الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري – بيان أنّ التوحيد أفضل العلوم

بيان أنّ التوحيد أفضل العلوم

اعلم أن شرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه متعلقًا بأشرف المعلومات التي هي أصول الدّين أي معرفة الله ورسوله.
قال الله تعالى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ … *﴾ [سورة محمد] قدّمَ الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار لتعلّق التوحيد بعلم الأصول، وتعلق الاستغفار بعلم الفروع.
وقال تعالى ﴿يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *﴾ [سورة الحديد].
قال الإمام أبو حنيفة في «الفقه الأبسط» «اعلم أنّ الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، والفقهُ معرفة النفس ما لها وما عليها».
وقال «أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر».
وليعلم بأن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة، وقد خصّ النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقّي في هذا العلم فقال: «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له» [(4)] فكان هذا العلم أهمّ العلوم تحصيلاً وأحقّها تبجيلاً وتعظيمًا؛ قال تعالى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ … *﴾ [سورة محمّد].ويسمى هذا العلم أيضًا مع أدلته العقلية والنقلية من الكتاب والسنّة علم الكلام؛ والسبب في تسميته بهذا الاسم كثرة المخالفين فيه من المنتسبين إلى الإسلام وطول الكلام فيه من أهل السنّة لتقرير الحقّ؛ وقيل لأن أشهر الخلافات فيه مسألة كلام الله تعالى أنه قديم – وهو الحقّ – أو حادث – وهو الباطل -. فالحشوية قالت كلامه صوت وحرف، حتى بالغ بعضهم فقال: إن هذا الصوت أزلي قديم وإن أشكال الحروف التي في المصحف أزلية قديمة فخرجوا عن دائرة العقل. وقالت طائفة أخرى: إن الله تعالى متكلّم بمعنى أنه خالق الكلام في غيره كالشجرة التي سمع عندها موسى كلام الله لا بمعنى أنه قام بذات الله كلام هو صفة من صفاته وهم المعتزلة قبّحهم الله. وقال أهل السنّة: إن الله متكلّم بكلام ذاتي أزلي أبدي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا يختلف باختلاف اللغات.
وموضوع علم الكلام هو النظر أي الاستدلال بخلق الله تعالى لإثبات وجوده وصفاته الكمالية وبالنصوص الشرعية المستخرَج منها البراهين، وهو على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة لأن الفلاسفة لهم كلام في ذلك يُعرف عندهم بالإلهيات؛ وعلماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادًا على مجرد النظر بالعقل، بل يتكلّمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع ليس أصلًا للدين، وأما الفلاسفة فجعلوه أصلاً من غير التفات إلى ما جاء عن الأنبياء، فلا يتقيّدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عمّا جاء به الشرع ولا يتناقض معه.وقد حثّ الله عباده في القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال تعالى ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ … *﴾ [سورة الأعراف] وقال تعالى ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ … *﴾ [سورة فصلت].
فإن قيل: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم علَّم أحدًا من أصحابه هذا العلم ولا عن أحد من أصحابه أنه تعلم أو علَّم غيره وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان؛ فلو كان هذا العلم مهمًّا في الدين لكان أولى به الصحابة والتابعون.
قلنا: إن عُني بهذا المقال أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه وحقية رسوله وصحة معجزاته بدلالة العقل بل أقرّوا بذلك تقليدًا فهو بعيد من القول شنيعٌ من الكلام؛ وقد ردّ الله عزَّ وجلَّ في كتابه على من قلَّد أباه في عبادة الأصنام بقوله ﴿ … إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ *﴾ [سورة الزخرف] أي أن أولئك اقتدوا بآبائهم في إشراكهم بغير دليل يقوم على صحة ذلك الدين وهذا يفهم منه أن علم الدليل مطلوب.وإن أريد أن الصحابة لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو الجوهر والعرض والجائز والمحال والحدث والقِدم فهذا مُسَلَّمٌ به، لكننا نعارض هذا بمثله في سائر العلوم فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفّظ بالناسخ والمنسوخ والمجمل والمتشابه وغيرها كما هو المستعمل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسان والمعارضة والمناقضة والطرد والشرط والسبب والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء، ولا بالجرح والتعديل والآحاد والمشهور والمتواتر والصحيح والغريب وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل الحديث. فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلّة؛ على أنه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم تظهر الأهواء والبدع فلم تمسّ الحاجة إلى الدخول في التفاصيل والاصطلاحات.
قال أبو حنيفة رضي الله عنه جوابًا على القائلين لِمَ تتكلمون بعلم الكلام والصحابة لم يتكلموا فيه: «إنما مثلهم كأناس ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلم يحتاجوا إلى إبراز السلاح، ومثلنا كأناس بحضرتهم من يقاتلهم فاحتاجوا إلى إبراز السلاح» اهـ.
