برهان وجوب العلم لله وأزليته
اعلم أن علم الله قديم أزلي كما أن ذاته أزلي فلم يزل عالمًا بذاته وصفاته وما يُحدثه من مخلوقاته واعتقاد هذا ضروري فلا يتصف بعلم حادث لأنه لو جاز اتصافه بالحوادث لجاز النقصان عليه، والنقصان عليه محال.
وبيان ذلك أن ذلك الحادث إن كان من صفات الكمال كان الخلو عنه مع جواز الاتصاف به نقصًا.
وإن لم يكن من صفات الكمال امتنع اتصاف الله به، لأن كل ما يتصف الله به كمال.
وأيضًا لو كان قابلاً له لما خلا عنه أو عن ضده وإلا لزم الترجيح بغير مرجحٍ. وما يضاد الحادث حادث. وما لا يخلو عن الحادث حادث. ومهما حدثت المخلوقات لم يحدث له علم بها بل حصلت مكشوفة له بالعلم الأزلي. والأزلي لا ابتداء لوجوده.وإذ قد علمت ذلك، فاعلم أن المُحْوج لتجدد العلم بتجدد المعلوم هو ذهاب العلم بالغفلة عنه وعُزُوبُه فلو فرض عدم العزوب بأن خُلقَ لنا علم بقدوم زيد عند طلوع الشمس ودام ذلك تقديرًا ولم يعزب بل استمر بعينه حتى طلعت الشمس، لكان قدوم زيد عند طلوع الشمس معلومًا لنا بذلك العلم من غير تجدد علم ءاخر. وعلم الله تعالى بالأشياء قديم فاستحال لقدمه عزوبه لأنه عدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه. فثبت علمه بنعيم الجنة وأحوال أهلها وأنفاسهم، وأنواع ءالام أهل النار وأنفاسهم التي لا انقطاع لها تفصيلاً بعلمه الأزلي. فبما قدمنا من بيان أنه لا يلزم التغير في علم الله بتغير أحوال المعلومات الجزئية بطل تمويه الفلاسفة الذي بنوا عليه إنكار علم الله بالجزئيات فإذا ثبت أنه لا يجوز تجدد علمه تعالى فما أوهم التجدد من الآيات القرءانية فليس المراد به ذلك كقوله تعالى في سورة الأنفال ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا … *﴾ ويجاب بأن قوله «وعلم» ليس راجعًا لقوله «الآن» بل المعنى لأنه علم أن فيكم ضعفًا بعلمه السابق في الأزل، وقولِهِ تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ … *﴾ [سورة محمد] فمعنى نعلم نميز للخلق من يجاهد ويصبر وكان هو عالمًا قبل، كما نقل البخاري [(481)] ذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى [(482)]. وهذا شبيه بقوله ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ … *﴾ [سورة الأنفال].وأما قولُه تعالى ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *﴾ [سورة الجن] فلا حجة فيه لمن يقول إن الرسل يطلعهم الله على جميع غيبه [(483)] إنما معناهُ أن الذي ارتضاهُ الله من رسولٍ يجعلُ له رصدًا أي حفظةً يحفظونه من بينِ يديهِ ومن خلفِهِ من الشيطانِ، «فإلا» هنا ليست استثنائيةً بل هي بمعنى «لكن» [(484)]، فيُفهَمُ من الآيةِ أن عِلمَ الغيبِ جميعه خاصٌّ بالله تعالى فلا يتطرقُ إليه الاستثناءُ فتكونُ الإضافَةُ في قوله تعالى ﴿ … عَلَى غَيْبِهِ … *﴾ للعمومِ والشمولِ من بابِ قول الأصوليين «المفردُ المضافُ للعمومِ» فيكونُ معنى غيبه أي جميع غيبه، وليس المعنى أن الله يُطلعُ على غيبِهِ من ارتضى من رسولٍ فإن من المقرَّرِ بينَ الموحّدين أن الله تعالى لا يساويه خلقُه بصفةٍ من صفاتِهِ، ومن صفاتِهِ العلمُ بكل شىءٍ قال تعالى ﴿ … وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *﴾ [سورة الأنعام] والعجب كيف يستدل بعض الناس بهذه الآية على علم الرسل ببعض الغيب إنما الذي فيها أن الله هو العالم بكل الغيب ولكن الرسل يجعل الله لهم حرسًا من الملائكة يحفظونهم. وأما اطلاع بعض خواص عباد الله من أنبياء وملائكة وأولياء البشر على بعض الغيب فمأخوذ من غير هذه الآية كحديث [(485)] «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». فلو كان يصحُّ لغيرِهِ تعالى العلم بكل شىء لم يكن لله تعالى تمدُّحٌ بوصفِهِ نفسَه بالعلم بكل شىء، فمن يقول إن الرسولَ يعلَمُ بكل شىء يعلمه الله جَعَلَ الرسولَ مساويًا لله في صفةِ العلمِ فيكونُ كمن قالَ «الرسولُ قادرٌ على كل شىء» وكمن قالَ «الرسولُ مريدٌ لكل شىءٍ» سواءٌ قالَ هذا القائل إن الرسولَ عالمٌ بكل شىء بإعلامِ الله لهُ أو بذاته فلا مَخْلَصَ له من الكفرِ.ومما يُرَدُّ به على هؤلاءِ [(486)] قولُهُ تعالى ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ … *﴾ [سورة الأنعام]، وقوله تعالى ﴿ … عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ … *﴾ [سورة الأنعام] فإنّ الله تبارَكَ وتعالى تمدَّحَ بإحاطتِهِ بالغيبِ والشهادةِ علمًا.
