عِقد الدُّرَر في عصمة خير البَشَر – القصيدة المئويَّة في العصمة النَّبويَّة

عِقد الدُّرَر في عصمة خير البَشَر

صلوات الله عليهم وسلامُه

القصيدة المئويَّة في العصمة النَّبويَّة عند أهل السُّنَّة والجماعة

بسم الله الرَّحمَن الرَّحيم

استهلال:

1. اَلْحَمْدُ لِلْمَوْلَى تَعَالَى اللهُ ~ بِالذُّلِّ إِنَّا يَا أَخِي جِئْنَاهُ

2. سُبْحَانَ رَبِّي وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدْ ~ لَا يُشْبِهُ الرَّحْمَنُ رَبِّي مِنْ أَحَدْ

3. فَلَيْسَ يَحْتَاجُ لِعَرْشٍ أَوْ مَكَانْ ~ رَبِّي وَلَا يَجْرِي عَلَى اللهِ زَمَانْ

4. أَرْسَلَ رُسْلَهُ وَقَدْ رَفَعَهُمْ ~ مِنْ أَكْثَرِ الذُّنُوبِ قَدْ عَصَمَهُمْ

5. ثُمَّ صَلَاةُ اللهِ ذِي الْجَلَالِ ~ عَلَى النَّبِيِّ صَاحِبِ الْمَعَالِي

6. مُحَمَّدٍ لَهُ الْعُلَى وَالْكَوْثَرُ ~ مَا عَابَهُ إِلَّا الْجَهُولُ الْأَبْتَرُ

7. عَلَيْهِ صَلُّوا سَادَتِي وَسَلِّمُوا ~ فَإِنَّهُ طَهَ النَّبِيُّ الْأَعْظَمُ

[شرح]: العصمة في اللُّغة: المنع؛ والحفظ والوقاية، يُقال: (عصم الله عبده ممَّا يُوبقه) أي منعه ووقاه، وفي الاصطلاح: مَلَكَة اجتناب المعاصي مع القُدرة عليها. والجلال: العَظَمَة. المعالي: جمع مَعْلاة وهي كسب الشَّرف. الكوثر: نهر في الجنَّة أُعطِيَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. الأبتر: الخاسر.

اعلم أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام تجب لهُمُ العصمة مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة والدَّناءة قبل النُّبُوَّة وبعدها. أمَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها: (1) فقد منع جوازها عليهمُ الأقلُّ مِن العُلماء المُتقدِّمين، (2) وقال جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بجوازها علَى الأنبياء سهوًا وعمدًا قبل الوحي أو بعده ولكنَّهُم يُنبَّهون فَوْرًا للتَّوْبة قبل أنْ يقتديَ بهم فيها غيرُهُم.

قال الزَّبيديُّ في [تاج العروس]: <وقال المَناويُّ: العصمة: مَلَكَة اجتناب المعاصي مع التَّمكُّن منها> انتهى.

قال القاضي عياض فِي [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> إلخ..

قال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.

باب في صفات الأنبياء:

8. وَبَعْدُ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَذْكِيَا ~ وَصَادِقُونَ أَتْقِيَاءُ أَنْقِيَا

9. هُمْ أُمَنَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ خَائِنُ ~ وَلَا سَفِيهٌ أَوْ رَذِيلٌ مَاجِنُ

10. مَا فِيهِمُ غُمْرٌ وَلَا عَنِيدُ ~ وَلَا غَبِيٌّ ذِهْنُهُ بَلِيدُ

11. سَبْقُ اللِّسَانِ عَنْهُمُ مُحَالُ ~ كَذَا الْجُنُونُ؛ الْعُلَمَاءُ قَالُوا

12. عُقُولُهُمْ طَاهِرَةُ التَّفْكِيرِ ~ وَالسِّحْرُ فِيهَا لَيْسَ ذَا تَأْثِيرِ

[شرح]: الرَّذيل: الدُّون مِن النَّاس. الماجن: الَّذي يرتكب المقابح المُرديَة والفضائح المُخزيَة. الغُمْر: الجاهلُ الغِرُّ وفي [تاج العروس]: <(ويُثلَّثُ ويُحرَّكُ)> انتهى.

اعلم أنَّ سبق اللِّسان هُو أنْ يصدُر مِن المرء كلام غيرُ الَّذي أراد قوله فهذا لا يحصُل مِن نبيٍّ بالمرَّة لا في الشَّرعيَّات ولا في العاديَّات وإلَّا لزالت الثِّقة في كلام الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم. ويستحيل أنْ يُؤثِّر السِّحر في فكر الأنبياء وقُلوبهم وعُقولهم فما في الكُتُب ممَّا يُخالف هذا لا عبرة به؛ غاية ما قد يُؤثِّر السِّحر في الأنبياء عليهمُ السَّلام أَلَمًا في أجسادهم وتخييلًا علَى أنظارهم كما قال تعالَى في حقِّ مُوسَى عليه السَّلام: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} فهذا جائز في حقِّ الأنبياء عليهمُ السَّلام ولا يُنافي مقام النُّبُوَّة.

قال الشَّيخ عبدُالله الهرريُّ الحبشيُّ في [مُختصره]: <يجب اعتقاد أنَّ كُلَّ نبيٍّ مِن أنبياء الله يجب أنْ يكون مُتَّصفًا بالصِّدق والأمانة والفطانة فيستحيل عليهمُ الكذب والخيانة والرَّذالة والسَّفاهة والبلادة> انتهى.

قال الإمام أبو سليمان الخطَّابيُّ في [أعلام الحديث]: <ودفع آخَرون مِن أهل الكلام هذا الحديث، وقالوا: لو جاز أنْ يُعمَل في نبيِّ الله السِّحر أو يكونَ له تأثير فيه؛ لم يُؤمَن أنْ يُؤَثِّرَ ذلك فيما يُوحَى إليه مِن أُمور الدِّين والشَّريعة ويكون في ذلك ضلال الأُمَّة> إلخ..

باب في براءة إبراهيم عليه السَّلام مِن الكذب:

13. لِلْأَنْبِيَاءِ شُدَّتِ الرَّكَائِبُ ~ مَا فِيهِمُ يَا صَاحِ قَطُّ كَاذِبُ

14. وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: (هَذِي أُخْتِي) ~ تَوْرِيَةٌ.. حُفِظْتَ مِنْ ذِي سُحْتِ

15. (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) مَجَازُ ~ لِسَبَبٍ غَايَتُهُ الْإِيجَازُ

16. (إِنِّي سَقِيمٌ) عِنْدَنَا مَعْنَاهُ ~ أَكْرَهُ أَنْ قَدْ كَفَرُوا أَوْ تَاهُوا

17. وَلَفْظُ كِذْبٍ فِيهِمُ إِذَا وَرَدْ ~ فَأَوِّلَنْ ظَاهِرَهُ تَلْقَ الرَّشَدْ

[شرح]: الرَّكائب: جمع رِكاب وهي الإبل. والتَّورية في اللُّغة: السَّتر؛ وفي الاصطلاح: إيراد لفظ له معنيانِ معنًى قريب ظاهر غير مقصود ومعنًى بعيد خفيٌّ وهُو المقصود. والسُّحت: الحرام. المجاز: -اصطلاحًا- هُو صرف اللَّفظ عن معناه الظَّاهر إلَى معنًى مرجوح بقرينة أي بدليل. الإيجاز: الاختصار.

اعلم أنَّ قول إبراهيم عليه السَّلام عن زوجته سارة: (هذه أُختي) أي في الدِّين، وأنَّ قوله عليه السَّلام: (فعله كبيرُهُم) معناه إنَّ تعظيمكُم لهذا الصَّنم بغير حقٍّ كان سببًا لتكسيري سائر الأصنام فنُسب الفعل إلَى الصَّنم مجازًا، وأنَّ قوله عليه السَّلام: (إنِّي سقيم) معناه أي سأسقَم ومَن عاش يسقَم ولا بُدَّ يهرم ويموت؛ وقيل إنَّ معناه أنِّي مثل السَّقيم في التَّخلُّف عن الخُروج أو في التَّألُّم مِن كُفرهم وهذا هُو المعنَى الَّذي اختاره النَّاظم. وأمَّا الأثر الَّذي فيه: <لم يكذب إبراهيم قطُّ إلَّا ثلاث كذبات> إلخ.. فمعناه ثلاث كلمات يُشبهن الكذب ظاهرًا ولكنَّها صدق في الحقيقة وإنَّما استُعير ذكر الكذب لأنَّه بصورة الكذب فسمَّاه كذبًا مِن باب المجاز؛ وبعض العُلماء ردَّ هذا الحديث ولم يقبل بأنَّه صحيح إلَى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

قال الرَّازيُّ في [تفسيره]: <واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روَى عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: “ما كذب إبراهيم عليه السَّلام إلَّا ثلاث كذبات” فقلتُ الأَوْلى أنْ لا نقبل مثل هذه الأخبار فقال علَى طريق الاستنكار: “فإنْ لم نقبله لزمنا تكذيب الرُّواة” فقلت له: يا مسكين إنْ قبلناه لزمنا الحُكم بتكذيب إبراهيم عليه السَّلام وإنْ رددناه لزمنا الحُكم بتكذيب الرُّواة ولا شكَّ أنَّ صَون إبراهيم عليه السَّلام عن الكذب أَوْلى مِن صون طائفة مِن المجاهيل عن الكذب> انتهى.

