بيان إثبات الوجود لله
قال الله تعالى ﴿ … أَفِي اللَّهِ شَكٌّ … *﴾ [سورة إبراهيم].
وروى البخاري وابن الجارود والبيهقي [(98)] من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه أنَّ أناسًا من أهل اليمن جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين فأنبئنا عن بَدء هذا الأمر ما كان فقال: «كان الله ولم يكن شىءٌ غيره». ورواية ابن الجارود: فأنبئنا عن أوّل هذا الأمر، وهي عند البخاري أيضًا [(99)]. ورواية البيهقي: «كان الله قبل كل شىء». وذلك في كتابه الأسماء والصفات [(100)].قال عبد العزيز بن عبد الرحمن في كتاب «الدليل الصادق على وجود الخالق» ما نصه [(101)]: «وتقرير البرهان على وجوده تعالى أن نقول: هذا العالم بجميع أجزائه من السموات والأرض وما بينهما وما فيهما حادث أي موجود بعد العدم وكل حادث لا بد له من محدث أي موجد فهذا العالم بجميع أجزائه لا بد له من محدث فقولنا هذا العالم بجميع أجزائه حادث يسمى المقدمة الصغرى وقولنا وكل حادث لا بد له من محدِث يسمى المقدمة الكبرى وقولنا فهذا العالم بجميع أجزائه لا بد له من محدث هو النتيجة وحيث كانت المقدمتان الصغرى والكبرى صحيحتين ثابتتين كانت النتيجة صحيحة ثابتة قطعًا. أما المقدمة الصغرى وهي قولنا العالم بجميع أجزائه حادث فوجه صحتها وثبوتها أن هذا العالم هو الأعيان والأعراض، والأعيان هي الجواهر وهي ما له قيام بذاته من الممكنات، ومعنى قيامه بذاته أن يتحيز بنفسه أي يشغل فراغًا بحيث يمتنع أن يحل غيره حيث حل ويكون تحيزه غير تابع لتحيز شىء أي لا يكون عروض التحيز له بواسطة شىء ءاخر بخلاف العَرَض كما يأتي وما له قيام بذاته إما مركب من الأجزاء وهو الجسم أو غير مركب كالجوهر الفرد. والعرض ما لا يقوم بذاته من الممكنات بل بغيره بأن يكون تابعًا له في التحيز فإنه لا يَعرِضُ له التحيز إلا بواسطة الجوهر الذي هو موضوعه وأما هو في ذاته فلا يشغل فراغًا بل الفراغ الذي يشغله الجوهر قبل اتصافه به هو الفراغ الذي يشغله مع اتصافه به من غير زيادة وذلك كالألوان وأصولُها السواد والبياض أو الحمرة والخضرة والصفرة أيضًا والبواقي التركيبُ والأكوانِ كالحركة والسكون والطعومِ وأنواعُها تسعة وهي المرارة والحرافة والملوحة والعفوصة والحموضة والقبض والحلاوة والدسومة والتفاهة ثم يحصل بحسب التركيب أنواع لا تحصى والروائحِ وأنواعُها كثيرة وليست لها أسماء مخصوصة.فإذا تقرر أن العالم أعيان وأعراض والأعيان أجسام وجواهر فنقول الكل حادث إلا أنه يستدل على حدوث الأعيان بحدوث الأعراض وتقرير البرهان على ذلك أن تقول الأعيان ملازمة للأعراض الحادثة وكل ملازم للأعراض الحادثة فهو حادث فينتج الأعيان حادثة. أما المقدمة الصغرى وهي قولنا الأعيان ملازمة للأعراض الحادثة فيتوقف إثباتها على جملة أمور:الأول إثبات الأعراض الزائدة على الأعيان لأن الفلسفي يقول لا نسلم إثبات زائد على الأعيان حتى يصح الاستدلال بحدوثها على حدوث الأعيان (والجواب) عن ذلك أن نقول إن اثبات زائد على الأعيان تتصف الأعيان به ضروري لا يحتاج لدليل إذ ما من عاقل إلا وهو يُحس أن في ذاته معانيَ زائدة عليها كالعلم وأضداده والصوت ونحو ذلك ولهذا قال بعض الأذكياء في الجواب عن ذلك يقال لهم نزاعكم لنا وقولكم لا نُسلّم وجود الأعراض إما أن تقولوا إن هذا النزاع منكم لنا موجود أو معدوم فإن قلتم لا وجود له خرجتم عن طور العقلاء وسقطت عنا وظيفة جوابكم من وجهين: أحدهما أنكم في عداد من لا عقل له لأن من لا عقل له هو الذي يقول كلامًا ثم يردفه على الفور بقوله ما قلت شيئًا، ومن لا عقل له لا يُحتاج إلى جوابه، وثانيهما إقراركم بأنكم لم تنازعونا ولا خالفتمونا فقد كفيتمونا مؤونة جوابكم وإن سلمتم أن نزاعكم لنا وُجد منكم فلا شك أن ذلك النزاع أمر زائد على الذات وهو الذي نعني بالعَرَض فقد سلمتم وجود العَرَض. فإن قالوا نحن ممن يقول بالحال والواسطة بين الوجود والعدم فنسلّم أن للأجرام صفات زائدة عليها ولا يلزم من زيادتها وجودها لاحتمال أن تكون واسطة بين الوجود والعدم.(قلنا) الحق أن لا حال وأن الحال محال فلا واسطة بين الوجود والعدم لأن الوجودَ يرجع في المعنى للثبوت والعدمَ يرجع في المعنى للنفي ولا واسطة بين الثبوت والنفي لأنهما نقيضان فلو كان بينهما واسطة لجاز ارتفاعهما بتخلف الواسطة عنهما مع أن النقيضين لا يجوز ارتفاعهما بالضرورة قطعًا، سلمنا ثبوت الواسطة فيلزم أن الأعيان تلازم صفاتٍ ثابتة فيصح الاستدلال بحدوثها على حدوث الأعيان وإن لم تنته تلك الصفات إلى درجة الوجود فالقدح بعدم وجودها مع تسليم ثبوتها لا يضر شيئًا في دليل الحدوث وإنما يضر بالدليل الإصرار على عدمها وهو باطل على الضرورة فلا حاجة إلى إطالة الاستدلال على وجودها.
الثاني إثبات ملازمة الأعيان للأعراض فإن الفلسفي يقول سلّمنا ثبوت الأعراض لكن لا نسلم الملازمة بين الأعيان والأعراض حتى يلزم حدوث الأعيان (والجواب) عن ذلك مشاهدة أن الجِرم لا ينفك عن الأعراض وأيضًا لا يُعقل جرم خال عن حركة وسكون أو بياض وسواد ونحوهما من الألوان لأن السكون مساو لقولنا لا حركة والسواد ونحوه من الألوان مساو لقولنا لا بياض ولا يُعقل جرم خال عن حركة ولا حركة وبياض ولا بياض لاستحالة ارتفاع النقيضين وأيضًا الأعيان لا تتحقق إلا بمشخّصات تميزها عن غيرها وهي أعراض ألبتة.الثالث إثبات حدوث الأعراض فإن الفلسفي يقول سلّمنا ملازمة الأعيان للأعراض لكن لا نسلم حدوث الأعراض حتى يلزم حدوث الأعيان الملازمة لها فإن ما نشاهده في بعض الأعيان من الحركة بعد السكون والضوء بعد الظلمة والسواد بعد البياض لا نسلم حدوثه لم لا يكون قبل طروه على الأعيان قائمًا بنفسه أو انتقل له من جرم ءاخر أو كان كامنًا فيه ثم ظهر؟ وهو في هذه الصور الثلاث قديم كما أن ما لا يشاهد حدوثه من الأعراض قديم وذلك كالأعراض القائمة ببعض الأعيان من السكون والألوان والأشكال والامتدادات (والجواب) عن الصورة الأولى وهي قيام العرض بنفسه أنه يلزم على ذلك قلب حقيقة العرض إذ حقيقته ما قام بغيره فلو قام بنفسه لزم قلب هذه الحقيقة وصيرورة العرض جوهرًا إذ القيام بالنفس من خواص الأعيان وأيضًا لا يُعقل صفة من غير موصوف فلا يُعقل حركة من غير متحرك مثلًا (والجواب) عن الصورة الثانية وهي انتقال العرض من جرم إلى ءاخر فهو أن من طبع العرض أن لا ينتقل من محل لمحل وأيضًا لو انتقل لكان بعد مفارقة الأول وقبل وصول الثاني قائمًا بنفسه وقد ظهر بطلانه، وأيضًا لو انتقل لزم قيام انتقال به وذلك الانتقال ينتقل أيضًا فيقوم به انتقال وذلك الانتقال ينتقل أيضًا فيقوم به انتقال وذلك يؤدي إلى التسلسل وقيام المعنى بالمعنى (والجواب) عن الصورة الثالثة وهي كمون العرض ثم ظهوره فهو أن الكمون والظهور يؤدي إلى اجتماع الضدين في المحل الواحد لأن الجوهر إذا تحرك مثلاً بعد أن كان ساكنًا وفرضنا أن السكون كامن فيه زمن حركته لزم اجتماع الضدين وهما الحركة والسكون ضرورة وأيضًا يلزم من كون الحركة مثلًا في الجوهر زمن سكونه قيامُ المعنى بمحل من غير أن يوجب له معنى إذ الحركة فيه وهو غير متحرك وهو خلاف المعقول وأيضًا فالكمون والظهور اللذان قاما بالعرض ويتعاقبان عليه إن كان ينعدم أحدهما عند وجود الآخر فقد نقضوا أصلهم في كمون الأعراض ولزمهم ما فروامنه وهو ملازمة الجواهر للحوادث، وإن قالوا بكمونهما أو ظهورهما أيضًا لزم التسلسل فقد ثبت بما ذُكر حدوث بعض ما نشاهده من الأعراض كالحركات والأصوات ونحوها. وأما البعض الآخر وهو ما لا يشاهد فيه الحدوث بعد العدم كألوان الكواكب وأشكالها وامتداداتها وسكون الأرض ونحو ذلك فالدليل على حدوثه هو قبوله للعدم ثم الحدوث فالساكن من الأعيان يجوز أن يتحرك وينعدم سكونه كما جاز ذلك فيما ماثله من متحركِ الأعيانِ كالفلك، وذو اللون المخصوص مثلاً يجوز أن ينعدم لونه ويتصف بغيره من الألوان كما اتصف به مماثله من الجواهر ومثل ذلك يقال في الأشكال والامتدادات، والجواهرُ كلها متماثلة فيستحيل أن يجوز في بعضها ما لا يجوز في الآخر من حيث ذاته فلو كان بعض الأعراض قديمًا لَما قبل أن ينعدم أبدًا أصلاً لأن ما ثبت قدمه يستحيل عدمه كما يأتي بيانه، وأيضًا إذا ثبت وجوب الحدوث لبعض الأعراض وجب أن يثبت لجميعها للتماثل في حقيقة العرضية إذ ما وجب لأحد الأمثال يجب لكلها لأن الأمثال يجب استواؤها فيما يجب ويجوز ويستحيل، وقد وجب الحدوث لبعض الأعراض قطعًا فكذلك يجب لسائرها لِمماثلتها إياه على أن ما لا يدرك بالمشاهدة حدوثه من الأعراض غير مخل بالغرض من الاستدلال على حدوث الأعيان بحدوث الأعراض لأنه يكفي في ذلك الاستدلال بما يدرك بالمشاهدة حدوثه من الأعراض كأفول الكواكب وإشراقها وحركة الأرض بالزلازل ونحو ذلك فقد ثبت بما قررنا صحةُ المقدمة الصغرى في دليل حدوث الأعيان وهي قولنا الأعيان ملازمة للأعراض الحادثة.أما المقدمة الكبرى في هذا الدليل وهي قولنا وكل ملازم للأعراض الحادثة فهو حادث فثبوت صحتها ظاهر لأن ملازم الأعراض الحادثة لا يصح أن يسبقها إذ لو سبقها لانتفت الملازمة وإذا لم يصح أن يسبقها يكون حادثًا مثلها وبالجملة فحدوث أحد المتلازمين يستلزم حدوث الآخر ضرورة. قالت الفلاسفة لا نسلّم أن كل ملازم للأعراض الحادثة فهو حادث، قولكم لأن ملازم الأعراض الحادثة لا يصح أن يسبقها مسلّم وقولكم فيكون حادثًا مثلها ممنوع لأن ذلك إنما يلزم لو كانت الحوادث التي لازمت الأعيان لها مبدأ يُفتتح به عددها ونحن نقول لا مبدأ لتلك الحوادث بل ما من حادث إلا وقبله حادث لا إلى أول فلم يلزم من قدم الأعيان على هذا التقدير سبقها الأعراض الحادثة اللازمة لها لأن نوعها الذي لا تنفك عنه الأعيان قديم (والجواب) من أوجه كثيرة ذكرها المتكلمون منها برهان التطبيق وهو أن نفرض من الحوادث سلسلة من الآن إلى ما لا نهاية له في جانب الماضي ثم نفرض سلسلة أخرى من زمن الطوفان إلى ما لا نهاية له في جانب الماضي أيضًا ثم نطبق السلسلتين بأن نجعل الأول من السلسلة الأولى بإزاء الأول من السلسلة الثانية والثاني بإزاء الثاني وهكذا فإن كان بإزاء كل واحد من الأولى واحد من الثانية لزم مساواة الناقص للزائد وهو محال وإن لم يكن بأن وُجد في الأول ما لا يوجد بإزائه شىء من الثانية لزم أن تنقطع الثانية وتتناهى ويلزم منه تناهي الأولى لأنها لا تزيد على الثانية إلا بقدر متناه وهو الذي من الآن إلى زمن الطوفان والزائد على المتناهي بقدر متناه يكون متناهيًا بالضرورة ويصح أن تجعل السلسلة واحدة ثم يؤخذ فرد من ءاخر السلسلة ثم يؤخذ الفرد الذي قبله ويترك الفرد الذي قبلهما ثم يؤخذ فرد ويترك فرد وهكذا ويجعل المأخوذ سلسلة والمتروك أخرى وتطبق السلسلتان كما مر (قالوا) هذا منقوض بمراتب العدد بأن تطبق جملتان منه إحداهما بتضعيف الواحد مرات غير متناهية والثانيةبتضعيف الاثنين كذلك بأن يكون كل فرد من أفرادها اثنين لا إلى نهاية فيجعل الواحد من إحداهما بإزاء الاثنين من الأخرى فتكون إحداهما أزيد من الأخرى قطعًا ولم يلزم من ذلك تناهي إحداهما ولا المساواة المدعى امتناعها. (والجواب) أن التطبيق المستدل به على بطلان التسلسل إنما اعتبر بين الأمور الموجودة كالأعراض لا العدمية الوهمية المحضة كالأعداد لأنها منقطعة بانقطاع الوهم. وقولهم الأعداد لا نهاية لها تخييل لكونها لا تقف عند حد بل ما من عدد إلا ويُتصور فوقه عدد ءاخر وأما كل ما وُجد بالفعل منها في نفس الأمر خارجًا أو ذهنًا فمتناهٍ (فإن قالوا) هذا منقوض أيضًا بمعلومات الله ومقدوراته فإن المعلومات أكثر عددًا من المقدورات لأن القدرة خاصة بالجائزات والعلمَ عام يتعلق بالواجبات والمستحيلات أيضًا مع أن كلًّا من المقدورات والمعلومات غير متناه في الأعداد (قلنا) إن معنى عدم تناهي المقدورات عدم وقوفها عند حد نظير ما سبق في الأعداد فما من مقدور إلا ويتصور وراءه مقدور ءاخر إذ لا يمكن تناهي الجائزات في التصور وليس الموجود من المقدورات إلا قدرًا متناهيًا وكذا المعلومات الوجودية وأما العدمية فبمعزل عن مورد الدليل من الموجودات (ومنها) برهان الأحكام وتقريره أن تقول لو وُجدت حوادث لا أول لها للزم صحة الحكم عند وجود كل حادث بأنه فرغ وانقضى قبله حوادث لا أول لها ومن ضرورة هذا الحكم أن يسبق كلَّ فرد من أفراده حوادث ليُحكم عليها بالانقضاء فيلزم أن يسبق جنسَ المحكوم عليه وهو أزلي جنسُ الحكم وهو أزلي أيضًا وسَبْقُ الأزلي على الأزلي محال على الضرورة لِما فيه من التناقض إذ المتأخر لا يكون أزليًّا لأن السبقية عليه تنافي أزليته.