ومما يُرَدُّ به على هؤلاء أيضًا قوله تعالى ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ … *﴾ [سورة الأحقاف] فإذا كانَ الرسولُ بنصّ هذه الآيةِ لا يعلَمُ جميعَ تفاصيلِ ما يفعلهُ الله به وبأمتِهِ فكيفَ يتجرأُ متجرئ على قولِ إن الرسولَ يعلمُ بكل شىء، وقد روى البخاريُّ في الجامع حديثًا بمعنى هذه الآية وهو ما وَرَدَ في شأنِ عثمان بن مَظعون، فقائلُ هذه المقالة قد غلا الغُلوَّ الذي نَهَى الله ورسولُهُ عنه قالَ الله تعالى ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ … *﴾ [سورة المائدة]، وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «إياكم والغلوَّ فإن الغلو أهلَكَ من كَانَ قبلَكم» رواه ابن حبان [(487)]، وقد صحَّ أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال [(488)] «لا ترفعوني فوقَ منزلتي».وروى البخاريُّ في الجامع [(489)] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «إنكم محشورونَ حفاةً عُرَاةً غُرلًا ثم قرأ ﴿ … كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *﴾ وأولُ من يُكسى يوم القيامة إبراهيم وإنه سيجاء بأناس من أمتي فيؤخذُ بهم ذات الشمالِ فأقولُ هؤلاء أصحابي فيقالُ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدّينَ على أعقابِهِم منذ فارقتهم، فأقول سُحقًا سحقًا أقول كما قالَ العبدُ الصَّالح ﴿ … وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ … *﴾ إلى قوله ﴿ … الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *﴾».
ومن أعجب ما ظَهَرَ من هؤلاءِ الغُلاةِ لما قيلَ لأحدهم كيفَ تقولُ الرسولُ يعلَمُ كلَّ شىءٍ يعلمُهُ الله وقد أرسلَ سبعينَ من أصحابِهِ إلى قبيلةٍ ليعلّموهم الدّين فاعترضَتهُم بعضُ القبائل فَحَصَدوهم، فلو كانَ يعلَمُ أنه يحصُلُ لهم هذا هل كانَ يرسلهم؟ فقال نعم يُرسلهم مع عِلمِهِ بذلكَ. وهذا الحديثُ رواهُ البخاريُّ وغيرُهُ [(490)].
ومثلُ هذا الغالي في شدةِ الغلوّ رجلٌ كانَ يدَّعي أنه شيخُ أربعِ طُرُقٍ فقالَ الرسولُ هو المرادُ بهذه الآية ﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *﴾ وهذا مِن أَكفَرِ الكفرِ لأنه جَعَلَ الرسولَ الذي هو خَلقٌ من خَلقِ الله أزليًّا أبديًّا لأن الأوَّلَ هو الذي ليسَ لوجودِهِ بدايةٌ وهو الله بصفاتِهِ فقط.ـ[481] رواه الطبراني في المعجم الكبير (3/ 128). قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 21): «وإسناده حسن».
ـ[482] رواه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير: باب { … وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ … *} [سورة المائدة].
ـ[483] رواه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي: باب غزوة الرجيع، ومسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب ثبوت الجنة للشهيد.
ـ[484] الفقه الأكبر مع شرحه (ص/43 و136).
ـ[485] الرسالة القشيرية (ص/7)، نجم المهتدي (ص/199).
ـ[486] إتحاف السادة المتقين (2/ 155).
ـ[487] الاعتقاد (ص/22).
ـ[488] صحيح البخاري: كتاب التوحيد: باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرهما من الخلائق.
ـ[489] فتح الباري (13/ 439 – 440).
ـ[490] رواه البيهقي في سننه (2/ 260).
ابن تيمية يزعم أن الله يتكلم بحرف وصوت وأنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء
