بيان الإيمان والإسلام والردّة – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

بيان الإيمان والإسلام والردّة


اعلم أن الإيمان لغة التصديق، وشرعًا تصديق مخصوص، وهو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. والإسلام لغة الانقياد، وشرعًا انقيادٌ مخصوص، وهو الانقياد لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالنطق بالشهادتين.والإسلام والإيمان متلازمان لا يُقبل أحدهما بدون الآخر وإن كانا مختلفين من حيث معنياهما الأصليان، فقد قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: «لا يكون إيمان بلا إسلام ولا إسلام بلا إيمان فهما كالظهر مع البطن» اهـ فكما أن الظهر لا ينفصل عن البطن مع أنهما مختلفان فكذلك الإيمان لا ينفصلُ عن الإسلام والإسلام لا ينفصل عن الإيمان، فمَن ءامن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدّق ذلك بالنطق بالشهادتين بلسانه فهو مسلم مؤمن إن مات على ذلك لا بُدَّ أن يدخلَ الجنّة.
وأمّا قول الله عزّ وجلّ ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … *﴾ [سورة الحجرات] فالمراد بأسلمنا فيه الإسلام اللغوي الذي هو الانقياد لا الشرعيُّ، حيث إنّ هؤلاء الأعراب كانوا يظهرون للنّاس أنهم يحبّون الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم منقادون له خوفًا من القتل وفي قلوبهم كره النبيّ.
قال أبو حيّان [(71)] في تفسير قوله تعالى ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … *﴾ [سورة الحجرات] ما نصّه: «فهو اللفظ الصادق من أقوالهم وهو الانقياد والاستسلام ظاهرًا». اهـ
وقال القرطبي [(72)]: «ومعنى ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … *﴾ [سورة الحجرات] أي استسلمنا خوف القتل والسبي وهذه صفة المنافقين» اهـ فليس في هذه الآية أن هؤلاء الأعراب كانوا مسلمين حقيقة غيرَ مؤمنين.وأما حديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تَبَعًا لما جئت به» [(73)]، وحديث: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»، والحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده» [(74)] ونحو هذا فليس المرادُ به نفيَ أصل الإيمان عنه بل المراد نفيُ الإيمان الكامل الذي يكون به متبعًا للنبيّ اتباعًا كاملاً. قال الحافظ ابن حجر [(75)] في الفتح في هذا الحديث الأخير ما نصّه: «قوله «لا يؤمن» أي إيمانًا كاملًا» اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم [(76)] ما نصّه: «قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يحبّ لأخيه» أو قال «لجاره ما يحبّ لنفسه» هكذا هو في مسلم «لأخيه» أو «لجاره» على الشك، وكذا هو في مسند عبد ابن حميد على الشك [(77)]، وهو في البخاري وغيره: «لأخيه» من غير شك، قال العلماء رحمهم الله معناه لا يؤمن الإيمان التَّام وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة» اهـ.
فلذلك لا يقال: فلانٌ مسلم ولكنه ليس بمؤمن أو العكس، بل يقال فلان كامل الإيمان أو ناقص الإيمان؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، فمَن ءامن بالله ورسوله وأدّى الواجبات واجتنب المحرمات فهذا مسلم مؤمن وإيمانه كامل، ومَن ترك بعض الواجبات كالصلوات الخمس أو ارتكب بعض المحرّمات كأكل الربا وشرب الخمر فهذا مسلم مؤمن وإيمانه ناقص.قال النووي في شرح مسلم [(78)] باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ما نصّه: «في الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرقُ السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمر حين يشربها وهو مؤمن» الحديث [(79)]، وفي رواية [(80)]: «ولا يغُلُّ أحدكم حين يَغُل وهو مؤمن»، وفي رواية [(81)]: «والتوبة معروضة بعد»، هذا الحديث ممّا اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون إنّ معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشىء ويراد نفي كماله ومختاره كما يقال: لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الإبل ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأوّلناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره [(82)]: «مَن قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق»، وحديثِ عُبادة بن الصامت الصحيح المشهور [(83)] أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا إلى ءاخره، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: «فمَن وَفَى [(84)] منكم فأجره على الله، ومَن أصاب من ذلك شيئًا فَعُوقب في الدنيا فهو كفّارة له، ومَن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه»، فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عزَّ وجلَّ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَآءُ … *﴾ [سورة النساء]، مع إجماع أهل الحق على أنّ الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان إن تابوا سقطت عقوبتهم وإن ماتوا مصرّين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنّة أوَّلا، وإن شاء عذّبهم ثمّ أدخلهم الجنّة، وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، ثم إنّ هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير» انتهى كلام النووي.ـ[71] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، والترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: باب 59، والنسائي في سننه: كتاب الإيمان وشرائعه: باب علامة الإيمان.
ـ[72] تفسير النهر الماد (مجلد 3 – القسم الثاني ص/982).
ـ[73] الجامع لأحكام القرءان (16/ 348).
ـ[74] رواه الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 269)، وابن أبي عاصم في السنة (ص/12)، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 289): «رجاله ثقات»، وقال النووي في الأربعين: حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.ـ[75] صحيح البخاري: كتاب الإيمان: باب حبّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان.
ـ[76] فتح الباري (1/ 58).
ـ[77] شرح صحيح مسلم (2/ 16).
ـ[78] المنتخب من مسند عبد بن حميد (ص/355).
ـ[79] شرح صحيح مسلم (2/ 41 – 42).
ـ[80] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الاشربة: باب قول الله تعالى { … إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [سورة المائدة]، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله.
ـ[81] صحيح مسلم المصدر السابق.
ـ[82] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الحدود: باب إثم الزناة.
ـ[83] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يسرني أن عندي أحد هذا ذهبا».
ـ[84] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب علامة الإيمان حب الأنصار، والنسائي في سننه: كتاب البيعة: باب ثواب من وفَّى بما بايع عليه.

تلازم الإسلام والإيمان من حيث الصحة والقبول

بِمَ ينتفي اسم الإيمان عن المؤمن