قال البيضاويُّ في تفسيره: <وما رُوي أنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام كذب ثلاث كذبات فالمُراد التَّعريض، ولكن لَمَّا شابه الكذب في صُورته سُمِّيَ به> انتهى.

وقال ابن عاشور في [التَّحرير والتَّنوير]: <فورد عليه إشكال مِن نسبة الكذب إلَى نبيٍّ، ودفعُ الإشكال: أنَّ تسمية هذا الكلام كذبًا منظور فيه إلَى ما يُفهِمُه أو يعطيه ظاهرُ الكلام، وما هُو بالكذب الصُّراح، بل هُو من المعاريض، أي أنِّي مثل السَّقيم في التَّخلُّف عن الخُروج، أو في التَّألُّم مِن كُفرهم، وأنَّ قولَه: (هي أُختي) أراد أُخُوَّةَ الإيمان، وأنَّه أراد التَّهكُّم في قوله: {بلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} لظُهور قرينة أنَّ مُراده التَّغليط> انتهى.

باب في عصمة الأنبياء عن الأمراض المُنفِّرة:

18. وَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ فِي الْمُعْتَبَرِ ~ أَنْ عُصِمُوا عَنْ مَرَضٍ مُنَفِّرِ

19. فَلَيْسَ لِلْمُعْرِضِ عَنْهُمْ حُجَّةُ ~ وَلَا لِمَنْ ءَاذَى النَّبِيَّ فُرْجَةُ

20. فَلَا يَصِحُّ مَا افْتَرَتْهُ الْكُتُبُ ~ عَنْ دَاءِ أَيُّوبٍ وَأَيْنَ الْأَدَبُ

21. لَكِنَّهُ قَدْ كَانَ حَقًّا صَابِرَا ~ لِنِعَمِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ شَاكِرَا

22. فَقُلْ بِقَوْلِ الشَّرْعِ دَوْمًا وَانْصَحِ ~ وَكُنْ عَلَى ذُكْرٍ لِهَذَا تَرْبَحِ

[شرح]: قولُه (في المُعتبر) يُريد في الأقوال المُعتبرة عند أهل السُّنَّة والجماعة. المرض المُنفِّر: أي ما تنفُر منه طباع النَّاس فيأنفون أنْ يقربوه. قوله: (للمُعرِض عنهُم) يُريد لمَن كفر برسالاتهم. الحُجَّة: الدَّليل والبُرهان. الفُرجة: الرَّاحة؛ ويُقال: ما لهذا الغمِّ مِن فَرْجَةٍ وَلَا فُرْجَةٍ وَلَا فِرْجَةٍ. ويُقال: ما زال منِّي علَى ذُكْر أي لم أنسه.

اعلم أنَّ ما ينسبُه بعض النَّاس إلَى سيِّدنا أيُّوب مِن أنَّه ابُتلي في جسمه بأمراض مُنفِّرة لا صحَّة له ومِن هذه الأخبار الكاذبة الَّتي لا وُجود لها في الرِّوايات الصَّحيحة في بلاء أيُّوب أنَّه أُصيب بمرض الجُذام الخبيث فصار الدُّود يتناثر مِن جسده ويقول لها: كُلي مِن رزقك يا مُباركة.. إلَى آخر ما يذكُره أهل القَصص وهي لا تجوز في حقِّ الأنبياء عليهمُ السَّلام بل تستحيل عليهم وذلك للعصمة الَّتي عصمهُمُ الله بها. مرض أيُّوب عليه السَّلام كان غير مُنفِّر واستمرَّ ثمانية عشَر عامًا فالأنبياء عليهمُ السَّلام -لتمكُّنهم في الصَّبر وبلوغهم في ذلك إلَى ما لم يبلُغه غيرُهُم- جعل الله في الدُّنيا حظَّهُم مِن البلاء أكثرَ ليقتدي بهم أتباعُهُم المُؤمنون.

باب في عصمة الأنبياء مِن الكُفر والكبائر:

23. وَالْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا ~ فِي عِصْمَةِ الرُّسْلِ الْكِرَامِ فَاسْمَعُوا

24. عَنْ كُلِّ كُفْرٍ وَكَبِيرِ إِثْمِ ~ فَاعْلَمْ إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ ذَا عِلْمِ

25. لَمْ يَكْفُرِ الْخَلِيلُ بَعْدَ قُرْبِ ~ لَمَّا هُنَاكَ قَالَ (هَذَا رَبِّي!)

26. وَحِينَ بِالتَّقْرِيعِ قَدْ خَاطَبَهُمْ ~ (مَا تَعْبُدُونَ) بَلْ أَرَادَ رَدَّهُمْ

27. فَإِنَّهُ سَأَلَهُمْ مُسْتَنْكِرَا ~ إِجْرَامَهُمْ ولَمْ يَسَلْ مُقَرِّرَا

28. يَا وَيْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ سَأَلْ ~ لِيَكْفُرُوا بِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلْ

29. وَيُوسُفٌ مَا هَمَّ بِالْكَبِيرَةْ ~ فِيمَا أَتَى فِي الْقِصَّةِ الشَّهِيرَةْ

30. هَمَّ بِدَفْعِهَا وَذِي فَضِيلَةْ ~ لِعِصْمَةٍ فِيهِ عَنِ الرَّذِيلَةْ

31. حَاشَا يَهُمُّ بِالزِّنَا وَهْوَ النَّبِي ~ اِبْنُ النَّبِيِّ ابْنِ النَّبِيِّ ابْنِ النَّبِي

32. قَدْ ظَلَمُوا يُوسُفَ لَمَّا اتَّهَمُوا ~ وَأَخْطَأُوا بِحَقِّهِ وَأَجْرَمُوا

[شرح]: الخليل: نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام وفي [لسان العرب]: <قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الَّذِي سَمِعْتُ فِيهِ أَنَّ مَعْنَى الْخَلِيلِ الَّذِي أَصْفَى الْمَوَدَّةَ وَأَصَحَّهَا، قَالَ: وَلَا أَزِيدُ فِيهَا شَيْئًا لِأَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ> إلخ.. التَّقريع: التَّأنيب والتَّعنيف. الرذيلة: ضدُّ الفضيلة.

اعلم أنَّ إبراهيم عليه السَّلام عندما وجد قَومَه يعبُدون الشَّمس والقمر والكواكب أنكر ذلك عليهم فقال لمَّا رأَى الكوكب: (هذا ربِّي!) أي أَهذَا الَّذي تعتقدون أنَّه ربِّي! يُنكر كلامهُم ويقول إنَّ قَولَكُم مُنكر فهذا ليس بالمكانة الَّتي تجعلُه ربًّا؛ ويُؤيِّد هذا أنَّه كان يعلم أنَّه يغيب فانتظر حتَّى غاب فقال: (لا أُحِبُّ الآفِلِين) أي ليس هذا بربٍّ لأنَّ حُدوث الصِّفات فيه يدُلُّ علَى كونه حادثًا مخلوقًا وأمَّا الرَّبُّ تعالَى فهُو الخالق وليس مخلوقًا فلمَّا كانت هذه صفتُه فأنا لا أُحبُّ عبادته ولا أرضَى بها وليس المعنَى أنَّه يكره عين الشَّمس وعين القمر. وقولُ الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} همَّت زَليخَا بالمعصية، وهمَّ يُوسُف عليه السَّلام بضربها ودفعها عن نفسه، والبُرهان كفُّه عن الضَّرب إذ لو ضربها لتوهَّموا أنَّه أراد المعصية فلم يدفعها بل استدبرها واستقبل الباب.

باب في فصاحة الأنبياء:

33. والْأَنْبِيَاءُ بُلَغَاءٌ فُصَحَا ~ إِنْ نَطَقُوا كَانَ الْكَلَامُ مُوضِحَا

34. فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْنِهِمْ تَأْتَاءُ ~ كَلَّا وَلَا ذُو لُثْغَةٍ فَأْفَاءُ

35. وَكَانَ مُوسَى مِثْلَهُمْ إِذَا نَطَقْ ~ إِنْ قَالَ جَا الْكَلَامُ مُفْهِمًا بِحَقّْ

36. وَعُقْدَةٌ كَانَتْ عَلَى لِسَانِهِ ~ لَكِنْ بِلَا عَيْبٍ عَلَى بَيَانِهِ

[شرح]: التَّأتاء: الرَّجُل يتردَّد في لفظ حرف التَّاء إذَا تكلَّم به. واللُّثغة: أنْ تعدِل الحرف إلَى غيره وهذا يكون في الألثغ وهُو الَّذي لا يُبيِّن الكلام؛ وقيل: هُو الَّذي قَصُرَ لسانُه عن موضع الحرف ولَحِقَ موضع أقرب الحروف مِن الحرف الَّذي يعثُر لسانُه عنه. والفأفأة: حُبسة في اللِّسان وغلبة الفاء علَى الكلام؛ ورجٌل فأفاء وفأفأٌ.

اعلم أنَّ نبيَّ الله مُوسَى عليه السَّلام قد تأثَّر لسانُه بالجمرة الَّتي تناولها ووضعها في فمه حين كان طفلًا أمام فرعون لحكمة، لكنَّها لم تُؤثِّر في لسانه أنْ يكون كلامُه غيرَ مُفهِم للنَّاس إنَّما كانت عُقدة خفيفة وكان كلامُه مُفهِمًا لا يُبدِّل حرفًا بحرف بل يتكلَّم علَى الصَّواب لكن كان فيه عُقدة خفيفة أي بُطء مِن أثر تلك الجمرة ثُمَّ دعَا اللهَ تعالَى لمَّا نزَل عليه الوحيُ قال: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) فأذهبها الله عنه.

باب في براءة عيسَى عليه السَّلام:

37. لَمْ يَدَّعِ الْمَسِيحُ أَنَّهُ الْإِلَهْ ~ أَوِ ابْنُهُ وَإِنَّمَا اللهُ اجْتَبَاهْ

38. فَقَالَ إِنَّ رَبِّيَ التَّوَّابَا ~ مِنْ فَضْلِهِ آتَانِيَ الْكِتَابَا

39. فِي الْمَهْدِ خَبَّرْتُ الْوَرَى صَبِيَّا ~ بِأَنَّهُ جَعَلَنِي نَبِيَّا

40. مُبَارَكًا أُمِرْتُ بِالصَّلَاةِ ~ وَبِرِّ أُمِّي ثُمَّ بِالزَّكَاةِ

[شرح]: اجتباه: اصطفاه للنُّبُوَّة. المهد: مهد الصَّبيِّ أي موضعُه الَّذي يُهيَّأ له الطَّعام ويُوَطَّأ لينام فيه. والورَى: الخَلْق.

باب في براءة الأنبياء مِن السِّحر:

41. وَالْأَنْبِيَا لَا يَعْمَلُونَ السِّحْرَا ~ فَإِنَّهُمْ خَيْرُ الْأَنَامِ طُهْرَا

42. بِالْمُعْجِزَاتِ نُصِرُوا عَلَى الْعِدَى ~ وَنَشَرُوا الدِّينَ الصَّحِيحَ وَالْهُدَى

43. مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ الَّذِي قَدْ ظَلَمُوا ~ بِالسِّحْرِ لَمَّا الْخَائِنُونَ اتَّهَمُوا

44. فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ مُبَرَّأُ ~ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالسِّحْرِ هَذَا خَطَأُ

[شرح]: قوله: (خير الأنام طُهرًا) معناه أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام أبعد النَّاس عن دنسٍ في الأخلاق. المُعجِزات جمع مُعجِزة وهي فعل خارق للعادة صالح للتَّحدِّي سالم مِن المُعارضة بالمِثل مُوافق لأصل الدَّعوة يقع علَى يد مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّة فتكون دليلًا علَى صدقه.

باب في شجاعة الأنبياء وكرمهم:

45. وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ شُجْعَانُ ~ وَكُرَمَاءُ فِيهِمُ الْعِرْفَانُ

46. فَلَا تَجِدْ فِيهِمْ جَبَانًا أَبَدَا ~ فِي النَّاسِ لَا يَخْشَوْنَ يَوْمًا أَحَدَا

47. أَشْجَعُهُمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدُ ~ لَهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى الْمَدَدُ

48. وَهَاجَرَ الْحَبِيبُ غَيْرَ خَائِفِ ~ وَطَاعَةً للهِ لَمْ يُخَالِفِ

[شرح]: العِرفان: العِلْم. المَدَد: ما مدَّ الله تعالَى به نبيَّه المُصطفَى صلوات الله عليه وسلامُه مِن أسباب النَّصر.

باب في أمانة نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام وطُهره وعفَّته ورصانته:

49. وَاشْتَهَرَ الْحَبِيبُ بِالْأَمَانَةْ ~ وَالطُّهْرِ وَالْعَفَافِ وَالرَّصَانَةْ

50. أَعْدَاؤُهُ بِذَالِكُمْ قَدْ شَهِدُوا ~ وَقَدْ رَوَوْا آثَارَهُ وَعَدَّدُوا

[شرح]: الأمانة: ضدُّ الخيانة. الطُّهر: نقيض النَّجاسة ويكون في الثَّوب وفي الخُلُق. العفاف: الكَفُّ عمَّا لا يحِلُّ ويجمُل. الرَّصانة: مِن رَصُنَ الشَّيء إذَا ثبت.

باب في أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام لم يكُن مُعلَّق القلب بالنِّساء

51. وَبِالنِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقَا ~ يَعْرِفُ ذَا كُلُّ خَبِيرٍ حَقَّقَا

52. لِحِكْمَةٍ قَدْ عَدَّدَ الزِّوَاجَا ~ لَا لِيَزِيدَ عَيْشُهُ ابْتِهَاجَا

53. دَلِيلُ ذَا عَائِشَةٌ تَقُولُ ~ فِي اللَّيْلِ كَانَ سَيِّدِي الرَّسُولُ

54. يَتْرُكُهَا ثُمَّ يَزُورُ قَبْرَا ~ وَغَيْرَهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرَا

[شرح]: قولُه: (وبالنِّساء لم يكُن مُعلَّقًا) أي لم يكُن مُتعلِّق القلب بهنَّ. البِكْر: العذراء.

باب في براءة داود عليه السَّلام:

55. وَاذْكُرْ هُنَا دَاوُدَ ذَا الْأَوَّابُ ~ بَرِّئْهُ مِمَّا يَفْتَرِي الْكَذَّابُ

56. دَاوُدُ لَمْ يَخُنْ غِيَابَ أُورِيَا ~ فَذَا يُخِلُّ بِمَقَامِ الْأَنْبِيَا

57. وَلَيْسَ يُولَدُ النَّبِيُّ مِنْ زِنَا ~ قَدِ افْتَرَى الْبُهْتَانَ عِلْجٌ فُتِنَا

58. فَاحْذَرْ سُمُومَ الْقِصَّةِ الْمَكْذُوبَةْ ~ وَعِنْدَ إِبْلِيسٍ هِيَ الْمَطْلُوبَةْ

[شرح]: الأوَّابُ: المُطيع. أُورِيَا: اسم واحد مِن قادة جُند داود عليه السَّلام. البُهتان: الافتراء. العلج: الرَّجُل مِن كُفَّار العَجَم.

وفي القصَّة المكذوبة أنَّ داود عليه السَّلام وقع في حُبِّ زوجة (أُورِيَا) فأرسله ليُقتل في الحرب ليتزوَّج منها؛ وبعضُهُم يزيد فيزعُم أنَّ النَّبيَّ داود عليه السَّلام زنَى بها وهذا ممَّا يستحيل في حقِّ الأنبياء عليهمُ السَّلام.

باب في بيان أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُخطئ في التَّشريع:

59. حَبِيبُنَا مُحَمَّدٌ إِذَا نَطَقْ ~ بَابَ الْفَسَادِ وَالضَّلَالَةِ انْغَلَقْ

60. نَبِيُّنَا لَا يُخْطِئُ التَّشْرِيعَا ~ فَلَا تَرُمْ فِي دِينِكَ التَّضْيِيعَا

61. يَا صَاحِبِي فَاحْذَرْ مِنَ الْفَسَادِ ~ فَتِلْكُمُ الدَّعْوَةُ لِلْإِلْحَادِ

[شرح]: التَّشريع: تبيين أحكام الدِّين. التَّضييع: التَّقصير بحقِّ الشَّيء. الإلحاد: لغةً: المَيل عن القصد؛ والمُراد في قول الشَّاعر: ما مُؤدَّاه الشَّكُّ في الله أو في النَّبيِّ أو في الإسلام.

اعلم أنَّ كلام الرَّسول مُصدَّق مِن الله تعالَى والتَّشريع قانون سماويٌّ فمَن زعم أنَّ الرَّسول يُخطئ في التَّشريع فكأنَّه قال برفع الثِّقة عن كلام الرَّسول وهذه دعوة إلَى الإلحاد والعياذ بالله تعالى. وإنَّ مِن أفحم ما يُجاب به الَّذين زعموا أنَّ نبيَّنا يُخطئ في التَّشريع هُو قول الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} ومِن أقوَى الأدلَّة في هذه المسألة حديث: <ما منكُم مِن أحد إلَّا ويُؤخَذ مِن قوله ويُترَك غيرَ رسول الله> أخرجه الطَّبرانيُّ في [الأوسط] وحسَّنه الحافظ زين الدِّين العراقيُّ في [تخريجه أحاديث الإحياء] وهذا صريح في أنَّ الرَّسول لا يُخطئ في اجتهاده كما يُخطئ أفرادُ الأُمَّة ويُستثنَى مِن ذلك إجماعُ الأُمَّة فإنَّه لا يكون خطأً لدليلٍ حديثيٍّ آخَرَ: <لا تجتمع أُمَّتي علَى ضلالة> رواه التِّرمذيُّ وغيرُه وقال ابن أمير الحاجِّ في كتابه [التَّقرير والتَّحبير]: <وقيل بامتناعه أي جواز الخطإ علَى اجتهاده نَقَلَه في [الكشف] وغيرِه عن أكثر العُلماء وقال الإمام الرَّازيُّ والصَّفِيُّ الهنديُّ إنَّه الحقُّ وجزم به الحلِيميُّ والبَيضاويُّ وذكر السُّبكيُّ أنَّه الصَّواب وأنَّ الشَّافعيَّ نصَّ عليه في مواضع مِن [الأُمِّ] لأنَّه أَوْلَى بالعصمة عن الخطإ مِن الإجماع لأنَّ عصمته -أي الإجماع- عن الخطإ لنسبته إليه أي إلَى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وللُزوم جواز الأمر باتِّباع الخطإ لأنَّنا مأمورون باتِّباعه صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إلَى غير ذلك> انتهى فلا يجوز الالتفات إلَى القول بأنَّه يجوز علَى الرَّسول الخطأ في اجتهاده في أُمور الدِّين فهذه الأدلَّة تهدمُه؛ والقول بجواز الخطإ علَى الرَّسول في اجتهاده لم يقُل به مُجتهد وهُو ضدُّ الحديث فينبغي أنْ يُضرَب به عُرض الحائط. وأمَّا الخطأ في غير التَّشريع فجائز عليه فإنَّه في الأُمور الدُّنيويَّة مثل الَّذي ورد في تأبير النَّخل، واعلم أنَّه لا يجوز علَى الرَّسول الخطأ في إخباره بأنَّ كذا فيه شفاء فإنَّ تجويز الخطإ عليه في مثل ذلك فيه نسبة ما يَضُرُّ الأُمَّة إليه صلَّى الله عليه وسلَّم.

