوُّف أكثرُها فيه دَسٌّ.

14

ودرجة القُطبيَّة درجة عالية عند الصُّوفيَّة؛ والأقطاب الأربعة المشهورون كسيِّدُنا القُطب العارف عبدالقادر الجيلانيُّ رضي الله عنه وسيِّدُنا القُطب العارف إبراهيم الدُّسوقيُّ رضي الله عنه وسيِّدُنا العارف أحمد البدويُّ رضي الله عنه وسيِّدُنا العارف أحمد الرِّفاعيُّ الكبير رضي الله عنه؛ كانوا سالكين على الشَّريعة؛ وما خالف الشَّرع ممَّا اتُّهِمُوا به فهُو افتراء عليهم.

15

فائدة: سُئل العارف الشَّيخ عبدالله الهرريِّ ما معنَى بيت الشِّعر: (مَنْ ذَاقَ طَعْمَ شَرَابِ القَوْمِ يَدْرِيهِ * وَمَنْ دَرَاهُ غَدَا بِالرُّوحِ يَشْرِيهِ) فقال رحمه الله: <شَرَابُ الْمَحَبَّةِ الْإِلَهِيَّةِ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَيْسَ شَرَابًا حِسِّيًّا؛ مَعْنَاهُ هَذَا أَمْرٌ ذَوْقِيٌّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلذَّوْقِ يَعْرِفُهُ أَمَّا مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا مَحَبَّةُ اللهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ حَصَلَتْ لَهُمْ مَحَبَّةُ اللهِ الخَاصَّةُ، اَلْمَحَبَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: مَحَبَّةٌ عَامَّةٌ وَمَحَبَّةٌ خَاصَّةٌ، أَمَّا الْجُزْءُ الْأَخِيرُ “وَمَنْ دَرَاهُ غَدَا بِالرُّوحِ يَشْرِيهِ” مَعْنَاهُ هَذِهِ المَحَبَّةُ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِن كُلِّ شَىءٍ، هَذَا لِأَهْلِ القُلُوبِ خَاصَّةً مِنَ الأَوْلِيَاءِ، هُم لِذَلِكَ إِذَا أَحَدُهُم دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ يَرْتَاحُ بِالصَّلَاةِ، يَجِدُ رَاحَةً، أَمَّا الذِينَ غَلَبَتْهُمُ الغَفْلَةُ يَنْتَظِرُونَ مَتَى يَنْتَهُونَ مِنْهَا. الله، الله، الله، يَرْتَاحُونَ بِالصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْتَاحُونَ بِالأَكْلِ اللَّذِيذِ وَالشَّرَابِ اللَّذِيذِ> انتهَى.

نهاية المقال. Sep 3, 2021, 10:30 PM