(فإن قالوا) إن جنس الحكم ليس أزليًّا بل ينتهي لفرد لا يحكم بأنه فرغ قبله غيره (قلنا) فقد انقطعت الحوادث وبطل الحكم بوجود حوادث لا أول لها (واعلم) أن الحكم المذكور وإن كان من الأمور الاعتبارية إلا أنه على تقدير وجود حوادث لا أول لها يكون الحكم المذكور ثابتًا ومتحققًا في نفس الأمر وقد حقق العلامة السعد في شرح المقاصد أن الدليل على بطلان التسلسل جار في الأمور الاعتبارية أي الموجودة في نفس الأمر بخلاف ما لا تحقق له من الأمور الاعتبارية كبحر من زئبق فإن هذه عدمية وهمية محضة كما تقدم في الأعداد (ومنها) أنه لو كانت الحوادث لا أول لها للزم اجتماع الوجود الأزلي مع عدمه، وبيان الملازمة أن كل حادث من تلك الحوادث مسبوق بعدم لا أول له وتلك العدمات كلها مجتمعة في الأزل إذ لا ترتيب فيها وجنس الحوادث أزلي أيضًا لأنها لا أول لها وذلك الجنس لا يتحقق وجوده إلا في حادث من أفراده فيلزم أن يكون ذلك الحادث أزليًّا لكن عدمه السابق عليه أيضًا أزلي لِما سبق أن عدم كل حادث أزليٌّ فقد لزم مقارنة وجود الشىء لعدمه لأنهما أزليان معًا واجتماع وجود الشىء مع عدمه محال على الضرورة وفيه أيضًا مصاحبة السابق وهو العدم للمسبوق وهو الوجود الحادث وفيه الجمع بين متناقضين وهو الحدوث والأزلية.(فإن قالوا) لا نسلّم أن العدم يصاحبه شىء من الحوادث بل العدم قبل جميعها (قلنا) لزم أن يكون لجميع الحوادث أول وهم يقولون لا أول لها هذا خلف وتهافت في القول ويلزمهم وجود سابق ومسبوق في الأزل وذلك لا يعقل (ومنها) أنه يلزم على وجود حوادث لا أول لها أن يكون دخل في الوجود وفرغ من حركات الأجرام الفلكية ونحوها على الترتيب واحدًا بعد واحد عدد لا نهاية له والجمع بين الفراغ وعدم النهاية جمع بين متناقضين فيكون محالا على الضرورة ويلزم عليه أن يكون وجود سائر الحوادث الآن محالا لتوقفه على المحال وهو فراغ ما لا نهاية له (قالوا) ما ألزمتمونا من استحالة وجود حوادث لا نهاية لها يلزمكم مثله في نعيم الجنة إذ قلتم إن حوادث نعيمها ومتجددات أفراحها وسرورها لا نهاية له (وجوابه) أن يقال لهم لبَّستم بلفظ مشترك وهو لفظ حوادث لا نهاية لها فإنها تطلق على وجهين بمعنى لا نهاية لها بحسب المبدأ أي حوادث لا أول لها وبمعنى لا نهاية لها بحسب الآخِر أي حوادث لا ءاخر لها والذي قلتم به ورددناه الأول وفيه وُجدت أدلة الاستحالة وانعدم فيه دليل الجواز. وأما ما قلناه في نعيم الجنة من الحوادث فهو من القسم الثاني أي الحوادث التي فيها لا ءاخر لها بمعنى أنها لا تنقطع أبدًا وأما كل ما وجد منها فيما مضى إلى زمن الحال فهو متناه له مبدأ ومنتهى فلم يلزم فيه الجمع بين الفراغ وعدم النهاية المتناقضين ولا غيرِه من أنواع الاستحالة كما لزم فيما ادعيتم، وليس من حقيقة الحادث أن يكون له ءاخر ومن حقيقته أن يكون له أول.وقد ضرب أئمتنا لِما ادعوه من بطلان حوادث لا أول لها ولِما ادعيناه من صحة حوادث لا ءاخر لها مثالين يستبين بهما أمرُ الاستحالة فيما ادعوه وأمرُ الجواز فيما ادعيناه فمثلوا الأول بملتَزِم قال لا أعطي فلانًا في اليوم الفلاني درهمًا حتى أعطيه درهمًا قبله ولا أعطيه درهمًا قبله حتى أعطيه درهمًا قبله وهكذا لا إلى أول فمن المعلوم ضرورة أن إعطاء الدرهم الموعود به في اليوم الفلاني محال لتوقفه على محال وهو فراغ ما لا نهاية له بالإعطاء شيئًا بعد شىء ولا ريب أن ما ادعوه من حوادث لا أول لها مطابق لهذا المثال