باب في بيان أنَّ النُّبُوَّة لا تصحُّ لإخوة يوسف:

62. وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ يُوسُفَا ~ إِخْوَتُهُ قَدْ ظَلَمُوا وَأَنْصَفَا

63. وَفَعَلُوا مَا يَنْقُضُ الْمُرُوَّةْ ~ فَلَا تَصِحُّ لَهُمُ النُّبُوَّةْ

64. لَكِنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ تَابُوا ~ وَرَبُّنَا سُبْحَانَهُ التَّوَّابُ

65. وَإِنَّمَا الْأَسْبَاطُ ذُرِّيَّتُهُمْ ~ جَاءَهُمُ الْوَحْيُ فَهُمْ عِتْرَتُهُمْ

[شرح]: أنصف: مِن الإنصاف وهُو ضدُّ الظُّلم. المُرُوَّة: تخفيف المُروءة وهي تعاطي المرء ما يُستحسَن وتجنُّبُ ما يُسترذَل وقيل: صيانة النَّفس عن الأدناس وما يَشين عند النَّاس. عترة الرَّجُل: أقرباؤُه مِن وَلَد وغيره.

اعلم أنَّه لا تصحُّ النُّبُوَّة لإخوة يوسف عليه السَّلام -وهُم مَن سوَى بِنيامين- لأنَّهُم كذَّبوا وفعلوا أفاعيل خسيسة ذكرها الله تعالَى في القُرآن الكريم لأنَّ الأنبياء معصومون مِن الكذب والخسائس مُطلَقًا؛ لكنَّهُم تابوا بعد ذلك. والأسباط هُم مَن نُبِّئَ مِن ذريَّة إخوة يوسف عليه السَّلام.

باب في عصمة الأنبياء مِن الخسائس:

66. وَالْأَنْبِيَا جَمِيعُهُمْ قَدْ عُصِمُوا ~ عَنْ كُلِّ مَا يُزْرِي بِهِمْ فَلْتَفْهَمُوا

67. وَعَنْ دَنَاءَةٍ وَعَنْ خَسِيسَةْ ~ فَالْأَنْبِيَا أَنْفُسُهُمْ نَفِيسَةْ

[شرح]: الدَّنيء والخسيس: الرَّذيل. نفيسة: رفيعة أو مرفوعة.

اعلم أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون مِن كُلِّ ما يُزري بهم أي مِن كُلِّ ما يقدح في منصب النُّبُوَّة ومِن ذلك المعصية الَّتي فيها خسَّة ودناءة نفس ولو كانت صغيرة؛ فهُم معصومون منها بالإجماع قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ بخلاف الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة.

باب في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها:

68. وَفِي سِوَى ذَاكَ مِنَ الصَّغَائِرْ ~ قَوْلَانِ عِنْدَ السَّادَةِ الْأَكَابِرْ

69. فَالْعُلَمَا وَالْفُقَهَا وَالسَّلَفُ ~ اِنْقَسَمُوا فِي هَذِهِ وَاخْتَلَفُوا

70. وَالْأَكْثَرُونَ جَوَّزُوا الصَّغِيرَةْ ~ عَلَيهِمُ فَلَا تَكُنْ فِي حِيرَةْ

71. فَإِنْ تَقَعْ صَغِيرَةٌ فَنَادِرَا ~ مَا لَمْ تَكُنْ مُزْرِيَةً بَيْنَ الْوَرَى

72. وَقِيلَ لَا فَإِنَّهَا مَشْمُولَةْ ~ بِعِصْمَةٍ فِي حَقِّهِمْ مَنْقُولَةْ

73. قَوْلَانِ لَيْسَ فِيهِمَا ضَلَالُ ~ قَالَهُمَا الْأَئِمَّةُ الْأَبْطَالُ

74. فَكُلُّ مَنْ قَالَ بِهَذَا هَكَذَا ~ فَسَالِمٌ فِي دِينِهِ مِنَ الْأَذَى

75. وَإِنَّنِي مُفَصِّلُ الْوَجْهَيْنِ ~ مُحَذِّرٌ مِنْ غِشِّ أَهْلِ الْمَيْنِ

[شرح]: الغِشُّ: ضدُّ النَّصيحة. المَين: الكذب.

الصَّغائر غير المُزرية هي الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة أي لا تحطُّ مِن مراتب الأنبياء ولا تقدح في مناصبهم الرَّفيعة العليَّة. وقد اختلف عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في عصمة الأنبياء مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها فقال الجُمهور بجوازها ووُقوعها كما نصَّ علَى ذلك الكثير مِن العُلماء، وقال الأقلُّ مِن المُجتهدين إنَّهُم معصومون منها كعصمتهم مِن غيرها.

باب في بيان مذهب الجُمهور في العصمة مِن صغائر لا خسَّة فيها:

76. فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَالْأَعْلَامِ ~ نُجُومِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ

77. قَالُوا: فَنَادِرًا لَهُمْ ذُنُوبُ ~ صَغِيرَةٌ إِنْ أَذْنَبُوا يَتُوْبُوا

78. فَوْرًا لِأَنَّهُ بِهَا لَا يُقْتَدَى ~ فَلَا تَجِدْ لَهُمْ بِهَا مُقَلِّدَا

79. نَقَلَ ذَا الْقَاضِي عِيَاضُ الْيَحْصُبِيّْ ~ مُلَّا عَلِي وَالزَّرْكَشِي وَالنَّوَوِيّْ

80. فَمِنْهُمُ مُجْتَهِدٌ وَمِنْهُمُ ~ مُعْتَبَرٌ فِي نَقْلِهِ تَعَلَّمُوا

81. كَمَالِكٍ وَأَحْمَدٍ وَالْبَيْهَقِيّْ ~ وَالطَّبَرِي وَالثَّعْلَبِي وَالشَّافِعِيّْ

82. وَقَالَ ذَا إِمَامُنَا أَبُو الْحَسَنْ ~ شَيْخُ أُصُولِنَا وَبَحْرُ كُلِّ فَنْ

83. اَلْأَشْعَرِيْ وَبَعْدَهُ الْأَشَاعِرَةْ ~ أَبْطَالُ مَيْدَانِ الْعُلُومِ الْفَاخِرَةْ

[شرح]: الأعلام: السَّادة. الكلام -اصطلاحًا-: علم العقيدة. الفنُّ: العلم. الأشعريُّ: أبو الحَسَن عليُّ بن إسماعيل المُتوفَّى 324 للهجرة يصل نسبُه إلَى الصَّحابيِّ أبي مُوسَى الأشعريِّ رضي الله عنه؛ وهُو مِن كبار الأئمَّة المُجتهدين والمُجدِّدين الَّذين صانوا عقيدة المُسلمين وتبع طريقته في ذلك جماهير العُلماء علَى مرِّ العُصور حتَّى يومنا.

اعلم أنَّ جمعًا كبيرًا مِن العلماء قد نقلوا مذهبَ جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها علَى الأنبياء عليهمُ السَّلام منهُم الزَّركشيُّ في [البحر المُحيط فِي أُصول الفقه] وعليٌّ القاري في [شرح الشِّفا] والنَّوويُّ في [شرح مُسلم].

قال القاضي عياض فِي [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهى.

قال عضُد الدِّين الإيجيُّ الشَّافعيُّ فِي [المواقِف فِي عِلم الكلام]: <وأمَّا الصَّغائر عمدًا فجوَّزه الجُمهور إلَّا الجُبَّائيَّ> انتهى.

وقال ابن المُلقِّن فِي [التَّوضيح لشرح الجامع الصَّحيح]: <فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِمُ الكَبَائِرُ لِوُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ. وَتَجُوزُ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرُ> انتهى.

وقال الشَّريف الجُرجانيُّ فِي [شرح المواقف]: <(ومَن جوَّز الصَّغائر عمدًا فله زيادة فُسحة) في الجواب إذ يزداد له وجه آخَرُ وهُو أنْ يقول جاز أنْ يكون الصَّادر عنهُم صغيرة عمدًا لا كبيرة> انتهى.

