بيان الكلام المذموم والكلام الممدوح – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

بيان الكلام المذموم والكلام الممدوح

قال الإمام الحافظ علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر مؤرخ الشام الدمشقي المتوفى سنة خمسمائة وإحدى وسبعين في كتابه الذي ألّفه في الدفاع عن الإمام أبي الحسن الأشعري وبيَّن فيه كذب من افترى عليه بعد كلام ما نصه [(35)]: «والكلام المذموم كلام أصحاب الأهوية وما يزخرفه أرباب البدع المردية، فأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء ومن يَعلمُه وقد كان الشافعي يحسنه ويفهمهوقد تكلم مع غير واحد ممن ابتدع وأقام الحجة عليه حتى انقطع، قال الربيع بن سليمان [(36)]: «حضرت الشافعي وحدثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد، فسأل حفصٌ الفرد عبد الله بن عبد الحكم فقالما تقول في القرءان، فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج عليه الشافعيُّ فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرءان كلام الله غير مخلوق وكفَّر حفصًا الفرد قال الربيعفلقيت حفصًا الفرد في المسجد بعدُ فقالأراد الشافعي قتلي». اهـ قال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان [(37)] في باب القول في إيمان المقلّد والمرتاب ما نصه: «ثم بسط الحليمي رحمه الله تعالى الكلام في التحريض على تعلُّمه إعدادًا لأعداء الله عزّ وجلَّوقال غيره في نهيهم عن ذلك: إنما هو لأن السَّلف من أهل السُّنَّة والجماعة كانوا يكتفون بمعجزات الرسل صلوات الله عليهم على الوجه الذي بيّنا، وإنما يشتغِلُ في زمانهم بعلم الكلام أهلُ الأهواء فكانوا يَنْهَون عن الاشتغال بكلام أهل الأهواء.ثم إنَّ أهل الأهواء كانوا يَدَّعون على أهل السُّنَّة أنَّ مذاهبهم في الأصول تخالف المعقول فقيَّض الله تعالى جماعة منهم للاشتغال بالنظر والاستدلال حتى تَبحروا فيه، وبينوا بالدلائل النيرة والحجج الباهرة أن مذاهب أهل السنَّة توافق المعقول كما هي موافقة لظاهر الكتاب والسنّة، إلا أنَّ الإيجاب يكون بالكتاب والسنّة فيما يجوز في العقل أن يكون غير واجب دون العقلوقد كان من السلف من يشرع في علم الكلام ويَرُدُّ به على أهل الأهواء.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أحمد بن سهل، ثنا إبراهيم ابن معقل، ثنا حَرملة، ثنا ابن وهب، ثنا مالك أنه دخل يومًا على عبد الله بن يزيد بن هرمز فذكر قصة ثم قالوكان – يعني ابن هرمز – بصيرًا بالكلام وكان يردُّ على أهل الأهواء، وكان من أعلم الناس بما اختلفوا فيه من هذه الأهواء».اهـ
فإن قيل: قد ذمّ علم الكلام جماعةٌ من السلف، فروي عن الشعبي أنه قال: «من طلب الدين بالكلام تزندق [(38)]، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس [(39)]، ومن طلب غريب الحديث كذب [(40)]». وروي مثله عن الإمام مالك والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة.
قلنا: أجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله [(41)]: «إنما يريدون والله أعلم بالكلام كلام أهل البدع فإن في عصرهم إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنّة فقلَّما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد». اهـقال ابن عساكر [(42)]: «فهذا وجه في الجواب عن هذه الحكاية، وناهيك بقائله أبي بكر البيهقي فقد كان من أهل الرواية والدرايةوتحتمل وجهًا ءاخر وهو أن يكون المراد بها أن يقتصر على علم الكلام ويترك تعلّم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام، ويرفض العمل بما أُمِر بفعله من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل ما أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من الأحكام. وقد بلغني عن حاتم الأصم وكان من أفاضل الزهّاد وأهل العلم أنه قالالكلام أصل الدين والفقه فرعه والعمل ثمره، فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل دون الكلام والفقه ابتدع، ومن اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسّق، ومن تفنّن في الأبواب كلها تخلص» اهـ وقد روي مثل كلام حاتم عن أبي بكرٍ الورّاق.
قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء [(43)]: «هذه المسائل التي تلقاها الإمامان الأشعري والماتريدي هي أصول الأئمة رحمهم الله تعالى، فالأشعري بنى كتبه على مسائل من مذهب الإمامين مالك والشافعي أخذ ذلك بوسائط فأيدها وهذبها، والماتريدي كذلك أخذها من نصوص الإمام أبي حنيفة» اهـ.
والإمام أبو حنيفة وصاحباه أول من تكلّم في أصول الدين بالتوسّع وأتقنها بقواطع البراهين على رأس المائة الأولى، وقد ذكر الأستاذ عبد القاهر البغدادي أن أول متكلمي أهل السنّة من الفقهاء أبو حنيفة والشافعي.وقد صنّف سيد المحدّثين في زمانه محمّد بن إسمعيل البخاري – المتوفى سنة 256هـ – كتاب (خلق أفعال العباد)، وصنّف المحدث نعيم بن حماد الخزاعي وهو من أقران الإمام – المتوفى في حبس الواثق سنة 228هـ – كتابًا في الردّ على الجهمية وغيرهم، وصنّف المحدّث محمّد بن أسلم الطوسي – المتوفى سنة 242هـ – وهو من أقران الإمام أحمد أيضًا في الردّ على الجهمية، وقد ردّ على المعتزلة فأجاد بالتأليف ثلاثة من علماء السنّة من أقران الإمام أحمد بن حنبل الحارث المحاسِبي والحسين الكرابيسي وعبد الله بن سعيد بن كُلاّب – المتوفى بعد الأربعين ومائتين بقليل – ويمتاز الأول بإمامته أيضًا في التصوف.
وقد صنّف إماما أهل السنّة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي المصنفات العظيمة في الردّ على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج المنقول والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي فلَّ بها حَدَّهم وقلل عددهم. وكانت وفاة الأشعري في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة للهجرة، وتوفي الشيخ أبو منصور بعد وفاة الأشعري بقليل.وصنّف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الردّ على المبتدعة والمخالفين للإسلام بالحجج الدامغة الكثيرة والمناظرات العديدة قطعوا بها المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة، كما قطعوا غيرهم من المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجّمين، ورفعوا لواء مذهب الأشعري والماتريدي في الخافِقَيْن [(44)] وأبرزهم في نشر مذهب الأشعري ثلاثة: الأستاذ أبو بكر بن فُورَك، وأبو إسحق الأسفراييني، والقاضي الإمام أبو بكر الباقلاني، فالأولان نشراه في المشرق، والقاضي نشره في المشرق والمغرب، فما جاءت المائة الخامسة إلا والأمة الإسلامية أشعرية وماتريدية لم يشذّ عنها سوى نزر من المعتزلة وشرذمة من المشبّهة وطائفة من الخوارج؛ فلا تجد عالمًا محقّقًا أو فقيهًا مدققًا إلا وهو أشعري أو ماتريدي. وما حال هؤلاء المنكرين لعلم الكلام إلا كما قال الشاعر فيهم: [البسيط]
          عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم      وما عليه إذا عابوه من ضررِ