فإن إعطاء الفاعل للفلك مثلًا الحركة في زماننا هذا وفي غيره من الأزمان الماضية متوقف على إعطائه قبله من الحركات شيئًا بعد شىء مما لا نهاية له فالحركة للفلك في الزمان المعين نظير الدرهم الموعود به في الزمن المخصوص والحركات التي لا تتناهى قبلها نظير الدراهم التي لا تتناهى قبل ذلك الدرهم فيكون وجود الحركة للفلك في هذا الزمان مثلًا مستحيلاً كما استحال وجود الدرهم الموعود به في الزمان المعين للشخص. ومثال ما ادعيناه في نعيم الجنة كما لو قال الملتزم لا أعطي فلانًا درهمًا في زمن إلا وأعطيه درهمًا بعده وهكذا لا إلى ءاخر فهذا لا ريب لعاقل في جوازه إذ حاصله التزام الملتزم عدم قطع العطاء بعد ابتدائه فهذا المثال لا تخفى مطابقته لِما ادعيناه في نعيم الجنة للمؤمنين ولا لِما ندعيه في عذاب جهنم للفلاسفة القائلين بقدم العالم وأضرابهم من الطبائعيين وسائر الكافرين، وبما قررنا ثبت قطعًا صحة قولنا في الاستدلال على حدوث الأعيان بأن الأعيان ملازمة للأعراض الحادثة وكل ملازم للحادث فهو حادث.(واعلم) أنه بعد ما ثبت استحالة حوادث لا أول لها يصح لك أن تستدل بحدوث ما يشاهَد حدوثه من العالم كالحيوان والنبات والمعادن على حدوث سائر العالم ووجه الاستدلال تحققُ المماثلة بين النباتات والحيوانات ونحوها وبين العالم كله إذ الحيوانات والنباتات ونحوها أجرام متحيزة وأعراض قائمة بها وسائر العالم كذلك والمثلان يجب استواؤهما فيما يجب ويجوز ويستحيل وقد وجب الحدوث للحيوانات والنباتات ونحوها قطعًا فكذلك يجب لسائر العالم لِمماثلته إياها إذ لو اختلف العالم بأن يكون بعضه قديمًا وبعضه حادثًا لكان مختلفًا فيما يجب. وبيان الملازمة أن القدم لا يكون الا واجبًا للقديم وبرهانه ما يأتي من كون القدم لو كان جائزًا للقديم لجاز عليه سبق العدم فيحتاج إلى مخصص يخصصه بالوجود بدلا من العدم المجوَّز وهو نقيض القدم المفروض فيلزم أن يكون قديمًا غير قديم وهو تهافت وإذا ثبت أن القدم لا يكون إلا واجبًا للقديم لزم على اختصاص أحد المثلين به أن يختص أحد المثلين عن مثله بحكم واجب وهو محال لِما يلزم عليه من اجتماع متنافيين وهو أن يكون مِثْلًا غير مِثْلٍ لأن التماثل يقتضي استواءَ المثلين في جميع صفات النفس أي الصفات التي ليس لها وجود زائد على الذات واختصاصَ أحدهما بحكم واجب وهو لا يكون إلا صفة نفسية أو لازمًا لها يوجب انفراد أحدهما عن مثله بصفة نفسية فلا يشتركان في جميع صفات النفس فلا يكون إذًا مثلًا له كيف وقد تحقق أنه مثل له فقد لزم أن يكون مثلًا غير مثل وهو تهافت.وبما قررنا ثبت قطعًا وجوب الحدوث للعالم كله من أعيان وأعراض وظهر صحة المقدمة الصغرى في برهان وجود الصانع تقدس وتعالى وهي قولنا العالم بجميع أجزائه من السموات والأرض وما بينهما وما فيهما حادث. وأما المقدمة الكبرى وهي قولنا وكل حادث لا بد له من محدث فمنهم من يدعي أنها ضرورية حتى قال الإمام فخر الدين في المعالم إن العلم بها مركوز في فطرة طبائع الصبيان فإنك إذا لطمت وجه الصبي من حيث لا يراك وقلت له إنما حصلت هذه اللطمة من غير فاعل ألبتة لا يصدقك بل في فطرة البهائم فإن الحمار إذا أحس بصوت الخشبة