وقال مُلَّا عليٌّ القاري فِي [شرح الشِّفا]: <وأمَّا الصَّغائر فتجوز عمدًا عند الجُمهور> انتهى.

وقال فِي [مرقاة المفاتيح]: <وأمَّا الصَّغائر فتجوز عمدًا عند الجُمهور> انتهى.

وقال فيه: <وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ حَتَّى فِي كُلِّ حَالَاتِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا تَفَكُّرٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِمْ أَوْ ظَنِّهِمْ ذَلِكَ عَنْهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى عِصْمَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ شَيْءٌ لَا يُتَأَسَّى بِهِ فِيهِ مِمَّا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ اهــ. وَالْجُمْهُورُ جَوَّزُوا وُقُوعَ الْكَبَائِرِ سَهْوًا وَالصَّغَائِرِ عَمْدًا، لَكِنِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمُ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ لَا يُنَافِي الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ> انتهى.

وفي حاشية الشِّهاب علَى تفسير البيضاويِّ والمُسمَّاة [عناية القاضي وكفاية الرَّاضي] للقاضي شهاب الدِّين الخفاجيِّ: <وأمَّا صُدور الصَّغائر فجوَّزه الجُمهور> انتهى.

وقال الحُسين بن مُحمَّد المَغرِبيُّ في [البدر التَّمام شرح بُلوغ المرام]: <وعن أنَس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (كُلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخاطئين التوَّابون) أخرجه التِّرمذيُّ وابن ماجَه وسندُه قويٌّ؛ الحديث فيه دلالة علَى أنَّ بني آدم كُلُّ واحد لا يخلو عن خطيئة، وظاهرُه وفي حقِّ الأنبياء عليهمُ السَّلام وقد ذهب إلَى هذا الجُمهور مِن العُلماء، فإنَّه يجوز وُقوع الخطيئة مِن النَّبيِّ وتكون صغيرةً في حقِّه مغفورة، ولا يجوز عليهمُ الكبائر ولا صغائر الخسَّة، وقد ورد في كتاب الله سُبحانه وتعالَى ما يدُلُّ علَى ذلك، وقد جاء عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ يحيَى بن زكريَّا مَا هَمَّ بخطيئة> انتهى.

باب في بيان مذهب عامَّة أهل التَّأويل مِن الصَّحابة والسَّلف:

84. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَا ~ فِي شَرْحِ قَوْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَا

85. اَلْوِزْرُ فِي التَّفْسِيرِ يَعْنِي الْإِثْمَا ~ فَافْهَمْ حُرُوفَهُمْ حُبِيتَ غُنْمَا

86. فِي كُتْبِهِمْ قَالُوا: وَإِنَّ خَبَرَهْ ~ أَثْبَتَهُ الرَّحْمَنُ ثُمَّ غَفَرَهْ

[شرح]: الغُنْم: الفوز بالشَّيء مِن غير مشقَّة.

اعلم أنَّ أكثر المُفسِّرين مِن الصَّحابة والسَّلف فسَّروا الذّنوب الَّتي أُضيفت للأنبياء بالوزر والإثم أي الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه وأنَّ الله غفره لنبيِّه.

قال الماتُريديُّ في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة]: <وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل علَى تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقولِه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يقولون: (أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه)> إلخ..

باب في بيان أنَّ الماتُريديَّ خالف أكثر المُفسِّرين وأنَّه خلاف لا يقتضي التَّبديع والتَّكفير:

87. وَالْمَاتُرِيدِي نَاقِلٌ مَذْهَبَهُمْ ~ لَكِنَّهُ فِي ذَاكَ قَدْ خَالَفَهُمْ

88. وَذَا الْخِلَافُ جَاءَنَا تَحْرِيرَا ~ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَا

[شرح]: قولُه: (جاءنا تحريرًا) أي جاءنا خطُّ الفتوَى به تحريرًا؛ وتحرير الكتابة: إقامة حُروفها وإصلاح السَّقَط.

اعلم أنَّ الماتُريديَّ بعد أنْ نقل قول أكثر مُفسِّري الصَّحابة والسَّلف في تفسير الوزر بالإثم لم يستأنس بمذهبهم فاختار خلافه وقال في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة] بعد أنْ نقل كلامهُم: <ولكنَّ هذا وحش مِن القَول؛ لكنَّا نقول إنَّ قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الوزر هُو الحِمل والثِّقَل كأنَّه يقول: قد خفَّفنا عليك مِن أمر النُّبُوَّة والرِّسالة والأحمال الَّتي حمَّلنا عليك كأنَّه يقول قد خفَّفنا ذلك عليك ما لو لم يكُن تخفيفُنا إيَّاه عليك لأنقض ظهرَك أي أثقل> انتهى.

واعلم أنَّ عامَّة أهل التَّأويل عند الماتُريديِّ هُم المُفسِّرون مِن الصَّحابة والسَّلف وليس الضَّالِّين الَّذين لا يعرفون قواعد العلم كما افترَى الجَهَلَة المُتصولحة بدليل قول الماتُريديِّ في موضع آخَرَ مِن تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحوُ ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ..

وتفسيرُ عامَّة أهل التَّأويل للوزر بالإثم صريح في أنَّهُم أرادوا الذَّنب الحقيقيَّ أي الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه؛ ومذهب الماتُريديِّ أنَّ ذُنوب الأنبياء مجازيَّة فلو كان مُرادُهُم الذَّنب المجازيَّ لَمَا كرهَه الماتُريديُّ ولَمَا قال: (لكنَّه وحش مِن القول) أي وجده مُوحشًا ولم يستأنس به.

باب في مذهب الأقلِّ مِن العُلماء في العصمة مِن صغائر لا خسَّة فيها:

89. كَقَوْلِ بَعْضُ الْعُلَمَا: لَمْ يُذْنِبُوا ~ بَلْ لِعَلِيِّ قَدْرِهِمْ قَدْ عُوْتِبُوا

90. فَلَفْظُ ذَنْبٍ عِنْدَهُمْ تَشْبِيهُ ~ رَأْيٌ رَآهُ ثِقَةٌ فَقِيهُ

91. وَإِنَّمَا ذُنُوبُهُمْ مُؤَوَّلَةْ ~ بِتَرْكِ أَوْلَى ذَا خِتَامُ الْمَسْأَلَةْ

92. قَالَ بِهَذَا الْمَاتُرِيدِي الْمُنْتَصِرْ ~ وَهْوَ إِمَامٌ فِي الْأُصُولِ مُشْتَهِرْ

93. وَمِثْلُهُ قَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِي ~ وَالتَّاجُ بَعْدُ كَأَبِيهِ يَحْكِي

[شرح]: ذهب بعض عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة إلَى أنَّ لفظ الذَّنب والوزر الوارد في النَّصِّ الشَّرعيِّ مُضافًا إلَى الأنبياء عليهمُ السَّلام هُو تشبيه بالذَّنب وليس ذنبًا علَى الحقيقة فعندهُم عصمة الأنبياء شاملة حتَّى للصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها. والماتُريديُّ هُو أبو منصور مِن كبار الأئمَّة. والتُّقيُّ السُّبكيُّ هُو تقيُّ الدِّين عليُّ بن عبدالكافي والتَّاج هُو ابنُه تاج الدِّين عبدالوهَّاب بن عليِّ بن عبدالكافي.

باب في اختلاف العُلماء فيما جاء في نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام وكيف ردَّ الجُمهور علَى مَن كفَّر بالصَّغيرة وعلَى مَن زعم أنَّ الله لا يُعذِّب علَى الصَّغيرة مُطلَقًا:

94. وَاخْتَلَفُوا هَلْ جَاءَ فِي نَبِيِّنَا ~ ذَنْبٌ حَقِيقَةً؛ وَبَعْضٌ بَيَّنَا

95. فَقِيلَ (ذَنْبٌ) كَالَّذِي فِي الْخَبَرِ ~ تَفْسِيرُهُ: صَغِيرَةٌ (فَاسْتَغْفِرِ)

96. فَعِنْدَهُمْ ذَا حُجَّةٌ خَطِيرَةْ ~ فِي رَدِّ مَنْ كَفَّرَ بِالصَّغِيرَةْ

97. رَدٌّ كَذَا لِمَا افْتَرَى الْمُعْتَزِلَةْ ~ مَنِ افْتَرَى أَحَقُّ أَنْ تَعْتَزِلَهْ

98. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوِّلِ ~ إِذَا أُضِيفَ لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ

99. (ذَنْبٌ) فَذَاكَ مِثْلُ تَرْكِ الْأَفْضَلِ ~ وَلَيْسَ إِثْمًا عِنْدَنَا إِنْ تَسْأَلِ

100. قَوْلَانِ قَدْ قَالَهُمَا أَهْلُ الرَّشَدْ ~ شَرْحًا لِنَصٍّ فِي نَبِيِّنَا وَرَدْ

[شرح]: الخطير مِن كُلِّ شيء: النَّبيل.

جاء في حقِّ نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام آيات فيها: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} و{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} و{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} واختلف العُلماء هل الذَّنب والوزر فيها علَى الحقيقة أم علَى المجاز.

وانقسم المُعتزلة إلَى فريقَين في المعصية الصَّغيرة فقال فريق منهُم وافقوا الخوارج: (إنَّ مَن ارتكب الصَّغيرة كافر) وقال فريق آخَرُ منهُم: (إنَّ اللهَ لا يُعذِّب علَى الصَّغائر مُطلَقًا)، فردَّ الإمام أحمدُ بن حنبل رضي الله عنه علَى الفريق الأوَّل مِن المُعتزلة فقال: <وَأَمَّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجَوزيِّ فِي [مناقب أحمد] ومثلُه فِي [طبقات الحنابلة]، وردَّ الإمام الماتُريديُّ علَى الفريق الثَّاني مِن المُعتزلة فقال في تفسيره: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى. فدلَّ كلام الإمام أحمد أنَّ ما جاء في حقِّ آدم عليه السَّلام ذنب صغير حقيقيٌّ لأنَّ المُعتزلة الَّذين كفَّروا بالذَّنب كفَّروا بالحقيقيِّ لا بالمجازيِّ؛ وجاء كلام الإمام الماتُريديِّ في هذا المَوضع علَى مذهب الجُمهور في تفسير قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} فلو لم يكُنِ الذَّنب الوارد في الآية محمولًا علَى الذَّنب الصَّغير الحقيقيِّ لَمَا كان في كلامه ردٌّ علَى المُعتزلة الَّذين زعموا أنَّ الصَّغائر لا عذاب عليها مُطلَقًا.

قال ابن عطيَّة فِي [المُحرَّر الوجيز]: <وأجمع العُلماء علَى عصمة الأنبياء عليهم السَّلام مِن الكبائر والصَّغائر الَّتي هي رذائل. وجوَّز بعضُهُمُ الصَّغائر الَّتي ليست برذائل واختلفوا هل وقع ذلك مِن مُحمَّد عليه السَّلام أو لم يقع> انتهَى وقال: <قال الثَّعلبيُّ: الإماميَّة لا تُجوِّز الصَّغائر علَى النَّبيِّ ولا علَى الإمام والآية ترُدُّ عليهم> انتهى.

وقال سيف الدِّين الآمديُّ الحنبليُّ ثُمَّ الشَّافعيُّ الأشعريُّ في [أبكار الأفكار]: <آدمُ عليه السَّلام عصَى وارتكب الذَّنب> انتهَى وقال: <قولُه تعالَى مُخاطِبًا لمُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وهُو صريح في أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم له ذنوب> انتهَى فلو كان مُجرَّد قول: (آدم عصَى) كُفرًا -كما افترَى أهل الفتنة- لصار الآمديُّ وما لا يُحصَى مِن العُلماء كُفَّارًا فبئس أهل الفتنة؛ واعلم أنَّ كلام الآمديِّ في تفسير {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مُوافق لقول الجُمهور.

باب في الرَّدِّ علَى أهل الفتنة الَّذين ضلَّلوا جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها علَى الأنبياء:

101. ثُمَّ انْبَرَى ذُوُو الْوُجُوهِ الْعَابِسَةْ ~ أَجْلَافُ أَهْلِ الْفِتْنَةِ الْأَبَالِسَةْ

102. بِالْغَيِّ قَدْ تَكَلَّمُوا وَصَرَّحُوا ~ وَكُلُّهُمْ جَهَلَةٌ تَصَوْلَحُوا

103. فَكَفَّرُوا الْأَعْلَامَ وَالْأَئِمَّةْ ~ وَكُلَّ نَجْمٍ فِي سَمَاءِ الْأُمَّةْ

104. زَاغُوا عَنِ الشَّرِيعَةِ الزَّهْرَاءِ ~ فَوَافَقُوا جَمَاعَةَ الْأَهْوَاءِ

105. لِأَنَّهُمْ قَدْ ضَلَّلُوا الْجُمْهُورَا ~ فَكَشَفُوا عَنْ زَيْغِهِمْ سُتُورَا

106. وَهُمْ عَنِ التَّحْقِيقِ فِي نُكُوصِ ~ لِجَهْلِهِمْ بِالْآيِ وَالنُّصُوصِ

107. مَنِ اقْتَدَى ضَلَالَهُمْ قَدِ افْتَرَى ~ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَرَى

108. وَجَاهِلٌ مِنْ كُلِّ جَهْلٍ يُكْثِرُ ~ بَلَى فَإِنَّهُ الصَّحِيحَ يُنْكِرُ

109. فَعَلِّمُوا الْجَاهِلَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ~ بِالْقَوْلِ وَالْحَالِ إِذَا اسْتَقَمْتُمْ

110. فَإِنْ أَبَى النَّصِيحَةَ الْكَرِيمَةْ ~ فَهَجْرُهُ غَنِيمَةٌ عَظِيمَةْ

111. وَأَخْلِصُوا النِّيَّاتِ يَا إِخْوَانِي ~ وَالْتَزِمُوا الرِّفْقَ مَعَ الْإِحْسَانِ

112. وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَا سُبْحَانَهْ ~ وَمَنْ يَشَا لَمْ يَهْدِهِ الْإِبَانَةْ

[شرح]: العابسة: مِن عَبَسَ: قطَّب ما بَيْنَ عَيْنَيْه. أجلاف: جمع جِلف: وهُو الجافي في خَلْقِه وخُلُقِه؛ على التَّشبيه ببدن الشَّاة المسلوخة أي أنَّ جوفه هواء لا عقل فيه. الأبالسة: جُند إبليس مِن شياطين الإنس والجنِّ. الغَيُّ: الضَّلال. تصَولحوا أي ادَّعوا الصَّلاح وتمظهروا به؛ وهُم عُصاة مُجرمون. زاغوا: ضلُّوا ومالوا عن الهُدى. الزَّهراء: البيضاء الصَّافية. جماعة الأهواء: أهل البِدع الباطلة. السُّتُور: جمع السِّتر: ما سُتِرَ به. نكوص: مِن نَكَص: يُقال نكص الرَّجُل علَى عَقِبَيه: رجَع عمَّا كان عليه مِن الخَير ولا يُقال ذلك إلَّا في الرُّجوع عن الخَير خاصَّة. والغنيمة: الفوز. والإبانة: الأمر الَّذي يُميِّز به طُرُقَ الهُدَى مِن طُرُق الضَّلالة.

اعلم أنَّ أهل السُّنَّة والجماعة اختلفوا في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها علَى قولَين؛ فمَن ضلَّل فريقًا مِن الفريقَين فقد افترَى وهذا شأن الجَهَلَة الَّذين يتمظهرون بالعلم والصَّلاح وهُم أبعدُ خلق الله عن العلم وعنِ التَّقوَى.

قال الشَّيخ داود القَرِصيُّ الحنفيُّ فِي [شرحه علَى القصيدة النُّونيَّة لخضر بيك]: <وأمَّا صُدور صغائر غير مُنفِّرة بعدَها فجوَّزه الجُمهور عمدًا وسهوًا> إلَى قوله: <وزعم جُمهور الشِّيعة والرَّوافض أنَّه لا يجوز عليهم ذنب أصلًا لا كبيرةٌ ولا صغيرة لا عمدًا ولا سهوًا لا قبل النُّبُوَّة ولا بعدها وهذا كما تَرَى يُرَى أنَّه تعظيم لهُم ولذا اشتَهَر بين الجَهَلَة المُتصَولحة زعمًا منهُم أنَّه هُو التَّعظيم> انتهى.

باب في بيان معنَى قولنا: ذنب صغير حقيقيٌّ لا خسَّة فيه:

113. قُولُوا لِهَذَا الْمُفْتَرِي الَّذِي ابْتَدَعْ ~ قَدْ فَازَ عَبْدٌ بِالْهُدَى إِذَا اتَّبَعْ

114. اَلْعُلَمَا وَرَثَةٌ لِلْأَنْبِيَا ~ وَهُمْ لِمَا قَدْ وَرِثُوهُ أَوْفِيَا

115. هُمْ جَوَّزُوا عَلَيْهِمُ مَعْصِيَةً ~ صَغِيرَةً نَادِرَةً حَقِيقَةً

116. بَرِيئَةً مِنْ مُقْتَضَى الدَّنَاءَةِ ~ تَعْبِيرُنَا مَا فِيهِ مِنْ إِسَاءَةِ

117. فَقَوْلُنَا (حَقِيقَةً) شَرْحٌ لِمَا ~ عَنْ جَاهِلٍ وَغَافِلٍ قَدْ أُبْهِمَا

[شرح]: ابتدع: ضلَّ. والأصل أنَّ البدعة علَى ضربَين: بدعة هُدًى وبدعة ضلالة؛ فما وافق الشَّرع فبدعة حَسَنَة وما خالف الشَّرع فبدعة ضلالة. فإذا أُطلِقَت البدعة أُريد بها بدعة الضَّلالة. وأُبهِم: خَفِيَ واستغلق.

اعلم أنَّ وصف الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها بالحقيقيَّة ليس فيه إضافة إلَى معناها وإنَّما هي شرح وبيان وإيضاح لمَن غفَل عن المُراد بالصَّغائر أو حرَّف مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة فنسب إليهم ما لم يقولوا به مِن أقوال؛ فلا يُنكِر وصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بالحقيقيِّ إلَّا جاهل علَى التَّحقيق.

قال الآمديُّ في [أبكار الأفكار]: <والأصل في الإطلاق الحقيقة> انتهى.

