كيف كسر كلام الإمام الماتُريديِّ أهل الفتنة
في مسألة عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها
وبيان كلام ابن عبَّاس في الفرق بين الكبيرة والصَّغيرة
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة لم يعرفوا طريقًا للهرب ممَّا ضربهم به الإمام الماتُريديُّ عندما أفصح عن قول عامَّة أهل التَّأويل في تفسير قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} فقال في تفسيره: <يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل على تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يقولون: أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه> انتهى.
فلمَّا أراد أهل الفتنة الهرب فزعموا أنَّ مُراد الماتُريديِّ بقوله: (عامَّة أهل التَّأويل) الجَهَلَة الَّذين لا يعرفون قواعد العلم؛ فضربهم كلام الإمام الماتُريديِّ مرَّة ثانية حيث يقول في تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحو ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ.. فثبت أنَّه قصد مُفسِّري الصَّحابة والتَّابعين مِن السَّلف الصَّالح وثبت أن أهل الفتنة ضلَّلوا عامَّة أهل التَّأويل عندما ضلَّلوا من قال بوقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام.
فأراد أهل الفتنة الهرب ثانية فزعموا أنَّ عامَّة أهل التَّأويل قالوا بإثبات الوزر والإثم على الأنبياء مجازًا لا حقيقة؛ ولكنَّ الماتُريديَّ وصف قول عامَّة أهل التَّأويل فقال: <ولكن هذا وَحش مِن القَول> انتهى فدلَّ أنَّه يُخالفُ قولهُم لأنَّه يقول في تفسيره: <وَذَنْبُهُمْ تَرْكُ الأَفْضَلِ> انتهى فثبت أنَّه رضي الله عنه نسب إلى عامَّة أهل التَّأويل القول بوُقوع صغائر حقيقيَّة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام.. وضرب كلامُه أهلَ الفتنة مرَّة ثالثة.
فلمَّا أُغلقت السُّبُل في وجوه أهل الفتنة لجأوا إلى ما لا يقوم عليه دليل فقالوا: (إنَّ ابن عبَّاس يقول بأنَّ كُلَّ ما نهَى الله عنه فهُو معصية كبيرة فإنْ زعمتُم أنَّ ابن عبَّاس مِن عامَّة أهل التَّأويل فقد نسبتُم إليه القول بوُقوع كبائر مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام).. وغفل الجَهَلَة المُتصَولحة أنَّ الإمام الماتُريديَّ هُو مَن جعل ابن عبَّاس في رأس عامَّة أهل التَّأويل وليس نحن! فانقلب سحر أهل الفتنة علَيهم وعاد كيدُهُم إلَيهم وكفى الله المُؤمنين القتال.
ثُمَّ نحن لم نُصرِّح أنَّ ابن عبَّاس على التَّعيين قال بوُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء وإنَّما قُلنا لأهل الفتنة إنَّ الإمام الماتُريديَّ لم يُرد بقوله: (عامَّة أهل التَّأويل) الجَهَلَة الَّذين لا يعرفون قواعد العلم؛ واستدللنا على ذلك بقول الماتُريديِّ في موضع آخَر بأنَّ ابن عبَّاس مِن عامَّة أهل التَّأويل عنده؛ وهذا دليل كاف أنَّه لا يُريد بذلك الجَهَلَة كما افترى أهل الفتنة عليه بل أراد الإشارة إلى أكثر أهل التَّأويل مِن الصَّحابة والتَّابعين وأتباعهُم.
ثُمَّ إنَّ القُرطبيَّ يقول: <وما أظُنُّه يصحُّ عن ابن عبَّاس أنَّ كُلَّ ما نهَى الله عزَّ وجلَّ عنه كبيرة لأنَّه مُخالف لظاهر القُرآن في الفرق بَين الصَّغائر والكبائر في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقولِه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فجعل في المنهيَّات صغائرَ وكبائر وفرَّق بينهُما في الحُكم إذ جعل تكفير السَّيِّئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر واستثنَى اللَّمَم مِن الكبائر والفواحش فكيف يخفَى ذلك على حَبر القُرآن؟> انتهى.
وكلام القُرطبيِّ ذكره ابن حَجَر في [فتح الباري] ثُمَّ قال: <ويُؤيِّدُه ما سيأتي عن ابن عبَّاس في تفسير اللَّمَم لكنَّ النَّقل المذكور عنه أخرجه إسمعيل القاضي والطَّبريُّ بسَنَد صحيح على شرط الشَّيخَين إلى ابن عبَّاس فالأَوْلَى أنْ يكون المُراد بقوله: (نهى الله عنه) محمولًا على نهي خاصٍّ وهُو الَّذي قُرِنَ به وعيد كما قيَّد في الرِّواية الأُخرى عن ابن عبَّاس فيُحمَل مُطلَقُه على مُقيَّده جمعًا بين كلامَيه> انتهى و(الوعيد) التَّهديد بعذاب شديد.
وهكذا تبيَّن أنَّ العُلماء منهُم مَن لم يُصحِّح الرِّواية المذكورة عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ومنهُم مَن صحَّح سندها على معنًى مخصوص لم يفهمه أهل الفتنة بل حَمَلَها على النَّهي الَّذي قُرن به وعيد بعذاب شديد؛ وثبت أنَّ ابن عبَّاس قيَّد بذلك في الرِّواية الأُخرَى الَّتي أشار إليها ابن حَجَر.. فيا لخيبة أهل الفتنة يحتفرون في الأرض ولا يجدون منفذًا ليخرجوا ممَّا ورَّطوا به أنفسهم مِن تضليل جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.
نهاية المقال.
Jun 5, 2021, 11:23 PM