فزع لأنه تقرر في فطرته أن حصول صوت الخشبة بدون الخشبة محال. ومنهم من يقررها بوسط أي بدليل فيقول لو لم يكن للعالم محدِث بل حدث بنفسه لزم أن يكون أحد الأمرين المتساويين مساويًا لصاحبه راجحًا عليه بلا سبب وهو محال وبيان ذلك أن العالم قبل وجوده كان وجوده مساويًا لعدمه لأنه يجوز أن يوجد ويجوز أن يبقى على عدمه فنسبتا الوجود وبقاء العدم إليه متساويتان فلما وُجد وزال عدمه علمنا أن وجوده ترجَّح على عدمه وقد كان هذا الوجود مساويًا للعدم وإذا كان كذلك فلا يصح أن يكون ترجَّح على العدم بنفسه بلا مرجح وإلا للزم اجتماع الضدين وهما المساواة والرجحان المستلزِم لاجتماع النقيضين لأن الرجحان يستلزم لا مساواةَ والمساواةُ تستلزم لا رجحان فإذا اجتمع الرجحان والمساواة اجتمع مساواة ولا مساواةَ ورجحانٌ ولا رجحانَ وهذا باطل بالضرورة.ونظير اجتماع المساواة لطرفي الممكن ورجحان أحدهما على الآخر من غير سبب ميزان اعتدلت كفتاه ورجحت إحداهما على الأخرى بلا سبب فرجحان إحدى الكفتين على الأخرى مع فرض تساويهما لا بد له من مرجح وإلا لزم المحذور وهو اجتماع الضدين الرجحان والمساواة وهذا كما ترى مبني على أن الوجود والعدم بالنظر إلى ذات الممكن سيان، وأما إن قلنا إن العدم أولى به من الوجود لأن العدم هو السابق فالأصل بقاؤه ولعدم احتياجه إلى سبب بخلاف الوجود فإنه يحتاج لسبب وما لا يحتاج الشىء فيه لسبب أولى به مما يحتاج لسبب وعلى هذا فاللازم على وجود العالم بنفسه ترجُّحُ المرجوح من غير مرجح وهو أقوى في الاستحالة من اللازم على القول الأول.
وبما قررنا ظهر صحة البرهان على وجود الصانع تقدس وتعالى وهو قولنا العالم بجميع أجزائه حادث وكل حادث لا بد له من محدِث فالعالم بجميع أجزائه لا بد له من محدِث وهذا الذي يستفاد بالدليل العقلي. وأما كون ذلك المحدِثِ يسمى اللهَ فهو مستفاد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لا مدخل للعقل في التسمية، ووجه استفادة ذلك منهم عليهم الصلاة والسلام أنه إذا ثبت بالأدلة العقلية وجود الصانع وأنه واحد لا شريك له وأخبرت الرسل المؤيدة بالأدلة المُثبِتَةِ لصدقهم بأن ذلك الصانع الواحد الذي لا شريك له اسمه الله كان ذلك دليلاً قاطعًا على تلك التسمية.
(واعلم) أن الملل كلَّها مؤمنها وكافرها اتفقت على وجود الصانع تقدس وتعالى وعلى حدوث ما سواه عزَّ وجلَّ ولم يخالف في ذلك إلا شرذمة من الفلاسفة وتبعهم على ذلك بعض من ينسُب نفسه للإسلام وليس له فيه نصيب ومذاهبهم ركيكة جدًّا لا يرضى بمقالتهم مؤمن بل ولا مطلق عاقل إلا من سُلب عقله وإيمانه فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله وسيأتي ذكر مذاهبهم في الطبيعيات» اهـ.ـ[98] رواها مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا.
ـ[99] رواه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … *} [سورة الروم]، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 3).
ـ[100] رواه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب { … وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ … *} [سورة هود].
ـ[101] الأسماء والصفات (ص/231).