باب في بيان أنَّه لا يجوز تأويل القُرآن الكريم لغير ضرورة:

118. عَلَى الْحَقِيقَةِ الْكَلَامُ كُلُّهُ ~ مَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الْمَجَازُ انْتَبِهُوا

119. لَا يَصْرِفُ الْكَلَامَ عَنْ حَقِيْقَتِهْ ~ إِلَّا دَلِيْلٌ ثَابِتٌ فِي حُجَّتِهْ

120. يَكُونُ لِلْكَلَامِ إِطْلَاقَانِ: ~ حَقِيقَةٌ؛ وَفِي الْمَجَازِ الثَّانِي

121. وَلَيْسَ فِي الْإِطْلَاقِ شَيْءٌ ثَالِثُ ~ كَمَا افْتَرَى الْغِرُّ الْخَؤُونُ النَّاكِثُ

122. فَإِنَّهُ وَاللهِ بِئْسَ الْمُبْتَدِعْ ~ وَقَدْ أَتَى بِكُلِّ قَوْلٍ مُنْقَطِعْ

123. وَالْعُلَمَاءُ اخْتَلَفُوا: هَلْ أَثِمُوا ~ حَقِيقَةً أَمْ بِالْمَجَازِ يُحْكَمُ؟

124. فَبَعْضُهُمْ أَوَّلَهَا وَبَعْضُهُمْ ~ فِي تَرْكِ تأْوِيلِ الذُّنُوبِ رَأْيُهُمْ

125. لَمْ يُخْرِجُوا الذُّنُوبَ عَنْ سِيَاقِهَا ~ بَلْ أَخَذُوا الظَّاهِرَ فِي إِطْلَاقِهَا

126. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا ضَرُورَةً ~ لِيَطْلُبُوا تَأْوِيلَهَا شَرِيعَةً

127. فَامْتَنَعَ الْجُمْهُورُ عَنْ تَأْوِيلِ ~ لِغَرَضٍ وَمَقْصِدٍ جَلِيلِ

128. إِذْ جَازَ فِي مَذْهَبِهِمْ صَغِيرَةْ ~ فَلَمْ يَكُنْ فِي رَدِّهَا ضَرُورَةْ

129. وَعِنْدَهُمْ تَأَوُّلُ الْكِتَابِ ~ بِلَا دَلِيلٍ لَيْسَ بِالصَّوَابِ

130. وَمَنْ رَأَى ضَرُورَةً تَأَوَّلَا ~ ذُنُوبَهُمْ عَلَى الْمَجَازِ حَمَلَا

131. هَذَا الَّذِي عَنِ الثِّقَاتِ قَدْ وَرَدْ ~ وَكُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى فِي الْمُعْتَمَدْ

132. فِي مِثْلِ ذَا لَا تَسْأَلِ الْمُغَفَّلَا ~ وَاسْأَلْ أَخَا الضَّبْطِ فَقَدْ تَفَضَّلَا

[شرح]: قوله: (لا يَصرف الكلام) إلخ.. راجع إلَى القاعدة الشَّرعيَّة الَّتي تقول إنَّ تأويل النُّصوص الشَّرعيَّة بغير ضرورة عَبَث تُصان عنه النُّصوص الشَّرعيَّة. المُغفَّل: الَّذي لا فطنة له.

فالكلام أحيانًا يكون له إطلاقانِ الأوَّلُ حقيقيٌّ والثَّاني مجازيٌّ وقد افترَى الجَهَلَة المُتصولحة علَى الشَّرع واللُّغة فزعموا وُجود إطلاق ثالث لا حقيقيٍّ ولا مجازيٍّ! وقولُهُم هذا بدعة عجيبة رُبَّما لم يُسبقوا إليها.

قال الإمام أبو إسحقَ الشِّيرازيُّ في [المعونة في الجَدَل]: <وغير ذلك مِن الأسماء المنقولة مِن اللُّغة إلَى الشَّرع. وحكمُه أنْ يُحمل علَى ما نُقل إليه في الشَّرع ولا يُحمل علَى غيره إلَّا بدليل> انتهى.

باب في الحكمة مِن ذكر ذُنوب الأنبياء في القُرآن الكريم:

133. ذُنُوبُهُمْ لَمْ تُحْكَ لِلتَّنْقِيصِ ~ فَافْهَمْ هُدِيتَ سَبَبَ التَّنْصِيصِ

134. وَإِنَّمَا لِنَعْرِفَ الشَّرِيعَةْ ~ فَالْأَنْبِيَا حُصُونُهُمْ مَنِيعَةْ

135. فَإِنْ عَرَفْنَا كَيْفَ تَابُوا نَقْتَدِي ~ مَنِ اقْتَدَى بِالْأَنْبِيَاءِ يَهْتَدِي

136. وَكَيْفَ أَسْرَعُوا إِلَى الْخَلَاصِ ~ إِنْ كَانَ مِنْهُمْ حَصَلَتْ مَعَاصِي

137. وَزَادَ بَعْضٌ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَا ~ فَوَائِدًا طُوبَى لِمَنْ تَعَلَّمَا

138. صَغَائِرُ الذُّنُوبِ يَا إِخْوَانِي ~ لَا تُخْرِجُ الْمَرْءَ مِنَ الْإِيمَانِ

139. وَإِنَّهَا لَا تُسْقِطُ الْوِلَايَةْ ~ فَكُنْ بِعِلْمِ الدِّينِ ذَا عِنَايَةْ

140. كَذَاكَ فِي الصَّغَائِرِ الْعَذَابُ ~ لِمَنْ يَشَاءُ رَبُّنَا التَّوَّابُ

141. مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَيْمُونُ ~ فَاثْبُتْ عَلَيْهِ حَيْثُمَا تَكُونُ

142. فَلَيْسَ عَيْبًا ذِكْرُ ذَنْبِ الْأَنْبِيَا ~ إِنْ كَانَ لِلتَّعْلِيمِ فَافْهَمْ قَوْلِيَا

143. جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ ~ وَلَيْسَ قَوْلًا قَالَهُ خَبِيثُ

144. وَإِنَّمَا الْعَيْبُ عَلَى مَنِ افْتَرَى ~ وَكَذَّبَ الْآيَاتِ ثُمَّ السُّوَرَا

145. إِنَّ بَيَانَ الشَّرْعِ يَا مُرِيبُ ~ غَنِيمَةٌ فَازَ بِهَا اللَّبِيبُ

146. وَمَنْ حَكَى فِي الْأَنْبِيَاءِ شَتْمَا ~ فَإِنَّهُ فِي الْكَافِرِينَ حَتْمَا

147. فَكُنْ عَلَى مَا الْعُلَمَاءُ كَتَبُوا ~ فِي أَنْبِيَاءِ اللهِ لَمَّا أَذْنَبُوا

148. فَإِنَّهُمْ تَضَرَّعُوا وَأَسْرَعُوا ~ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَزِعُوا

149. إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ الْحِكْمَةُ ~ لِتَعْلَمُوا كَيْفَ تَكُونُ التَّوْبَةُ

150. بِالْأَنْبِيَا وَالصَّالِحِينَ فَاقْتَدُوا ~ عَسَى يَصِحُّ فِعْلُكُمْ إِنْ تَقْصِدُوا

151. فَتَوْبَةٌ أَسْرَعْتُمُ إِلَيْهَا ~ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا

[شرح]: التَّنقيص: الذَّمُّ والعَيب. والتَّنصيص: ذكر النَّصِّ. طُوبَى له: أي حُسنَى له وخيرٌ له؛ وقيل: هُو اسم الجنَّة بالهنديَّة. وقيل: هي شجرة في الجنَّة. العناية: الاهتمام. الميمون: المُبارك. المُريب: ذو الرِّيبة وهي الشَّكُّ. الغنيمة: الفَوز. واللَّبيب: العاقل. فزعوا إلَى الله: لجأوا إلَى الله تعالى.

اعلم أنَّه يجوز ذكر ذُنوب الأنبياء لأجل بيان الشَّرع أمَّا ذكرُها علَى سبيل التَّنقيص فهذا كُفر والعياذ بالله.

قال النَّوويُّ في [شرح مُسلم]: <وَاخْتَلَفُوا فِي إِمْكَانِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ؛ وَمَنْ جَوَّزَهَا مَنَعَ مِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَى طَرِيقِ التَّنْقِيصِ> انتهى.

وقال الماتُريديُّ في تفسيره: <والثَّالث: ذَكَرَ زلَّاتهم ليعلموا أعني الخَلْقَ كيف عاملوا ربَّهُم عند ارتكابهمُ الزَّلَّات والعَثَرات؛ فيُعامِلون ربَّهُم عند ارتكابهم ذلك علَى ما عامله الرُّسُل بالبُكاء والتَّضرُّع والفزع إليه والتَّوبة علَى ذلك والله أعلم، أو أنْ يكون ذَكَرَها ليُعلَم أنَّ ارتكاب الصَّغائر لا يُزيل الولاية ولا يُخرجه مِن الإيمان وذلك علَى الخوارج بقولهم: إنَّ مَن ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج مِن الإيمان، أو أنْ يكون ذلك ليُعلَم أنَّ الصَّغيرة ليست بمغفورة ولكن له أنْ يُعذِّب عليها> إلخ..