وهذا العلم أصله كان موجودًا بين الصحابة متوفرًا بينهم أكثر ممن جاء بعدهم، والكلام فيه بالرد على أهل البدع بدأ في عصر الصحابة فأول متكلمي الصحابة عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه فقد قطع الخوارج بالحجة [(5)]، وروي أنه قطع دهريًّا [(6)]، وأقام الحجة على أربعين رجلًا من اليهود المجسمة بكلام نفيس مُطْنَبٍ [(7)]؛ ثم ردّ ابن عمر [(8)] وابن عباس [(9)] على المعتزلة، وقطع الحَبر ابن عباس رضي الله عنهما الخوارج بالحجة أيضًا [(10)]. ومن التابعين الخليفة عمر بن عبد العزيز فقد رد على القدرية وألّف رسالة في الرد عليهم وهي رسالة وجيزة [(11)]، وقطع أصحابَ شَوْذبٍ الخارجي.ثم زيد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب له كتاب في الرد على القدرية من القرءان [(12)]، وكذا الحسن بن محمد ابن الحنفية [(13)]، وقطع إياس بن معاوية القاضي القدرية [(14)]، وأفتى الزهري عبدَ الملك بن مروان بدماء القدرية [(15)].
وقطع ربيعةُ الرأي شيخُ الإمام مالك [(16)] والإمام الأوزاعي [(17)] غَيلانَ بن مسلم القدري. وكذلك اشتغل بهذا العلم الحسن البصري وهو من أكابر التابعين في ءاخرين من السلف.
فإن قيل: روى البيهقي [(18)] بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال: «تفكروا في كل شىء ولا تفكروا في ذات الله» فهو منهيّ عنه.
فالجواب أن النهي ورد عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق، فإنه يوجب النظر وإعمال الفكر والتأمّل في ملكوت السموات والأرض ليستدل بذلك على وجود الصانع، وعلى أنه لا يشبه شيئًا من خلقه؛ ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر الصحيح. وقد أمر القرءان بتعلّم الأدلة على العقائد الإسلامية على وجوده تعالى وعلى ثبوت العلم له والقدرة والمشيئة والوحدانية إلى غير ذلك. ولم يطعن إمام معتبر في هذا العلم الذي هو مقصد أهل السنّة والجماعة من السلف والخلف.
وما يُروى عن الشافعي أنه قال [(19)]: «لأن يبتلى المرء بجميع ما نهى الله عنه ما خلا الشرك خير له من أن يبتليه الله بالكلام» فهو ليس على إطلاقه إنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم الذين جانبوا نصوص الشريعة كتابًا وسنّةً وتعمّقوا في الأهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب والسنّة الموضح لحقائق الشريعة عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة لم يذمّه الشافعي، وقد كان الشافعي رضي الله عنه يحسنه ويفهمه وقد ناظر بِشْرًا المَريسي [(20)] وحفصًا الفرد فقطعهما.وروى البيهقي وغيره لفظًا ءاخر عنه: «لأن يلقى الله عزَّ وجلَّ العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشىء من هذه الأهواء» [(21)]. والأهواء جمع هوى وهو ما مالت إليه نفوس المبتدعة الخارجين عما كان عليه السلف، أي ما تعلق به البدعيون في الاعتقاد كالخوارج والمعتزلة والمرجئة والنجارية وغيرهم وهم الاثنتان والسبعون فرقة كما ورد في الحديث المشهور [(22)]: «وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنّة وهي الجماعة» رواه أبو داود.
قال البيهقي في مناقب الشافعي ما نصه [(23)]: «قلت إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصًا وأمثاله من أهل البدع وهذا مراده بكل ما حُكي عنه في ذم الكلام وذم أهله غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيّده وفي تقييد من قيّده دليل على مراده» اهـ.
ثم قال: «وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذمومًا عنده وقد تكلَّم فيه وناظر من ناظره فيه وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئًا مما هم فيه» اهـ.
وقال ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» [(24)]: «فالشافعي رحمه الله إنما عنى بمقاله كلام حفص الفرد القدري وأمثاله» اهـ.ـ[4] معناها في بلاد الحبشة «الشيخ العالم».
ـ[5] لكنه منتشر في بعض البلاد ومنها لبنان.
ـ[6] بوّب البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلمكم بالله».
ـ[7] أصول الدين (ص/307).
ـ[8] الدهرية هم القائلون بأن هذا العالم وجد صدفة أو بفعل الطبيعة وأنه ليس له خالق.
ـ[9] حلية الأولياء (1/ 72 – 73). وقال: «حديث غريب من حديث النعمان كذا رواه ابن إسحاق عنه مرسلاً».
ـ[10] أصول الدين (ص/307).
ـ[11] حلية الأولياء (1/ 325).
ـ[12] حلية الأولياء (1/ 318 – 319).
ـ[13] أصول الدين (ص/307)، وقد طبعت في بيروت سنة 1977ر.
ـ[14] أصول الدين (ص/307).
ـ[15] طبعت في بيروت سنة 1977ر.
ـ[16] حلية الأولياء (3/ 124).
ـ[17] أصول الدين (ص/307).
ـ[18] تشنيف المسامع (4/ 264 – 265).
ـ[19] تاريخ دمشق (48/ 208 – 209).
ـ[20] أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص/420).ـ[21] رواه بهذا اللفظ البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 453)، وبنحوه الرازي في ءاداب الشافعي ومناقبه (ص/182)، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص/337).ـ[22] ضبطه الحافظ في تبصير المنتبه (4/ 1358) والسمعاني في الأنساب (11/ 263) بفتح الميم وكسر الراء الخفيفة وسكون الياء ثم مهملة، وضبطه الحموي في معجم البلدان (5/ 118) بالفتح ثم الكسر والتشديد وياء ساكنة وسين مهملة. وهي قرية بمصر وولاية من ناحية الصعيد.
ـ[23] مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 452 – 453)، وأخرج طرقه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص/337).
ـ[24] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب شرح السنّة.

مقدمة المؤلف

بيان أفضلية علم التوحيد ومزيد عناية السلف بعلم التوحيد