    ما ضرَّ شمسَ الضحى في الأفْقِ طالعة        أنْ لا يَرى ضَوْءَها من ليس ذا بصرِ


فائدة مهمة. قال الشيخ الفقيه الأصولي الزركشي في كتابه تشنيف المسامع [(45)] ما نصه: «قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي [(46)]: أعاد الله هذا الدين بعدما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري وأبي نعيم الإستراباذي، وقال أبو إسحق المَرْوَزيسمعت المَحاملي يقول في أبي الحسن الأشعريلو أتى الله بقُراب الأرض ذنوبًا رجوت أن يغفر الله له لدفعه عن دينه، وقال ابن العربيكانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجزهم في أقماع السماسم» اهـ.ومثل هذا يقال في أبي منصور الماتريدي لأنه مثله قام بتقرير عقيدة السلف بالأدلة النقلية والعقلية بإيضاح واسع، فقد جمع هذان الإمامان الإثبات مع التنزيه فليسا على التشبيه ولا التعطيل ولعن الله من يسمي الأشعري أو الماتريدي معطلاً، فهل خالفا التنزيه الذي ذكره الله بقوله [سورة الشورى] فإنهما نفيا عن الله الجسمية وما ينبني عليها، وهذا ذنبهما عند المشبهة [(47)]. فإن المشبهة قاست الخالق بالمخلوق فنفت موجودًا ليس جسمًا، والإمامان ومن تبعهما وهم الأمة المحمدية قالوا: إن الله لو كان جسمًا لكان له أمثال لا تحصى.وهذا هو دين الله الذي كان عليه السلف الصالح وتلقاه عنهم الخلف الصالح، وطريقة الأشعري والماتريدي في أصول العقائد متحدة. فالمذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح هو ما عليه الأشعرية والماتريدية [(48)]. فقد ثبت أن الرسول عليه السلام أخبر بأن جمهور أمته لا يضلون وذلك من خصائص هذه الأمة، ويدل على ذلك ما رواه الترمذي [(49)] وابن ماجه وغيرهما «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة» وعند ابن ماجه زيادة «فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم»، ويقوي هذا الحديث الحديث الموقوف [(50)] على أبي مسعود البدري: «وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة» قال الحافظ ابن حجر [(51)]: «وإسناده حسن»، والحديثُ الموقوف [(52)] على عبد الله بن مسعود وهو أيضًا ثابت عنه: «ما رءاه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رءاه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح»، قال الحافظ ابن حجر [(53)]: «هذا موقوف حسن». وقد روى أبو داود [(54)] من حديث معاوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة»، وله شاهد صحيح من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» رواه ابن ماجه وأحمد وأبو يعلى [(55)]، قال الحافظ البوصيري [(56)]: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات»، فلا التفات إلى من يشكك في صحته ومعنى: «كلها في النار إلا واحدة» أن الاثنتين والسبعين بعضهم كفار مخلدون في النار وبعضهم ليسوا مخلدين وتفصيل هذه الفرق مذكور في كتاب أبي منصور البغدادي وغيره.وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري النكير الشديد على الطاعنين في الأشاعرة وإمامهم أبي الحسن وأنه لم يبتدع في أصول الدين ما يخالف معتقد السلف وإنما شرحه بإيراد الأدلة وذكر أن منهم كثيرًا من أهل الحديث كالحافظ البيهقي والحافظ الخطيب البغدادي والحافظ أبي نعيم الأصبهاني.
قال وأنشدني الشيخ الإمام الحافظ أبو المحاسن عبد الرزاق بن محمد بن أبي نصر بن محمد الطَّبسي بنيسابور قال أنشدنا إمام الأئمة أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري لنفسه: [السريع]

