مذهب أهل السُّنَّة والجماعة
في عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام
عند الإمام الرَّازي
مَن فهم قول أهل السُّنَّة في العصمة لم يُشكل عليه وصف الذَّنب بالحقيقيِّ طالمَا هُو مُقيَّد بأنَّه صغير لا خسَّة فيه ولا دناءة
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فإنَّه لا خلاف أنَّ أهل السُّنَّة والجماعة أجمعوا على عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام عن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة والدَّناءة؛ واختلفوا في عصمتهم عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على مذهبين اثنين.
2
فقال أكثر المُتقدِّمين مِن عُلماء أهل السُّنة والجماعة -وهُمُ الجُمهور- إنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام غير معصومين مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها بينما قال الأقلُّ مِن العُلماء: إنَّ الأنبياء معصومون حتَّى عن هذه الصَّغيرة.
3
واختلف العُلماء في صُدور الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها مِن نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم كما في تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية.. وقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية..
4
وقد ذكر الإمام الرَّازيُّ مسألة عصمة الأنبياء عند أهل السُّنَّة والجماعة مُختصِرًا كُلَّ تفصيلها مرَّتين؛ مرَّة في تفسيره المُسمَّى [مفاتيح الغَيب] أو [التَّفسير الكبير]؛ ومرَّة أُخرى في كتابه المُسمَّى [عصمة الأنبياء].
5
فقد قال الرَّازيُّ رحمه الله فِي تفسير {لِيَغْفِرَ لَكَ}: <قُلنا الجواب عنه قد تقدَّم مرارًا مِن وُجوه؛ أحدُهَا: المُراد ذنب المُؤمنين. ثانيها: المُراد ترك الأفضل. ثالثُها: الصَّغائر فإنَّها جائزة على الأنبياء بالسَّهو والعَمْد..> إلخ..
6
ثُمَّ قال رحمه الله: <رابعُها مِن قبل النُّبُوَّة ومِن بعدها وعلى هذا فمَا قبل النُّبُوَّة بالعفو وما بعدها بالعصمة> انتهى فهذه أربعة وُجوه يذكُرُها الرَّازيُّ في تفسير الذَّنب الوارد في الآية في حقِّ نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.
7
وقال الرَّازيُّ رحمه الله فِي [عصمة الأنبياء] عن قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} ما نصُّه: <جوابه: أنَّه محمول إمَّا على الصَّغيرة أو ترك الأَوْلى أو التَّواضع كما قرَّرناه فِي قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}> انتهى.
8
وقال الرَّازيُّ رحمه الله فِي [التَّفسير الكبير]: <فإنْ كان المُراد هُو الأوَّل فهُو يتفرَّع على أنَّه هل صدرت عنه معصية أم لا. فمَن قال صَدَرَت المعصية عنه ذكر فِي فائدة الاستغفار وُجوهًا> إلى آخِر كلامه وهُو واضح.
9
فمَن حمل الآية على المجاز وتأوَّل معناها قال إنَّ المُراد بالذَّنب ترك الأَولى؛ إذًا.. عند هؤُلاء ليس المُراد مِن الذَّنب ظاهر معناه بل المُراد عندهُم تشبيه ترك الأَولى إذَا فعله الأكابر بالذَّنب ولم يُريدوا حقيقة الذَّنب.
10
أمَّا مَن لم يحمل الآية على المجاز ولم يتأوَّل معناها فقد قال إنَّ المُراد بالذَّنب الصَّغيرة؛ إذًا.. عند هؤُلاء فالمُراد مِن الذَّنب في الحقيقة هُو ما يظهر مِن معناه لكنَّهُم قيَّدوه بأنَّه ليس مُنفِّرًا ولا يقدح في النُّبُوَّة.
11
فمَن فهم مذاهب أهل السُّنَّة والجماعة لم يُشكل عليه وصف الذَّنب بالحقيقيِّ طالمَا هُو مُقيَّد بأنَّه صغير لا خسَّة فيه ولا دناءة إلَّا لو كان مِن أهل الفتنة لأنَّهُم جَهَلَة مُتصولحة يتظاهرون بالصَّلاح وهُم فَسَقَة في الحقيقة.
12
فهذا مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في عصمة الأنبياء عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها؛ وهذه مذاهبُهُم في تفسير الآيات المذكورة آنفًا، ومَن أنكر هذا فإنَّما هُو صاحب دعوى كاذبة: عمادُها الجهل والغُلُوُّ والافتراء.
انتهى.
Feb 19, 2021, 3:37 AM
