أهل الفتنة يُؤَكِّدون افتراءَهُم على نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فقد جاء في الحديث: <لَو أَنَّ اللهَ يُؤَاخِذُنِي وَعِيسَى بِذُنُوبِنَا لَعَذَّبَنَا وَلَا يَظلِمُنَا شَيئًا> قال: وأشار بالسَّبَّابةِ والَّتي تليها. وفي رواية أُخرَى: <لو يُؤاخذني اللهُ وابنَ مريمَ بما جَنَت هاتانِ -يعني الإبهامَ والَّتي تليها- لعذَّبَنا ثُمَّ لم يظلمنا شيئًا> انتَهَى.

2

فأشاع أهل الفتنة أنَّ نبيَّنا أضاف إلى الأنبياء الذُّنوب الكثيرة بمُقتضَى لفظ “ذُنوب”! فبيَّنَّا أنَّ العرب يستعملون الجمع يُريدُون به الاثنين كما قال تعالَى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فهذا (جمع) أُرِيد به قلب عائشة وقلب حفصة رضي الله عنهُما.

3

فأقرَّ (بعض) أهل الفتنة بصحَّة كلامنا لكن أراد العَبَث فزعم أنَّ قوله: <بما جَنَت هاتانِ> يقتضي الكثرة! والصَّواب أنَّه للتَّقليل فكأنَّه قال: (إنَّ الله تعالَى لو عذَّبنا بذُنُوبنا مع كونها قليلة لا يكون ظالمًا لنا) فصحَّ أنَّ نبيَّنا لم يُضف إلى الأنبياء ذُنُوبًا كثيرة.

4

وقد يُنسب فعل إلى اليدَين كلتَيهما مع كونه مفعولًا بيد واحدة وذلك كأن تصدَّق مُحسِن فيُقال: (هنيئًا له بما قَدَّمَت يداه) مع كونه دفعه بيد واحدة.. فكذلك في الحديث: (بما جَنَت هاتانِ) لا يقتضي تعدُّد الذُّنُوب أو تكرارها أو كثرتها كما توهَّم الجاهل.

5

أمَّا الجاهل فتصوَّر أنَّ للإبهام ذنبًا وأنَّ للسَّبَّابة ذنبًا فهذانِ ذنبانِ ثُمَّ تصوَّر ذلك في كُلٍّ مِن سيِّدنا مُحمَّد وعيسَى فصاروا عنده أربعة ذُنُوب ثُمَّ زاد فسادًا فزعم أنَّ ما تصوَّره وما قدَّره في باطنه مِن أُمور هُو عين ظاهر الحديث. فيا للعجب مِن غبائه!

6

فقد أنكر بداية لفظ “ذُنُوب” وهُو يعلم أنَّه كلام النَّبيِّ ثُمَّ زعم أنَّ عبارة “بما جَنَت هاتانِ” تقتضي كثرة الذُّنوب وهذا يعني أنَّ النَّبيَّ أضاف الذُّنُوب الكثيرة إلى الأنبياء! وهُو ظاهر البُطلان ثُمَّ أخيرًا زعم أنَّ ما وقع في تَصَوُّرِهِ الفاسد: هُو ظاهر حديث النَّبيِّ!

7

فكفَى بهذا التَّخبُّط دليلًا أنَّ أهل الفتنة جَهَلَة مُتصولحة وأنَّهُم يهجُمون على الفتوَى بغير علم ولا هُدًى ولا سُلطان مُبين ولذلك كفَّروا مَن قال بوُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن نبيٍّ فأكثرُ المُتَقَدِّمين مِن عُلماء الأُمَّة كُفَّار عندهُم والعياذ بالله تعالَى!

8

فأمَّا عند الجُمهور فلا مانع مِن حمل الحديث على ظاهره لأنَّ الأنبياء يجُوز عليهم نادرًا ذنب صغير لا خسَّة فيه لا يُقتدَى بهم فيه. وأمَّا عند غير الجُمهور فيتأوَّلون الذَّنب إذا أُضِيف إلى الأنبياء في القُرآن الكريم أو الحديث الثَّابت بنحو ترك الأَولَى.

9

لكن الأنبياء إن عملوا معصية صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة؛ لا يعملونها مِن باب الجُرأة على الله تعالَى. الجُرأة تقتضي تكرار المعصية وكثرتها والإصرار عليها وعدم التَّوبة منها وإظهار عدم المُبالاة مِن اقترافها وكُلُّ هذا لا يعملُه الأنبياء.

10

قال لسان الأُمَّة العلَّامة القاضي أبو بكر ابن الباقلَّانيِّ: (وكثير مِن أهل الحقِّ يقولون إنَّهُم وإن واقعوها فإنَّما يُواقعونها ويفعلونها مع خوف شديد وإعظام لها وتعقيبها بالنَّدم والاستغفار) نقله أبو القاسم الأنصاريُّ في شرحه على الإرشاد للجُوينيِّ.

11

جاء في [مخطوطة شرح أبي القاسم الأنصاريِّ على [الإرشاد] للجُوينيِّ] ما نصُّه: <وَنَحنُ إِنَّمَا نُجوِّزُ عَلَيهِم هَذِهِ الأُمُورَ قَبلَ النُّبُوَّةِ وَقَبلَ أَن جَاءُوا بِتَحرِيمِهَا. فَإِن قَالُوا: “أَلَيسَ قَد جَوَّزتُمُ الصَّغَائِرَ مِنهُم بَعدَ التَّحرِيمِ وَفِي حَالِ النُّبُوَّةِ؟” قُلنَا سَنَذكُرُ اختِلَافَ أَصحَابِنَا فِيهِ: قَالَ الأَكثَرُونَ مِنهُم وَمِن غَيرِهِم مِنَ الطَّوَائِفِ بِالتَّجوِيزِ فِي حَالِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الذُّنُوبَ الَّتِي تُفسِدُ البَلَاغَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَتَقدَحُ فِي دَلَالَةِ المُعجِزَاتِ وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ الَّتِي أَجمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ مِنهُم وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَبَائِرَ وَلَيسَ فِي الذُّنُوبِ عِندَنَا مَا هُو صَغَائِرُ تَقَعُ مُحبَطَةً مَغفُورَةً عِندَ اجتِنَابِ الكَبَائِرِ وَقَالَتِ المُعتَزِلَةُ إِنَّ ذُنُوبَهُم تَقَعُ مَغفُورَةً وَقَالَ القَاضِي وَكَثِيرٌ مِن أَهلِ الحَقِّ يَقُولُونَ إِنَّهُم وَإِن وَاقَعُوهَا فَإِنَّمَا يُوَاقِعُونَهَا وَيَفعَلُونَهَا مَعَ خَوفٍ شَدِيدٍ وَإِعظَامٍ لَهَا وَتَعقِيبِهَا بِالنَّدَمِ وَالاِستِغفَارِ> انتَهَى.

نهاية المقال.

Jan 12, 2023 8:45:16am