باب الحكمة مِن زوال العصمة عن الأنبياء في الصَّغائر غير المُنفِّرة:

152. فَإِنْ يَقَعْ مِنْهُمْ صَغِيرُ ذَنْبِ ~ فَذَلِكُمْ لِصَوْنِهِمْ عَنْ عُجْبِ

153. يَقُولُهُ الرَّازِيُّ فِي التَّفْسِيرِ ~ أَنْعِمْ بِهِ مِنْ عَالِمٍ شَهِيرِ

154. وَقَالَ جُمْهُورٌ مِنَ الْأَئِمَّةْ ~ مِنْ عُلَمَا وَأَتْقِيَاءِ الْأُمَّةْ

155. قَدْ زَالَتِ الْعِصْمَةُ عَنْ صَغِيرَةْ ~ لِحِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ خَطِيرَةْ

156. حَتَّى تَرِقَّ مِنْهُمُ الْقُلُوبُ ~ عَلَى الَّذِينَ عِنْدَهُمْ ذُنُوبُ

157. وَذَلِكُمْ فِي مَوْقِفِ الشَّفَاعَةْ ~ لَيَكْسِبُوا الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةْ

158. لِأَنَّ عَبْدًا صَالِحًا لَا يُبْتَلَى ~ فَلَنْ يَرِقَّ قَلْبُهُ لِلْمُبْتَلَى

[شرح]: العُجْبُ: الفخر؛ وفي الاصطلاح: شُهود العِبادة صادرةً مِن النَّفس غائبًا عن المِنَّة، ويُحبط ثوابها إذَا اقترن بالعمل.

قال الرَّازيُّ في [تفسيره]: <المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبٌ، فَمَاذَا يُغْفَرُ لَهُ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) الْمُرَادُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ. (ثَانِيهَا) الْمُرَادُ تَرْكُ الْأَفْضَلِ. (ثَالِثُهَا) الصَّغَائِرُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَهُوَ يَصُونُهُمْ عَنِ الْعُجْبِ؛ (رَابِعُهَا) الْمُرَادُ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ> انتهى.

وقال المُحدِّث تاج الدِّين السُّبكيُّ فِي [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]: <قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهُم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ علَى المُبتلَى) وقالت المُعتزلة: (هُم معصومون عن الكُلِّ) لأنَّهم لا يرَون الشَّفاعة فحيث أنكروا الشَّفاعة لم يُجوِّزوا الصَّغائر إذ فائدتُها -كما ذكرنا- الرِّقَّة> انتهى.

الإهداء:

159. وَقَدْ نَظَمْتُ هَذِهِ الْقَصِيدَةْ ~ مُوَضِّحًا فَرْعًا مِنَ الْعَقِيدَةْ

160. هَدِيَّةً لِلْأَهْلِ وَالْخِلَّانِ ~ صَحِيحَةً صَادِقَةَ الْبَيَانِ

161. قَصِيدَتِي رَدٌّ عَلَى الْمُكَفِّرَةْ ~ اَلْغَافِلِينَ الْمُعْتَدِينَ الْفَجَرَةْ

162. فَرَحِمَ الرَّحْمَنُ مَنْ عَلَّمَنِي ~ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ قَدْ أَرْشَدَنِي

163. مَشَايِخِي أَئِمَّةٌ كِبَارُ ~ مِنْهُمْ عَلَيْنَا تُشْرِقُ الْأَنْوَارُ

[شرح]: الخِلَّان: جمع خِلٍّ: وهُو الصَّديق المُختصُّ.

مسألة العصمة مِن المسائل المُتعلِّقة بالعقيدة وهي مُتفرِّعة عن الإيمان بالأنبياء عليهمُ السَّلام. فهذه القصيدة ردٌّ علَى أهل الفتنة الَّذين كفَّروا وبدَّعوا وفسَّقوا وضلَّلوا جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام.

خاتمة في حمدالله والصَّلاةِ والسَّلام على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

164. فَالْحَمْدُللهِ الَّذِي هَدَانَا ~ إِلَى الْهُدَى وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَا

165. حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكَا ~ لِلسَّالِكِينَ يَفْتَحُ الْمَسَالِكَا

166. وَفِي الْخِتَامِ مِثْلُ مَا فِي الْمُبْتَدَى ~ خَيْرُ صَلَاةٍ وَسَلَامٍ أَبَدَا

167. عَلَى نَبِيٍّ كُلُّنَا نَهْوَاهُ ~ مُحَمَّدٍ أَرْوَاحُنَا فِدَاهُ

168. مُحَمَّدٌ مَا مِثْلُهُ مَوْلُوْدُ ~ فِيهِ الْسَّجَايَا وَالرِّضَى وَالْجُودُ

169. مُحَمَّدٌ وَلِلْهُدَى مِفْتَاحُ ~ مُحَمَّدٌ فِي هَدْيِهِ الْفَلَاحُ

170. قَصِيدَتِي بِمَدْحِهِ زَيَّنْتُهَا ~ أَرَّخْتُهَا: (حُبًّا لَهُ نَظَمْتُهَا)

[شرح]: الفُرقان: القُرآن. والسَّجايَا جمع سجيَّة وهي الطَّبيعة والخُلُق. والجود: الكرم. وقولُه: (أرَّختُها) معناه وضع لها تأريخًا علَى حساب الجُمَّل. قولُه: (حُبًّا لَهُ نَظَمْتُهَا) مجموعُ حُروفه في حساب الجُمَّل (1442) فتاريخ نظم هذه القصيدة 1442 هجريَّة وذلك أنَّ الحاء 8 والباء 2 والألف 1 واللَّام 30 والهاء 5 والنُّون 50 والظَّاء 900 والميم 40 والتَّاء 400 والهاء 5 والألف 1.

نهاية الشَّرح.

فهرس:

1. استهلال.

2. باب في صفات الأنبياء.

3. باب في براءة إبراهيم عليه السَّلام مِن الكذب.

4. باب في عصمة الأنبياء عن الأمراض المُنفِّرة.

5. باب في عصمة الأنبياء مِن الكُفر والكبائر.

6. باب في فصاحة الأنبياء.

7. باب في براءة عيسَى عليه السَّلام.

8. باب في براءة الأنبياء مِن السِّحر.

9. باب في شجاعة الأنبياء وكرمهم.

10. باب في أمانة نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام وطُهره وعفَّته ورصانته.

11. باب في أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام لم يكُن مُعلَّق القلب بالنِّساء

12. باب في براءة داود عليه السَّلام.

13. باب في بيان أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُخطئ في التَّشريع.

14. باب في بيان أنَّ النُّبُوَّة لا تصحُّ لإخوة يوسف.

15. باب في عصمة الأنبياء مِن الخسائس.

16. باب في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها.

17. باب في بيان مذهب الجُمهور في العصمة مِن صغائر لا خسَّة فيها.

18. باب في بيان مذهب عامَّة أهل التَّأويل مِن الصَّحابة والسَّلف.

19. باب في بيان أنَّ الماتُريديَّ خالف أكثر المُفسِّرين وأنَّه خلاف لا يقتضي التَّبديع والتَّكفير.

20. باب في مذهب الأقلِّ مِن العُلماء في العصمة مِن صغائر لا خسَّة فيها.

21. باب في اختلاف العُلماء فيما جاء في نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام وكيف ردَّ الجُمهور علَى مَن كفَّر بالصَّغيرة وعلَى مَن زعم أنَّ الله لا يُعذِّب علَى الصَّغيرة مُطلَقًا.

22. باب في الرَّدِّ علَى أهل الفتنة الَّذين ضلَّلوا جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها علَى الأنبياء.

23. باب في بيان معنَى قولنا. ذنب صغير حقيقيٌّ لا خسَّة فيه.

24. باب في بيان أنَّه لا يجوز تأويل القُرآن الكريم لغير ضرورة.

25. باب في الحكمة مِن ذكر ذُنوب الأنبياء في القُرآن الكريم.

26. باب الحكمة مِن زوال العصمة عن الأنبياء في الصَّغائر غير المُنفِّرة.

27. الإهداء.

28. خاتمة في حمدالله والصَّلاة والسَّلام علَى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

29. الفهرس.

Jun 19, 2021, 6:37 AM

نعي الفاضل الشَّاب حسن بحري علي

ابن عم الشيخ جميل حليم

بسم الله الرَّحمَن الرَّحِيم

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً

فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي

بمزيد مِن الرِّضَى بقضاء الله وقدره

ننعي إليكُم

الفاضل الشَّاب حسن بحري علي

رحمه الله

والَّذي توفَّاه الله في لبنان

جاء في الحديث: <ما الميِّت في قبره إلَّا شبه الغريق المُتغوِّث ينتظر دعوة مِن أب أو أُمٍّ أو أخ أو صديق ثقة أو ولد صالح فإذا لحقه ذلك كانت أحبَّ إليه مِن الدُّنيا وما فيها وإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُدخِل على أهل القُبور مِن دُعاء أهل الدُّور أمثال الجبال وإنَّ هديَّة الأحياء للأموات الاستغفار لهُم> رواه البَيهقيُّ في [شُعب الإيمان].

فلا تبخلوا بالدُّعاء والاستغفار له وقراءة القُرآن عن رُوحه.

إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ Jun 22, 2021, 9:08 AM