           شيئان من يعذُلُني فيهما       فَهْوَ على التّحقيق مني بَرِي


       حُبُّ أبي بكرٍ إمامِ الهُدَى        ثم اعتقادي مذهب الأشعري
 [(57)]


فكان الأشعري وأبو منصور الماتريدي أوضحا ما كان عليه السلف بتقرير الأدلة بطريق الجمع بين الاستدلال بالنقل وبين الاستدلال بالعقل فهما إماما أهل السنة.ـ[35] التبصير في الدين (ص/184).
ـ[36] في الأصل المطبوع «فلم».
ـ[37] راجع الكتاب المذكور (ص/339).
ـ[38] مناقب الشافعي للرازي (ص/194 – 195)، الأسماء والصفات (ص/252).
ـ[39] شعب الإيمان (1/ 95).ـ[40] معنى من طلب الدين بالكلام تزندق المراد بالكلام كلام أهل البدع أي ما أصلوه في= = العقائد من معتزلة وخوارج ومشبهة ومرجئة وغيرهم لأن هذا ليس مبنيًّا على موافقة الكتاب والسنة بل بُنِيَ على ما يوافق ءاراء أولئك وذلك الكلام الذي ذمَّهُ الشافعي وليس علم الكلام الذي رتبه أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي لأن هذا موافق لما كان عليه مَن قبلهما من الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وليس مخالفًا، إنما انفرد هذان بتوسيع بيان وجوه الدلالة المستمدة من الكتاب والسنة.
ـ[41] ومعنى ومن طلب المال بالكيمياء أفلس: المراد بالكيمياء الذي هو تمويه وصرف مال طمعًا في الحصول على المال الغزير بلا تعب لأن هؤلاء يشتغلون للحصول على ذلك فيبذلون مالا كثيرًا حتى يفلسوا من غير أن ينالوا ما كانوا يطمعون به.
ـ[42] ومعنى ومن طلب غريب الحديث كذب: الحديث الذي لا يعرفه الثقات من طلبَهُ يقع في الكذب.
ـ[43] و [(1287)] تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص/334).
ـ[44] إتحاف السادة المتقين (2/ 13).
ـ[45] المشرق والمغرب.
ـ[46] تشنيف المسامع (4/ 262).
ـ[47] أبو بكر الإسماعيلي الذي مر ذكره أحد أكابر حفاظ الحديث له مستخرج على البخاري، وأصحاب المستخرجات متبحرون في حفظ الحديث.
ـ[48] كالوهابية ومن سبقهم من المشبهة.
ـ[49] وهم مئات الملايين من المسلمين فكيف يكون هؤلاء السوادُ الأعظم على ضلال وتكون شرذمة هي نحو ثلاثة ملايين على الحق والصواب.
ـ[50] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، وابن ماجه في سننه: كتاب الفتن: باب السواد الأعظم، والحاكم في المستدرك (1/ 115 و116)، وأحمد في مسنده (6/ 396).
ـ[51] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (ص/42).
ـ[52] موافقة الخبر الخبر (1/ 115).
ـ[53] مسند أحمد (1/ 379)، وانظر كشف الأستار (1/ 81).
ـ[54] موافقة الخبر الخبر (1/ 115).ـ[55] سنن أبي داود: كتاب السنة: باب شرح السنة، مسند أحمد (4/ 102).
ـ[56] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن: باب افتراق الأمة، مسند أحمد (3/ 23)، مسند أبي يعلى (7/ 32).
ـ[57] مصباح الزجاجة (2/ 296).

بيان أفضلية علم التوحيد ومزيد عناية السلف بعلم التوحيد

بيان أقل مسمَّى الإسلام والإيمان