تفسير الماتُريديِّ -ووضعنا عنك وزرك

سُؤال وجواب حول كلام الماتُريديِّ في تفسير {ووضعنا عنك وزرك}

وبيان كيف ضلَّل أهل الفتنة جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ فإنَّ الأنبياء -عليهمُ السَّلام- معصومون بإجماع المُعتبَرين مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة عن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ واختلف العُلماء في عصمة الأنبياء عمَّا دون ذلك أي عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة على قولَين؛ فقال الفريق الأوَّل بوُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء وبتَوبتهم قبل أنْ يقتديَ بهم فيها أحد؛ وقال الفريق الثَّاني: إنَّهُم معصومون حتَّى مِن هذه الصَّغائر فلا تقع منهُم أبدًا.

فالجَهَلَة المُتصَولحة ضلَّلوا عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في المسألة؛ فكان لا بُدَّ مِن الرَّدِّ عليهم بدليل الشَّرع منعًا لتكفير عُلمائنا وصيانةً للشَّرع مِن تحريفات أهل الفتنة وردًّا لادِّعائهمُ الإجماع الكاذب وكشفًا لتمويهاتهم على البُسطاء في مسألة لا نُحبُّ أنْ نُكثر مِن الكلام فيها أمام العامَّة إذ محلُّها كُتُب العلم لولا ضرورة وأد الفتنة وكسر أهلها وحفظ العوامِّ مِن أنْ يتوهَّموا أنَّ مذهب الجُمهور ينسب إلى الأنبياء ما لا يجوز في حقِّهم.

لا يُكثر العُلماء مِن الكلام فيها أمام العامَّة وإنَّما جعلوها في كُتُبهم الَّتي تكون عادة بين أيدي طَلَبَة العلم الشَّرعيِّ فالله المستعان.

وبين أيدينا كلام للإمام الماتُريديِّ -رحمه الله- مِن تفسيره للقُرآن المعروف بكتاب [تأويلات أهل السُّنَّة].. والإمام الماتُريديُّ هُو واحد مِن رُؤوس القائلين بالقول الثَّاني أي بالعصمة المُطلقة أي عصمة الأنبياء حتَّى مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها؛ فنتدارس معًا معاني كلامه وما دلَّ عليه مِن اعتقاد الجُمهور واعتقاد بقيَّة عُلماء الأُمَّة ليعرف كُلُّ أَحَد ما هُو المُعتبَر مِن أقوال العُلماء فيمتنع عن تضليل وتبديع وتفسيق أهل السُّنَّة والجماعة.

قال الماتُريديُّ في تفسيره: <وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل على تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يقولون: أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه ولكنَّ هذا وحش مِن القَول؛ لكنَّا نقول إنَّ قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الوزر هُو الحِمل والثِّقَل كأنَّه يقول: قد خفَّفنا عليك مِن أمر النُّبُوَّة والرِّسالة والأحمال الَّتي حمَّلنا عليك كأنَّه يقول قد خفَّفنا ذلك عليك ما لو لم يكُن تخفيفُنا إيَّاه عليك لأنقض ظهرَك أي أثقل> انتهى.

1

سُؤال: ما هي الآية أو الآيات الَّتي تناولها الإمام الماتُريديُّ بهذا الكلام؟

جواب: قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} وقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.

2

سُؤال: كم احتمال تحتمل هذه الآيات في تفسيرها؟

جواب: تحتمل وجهَين اثنَين ذكرهُما الإمام الماتُريديُّ.

3

سُؤال: مَن الَّذي قال بالوجه الأوَّل منهُما؟

جواب: عامَّة أهل التَّأويل أي أكثرُ المُفسِّرين مِن الصَّحابة والسَّلف.

4

سُؤال: ماذا قال عامَّة أهل التَّأويل في هذه الآية؟

جواب: قالوا: <أثبتَ له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه> انتهى وقولُهُم: (أثبت) أي الله تعالى. وقولهُم: (له) أرادوا للنَّبيِّ عليه السَّلام.

5

سُؤال: ماذا أراد الماتُريديُّ بقوله: (الإثم) و(الوزر) و(الذَّنب)؟

جواب: أراد بقوله ذلك فيما نسبه إلى عامَّة أهل التَّأويل الذَّنب الحقيقيَّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه لأنَّه مُمكن وُقوع الأنبياء فيه عند الجُمهور.

6

سُؤال: ما الدَّليل على أنَّ الماتُريديَّ أراد بذلك الحقيقة لا المجاز؟

جواب: لو كان الماتُريديُّ يُريد المجاز لَمَا فسَّر الوزر عندهُم بالإثم بل كان فسَّره بالحِمل والثِّقَل -كما هُو عنده-؛ فكلامُه صريح في الدِّلالة أنَّه نسب إليهم إثبات الذَّنب الحقيقيِّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه.

7

سُؤال: هل فَهِمَ أهل الفتنة هذا المعنَى الَّذي بيَّنتَه؟

جواب: نعم ولذلك اتَّهموا (عامَّة أهل التَّأويل) بالجهل والفتوَى بغير علم أوَّل الأمر؛ وكان أهل الفتنة يجهلون أنَّ المعنَى أكثر المُفسِّرين مِن الصَّحابة والسَّلف فعلَّمناهُم ذلك.

8

سُؤال: ما الدَّليل أنَّ كلمة (عامَّة) تأتي بمعنَى أكثر؟

جواب: جاء في الحديث: <استنزهوا مِن البَول فإنَّ عامَّة عذاب القبر منه> رواه الدَّارقطنيُّ وفي رواية <أكثر عذاب القبر مِن البَول> رواه الحاكم، والرِّوايتانِ معناهُما واحد؛ فدلَّ أنَّ (عامَّة) تعنِي (أكثر).

9

سُؤال: ما الدَّليل أنَّ عامَّة أهل التَّأويل تعني أكثر مُفسِّري الصَّحابة والسَّلف؟

جواب: لأنَّ الماتُريديَّ قال في موضع آخَرَ مِن تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحو ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ..

10

سُؤال: هل لديك دليل آخَر أنَّ عامَّة أهل التَّأويل أرادوا الذَّنب الحقيقيَّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه؟

جواب: قول الماتُريديِّ بعد أنْ نقل قولهُم: <ولكن هذا وَحِش مِن القَول> يُثبت أنَّه نسب إليهم إثبات الذَّنب الحقيقيِّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه، ولو أرادوا المجازيَّ لَمَا خالفهُم ولَمَا وجد قولهُم مُوحشًا.

ويزيد كلامَنا تأكيدًا أنَّ الماتريديَّ يقول في تفسيره: <وَذَنْبُهُمْ تَرْكُ الأَفْضَلِ> انتهى فلو كان ينسب لعامَّة أهل التَّأويل مثل قول نفسه لَمَا صرَّح بمُخالفتهم. وهذه الدَّلائل القويَّة أخرست أهل الفتنة فلم يستطيعوا الجواب عليها مع أنَّهُم حاولوا مرَّات فغيَّروا في كلامهم وبدَّلوا فأعياهُم الأمر وازدادوا سُقوطًا وانطبق عليهمُ المَثَل العربيُّ: (ضلَّ الدُّرَيْص نَفَقَه) أي جُحْره.

انتهى.

Jun 8, 2021, 9:46 PM