زيادة إيضاح الاستدلال على بطلان التسلسل والدَّور في وجود المحدثات – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

زيادة إيضاح الاستدلال على بطلان التسلسل والدَّور في وجود المحدثات

اعلم أنَّ القول باستناد وجود حادثٍ إلى وجود حادثٍ قبله إلى غير نهاية أي ما من حادثٍ إلا وقبله حادث إلى غير نهاية يؤدي إلى المحال وهو فراغ ما لا نهاية له وذلك لا يقبله العقل ويسمى بالتسلسل فوجب استناد وجود المُحدَثات جميعها إلى مُوجدٍ أوَّل قديمٍ، وكما استحال تسلسل المُحدَثات إلى غير نهاية لما بيَّنا استحال استناد حدوثها إلى توقف وجود حادث على وجود حادث يتوقف وجوده عليه لأنه يلزم عليه تقدم الشىء على نفسه وتأخره عنها فإذا كان حدوث المُحدَث يؤدي إلى الدَّور أو التسلسل المحالين لزم أن يكون مُحالا فمن هنا تلخَّص لنا برهانٌ شكله هكذا: تتابع المحدَثات إلى غير نهاية إلى جهة الماضي يؤدي إلى عدم وجود حادثٍ ما لكن وجود الحوادث ثابت ضرورة أي قطعًا بالحس والعقل فيجب أن ينتهي حصولها في الوجود إلى مُوجِد واحد لا أوَّل له وذلك المسمى الله.
فإن قيل سلَّمنا وجود محدِث للعالم قديم أزلي لكن من أين لكم العلم بأنه يسمى الله. فالجواب أن الأنبياء أفادونا ذلك، والبرهان العقلي يحتّم تصديقهم حيث إنهم أتوا بما هو خارق للعادة لا يستطيع المعارضون لهم الإتيان بمثله وقد ثبت ذلك بطريق التواتر لا كالأخبار الخرافية كما سيأتي بيان ذلك في بحث المعجزة عند ذكر إثبات النبوة.وإن شئت قلت: العالم يتغيَّر من حال إلى حال والتغيُّر لا يكون إلا بمغيِّرٍ لا يتغيَّر فدل تغيُّره على وجود مُغيِّر له غالب والتغير مشاهد في الإنسان وسائر الحيوانات والمعادن والنبات والأرض فإن حالها في الصيف غير حالها في الشتاء بحرارة الملمس وبرودته واليبوسة والرطوبة، ولنوضح ذلك بشكل تقريره هكذا كل موجود من العالم كانت حقيقته قابلة للتغير والعدم باعتبار ذاته فإنه يكون نسبة حقيقته إلى الوجود وإلى العدم على السواء وكل ما كان كذلك لم يكن وجوده راجحًا على عدمه إلا بمرجّح وهو لا بد أن يكون موجودًا واجب الوجود أي أزليًّا أبديًّا لأنه لو كان ممكنًا يقبل العدم والوجود لزم الدور أو التسلسل المحالان الباطلان فثبت وتعيَّن الانتهاء إلى مرجّح واجبٍ غالبٍ لذاته.
ولنا أن نقرر هذا الدليل هكذا لا شك في تغيُّر العالم وحدوث أحواله وكلُّ حادثٍ ممكن وإلا لم يصح وجوده وعدمه فله مؤثر وذلك المؤثر يكون لا محالة واجبًا غالبًا لا غيرُ لاستحالة الدور والتسلسل.ولنزد هذا الموضوع الذي هو من أهم المواضيع في علم التوحيد وضوحًا بتقرير موجز مأخوذ من كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه بأن نقول لا يصلح عقلًا وجود العالم بدون موجِدٍ مكونٍ كما يحيل العقل وجود سفينة مشحونة بالأحمال احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة تجري مستوية بطبعها بغير مدبر ذي اقتدار يجريها مستوية فمن باب الأولى استحالة وجود هذا العالم على اختلاف أجناسه وأنواعه لطيفه وكثيفه بانتظام محكم متقن من غير صانع مكوِنٍ له حافظ له عن الاختلال وذلك لأن أمر السفينة يسير بالنسبة لجملة العالم بما فيه من الجماد الفاني وغير الفاني والأجسام الحية من ذوي العقل والعلم والبهائم وأنواع الحشرات فيقطع العقل بأن وجود العالم بانتظام لا يكون من تأثير طبع أو علة كما زعم الطبيعيون أن الطبائع هي العلل المؤثرة متمسكين بأنه يكون من اجتماع الماء والأرض النباتُ ولا بد فيه من هواء يتخلل بين أجزائه ومن حرارة طابخة، قلنا: لِم لا يجوز أن يكون وجود النبات عند ذلك لا به؟! وكذلك قولهم بتولد الدود من الماء المتعفن أي أن التعفن خلق الدود، يقال: ما المانع من أن يكون وجود الدود بخلق الله عند وجود التعفن لا به.قال الجويني ما نصه [(108)]: «والذي يحقق ذلك أوجه أقربها ما ذكره شيخنا رضي الله عنه وذلك أنه قال: من نفى الأولية عن الحوادث وزعم أنها لم تزل متعاقبة ءاحادًا ثم تقدر الفراغ منها وتحقق تصرمها فقد جحد الضرورة وبديهة العقل وذلك أن ما لا نهاية له لا عدد يحصره ولا مبلغ يضبطه، ويستحيل بضرورة العقل قطعًا أن تمضي الآحاد على إثر الآحاد تواليًا وتعاقبًا ثم يفضي ذلك إلى انقضاء ما لا نهاية له فهذا معلوم بطلانه مدرَك فساده بديهةوأقرب الأمور فيه أن الجمع بين نفي النهاية والمصير إلى التناهي تناقض لا ينكره لبيبفإذا وضح ذلك قلنا للدهريةمن قضية أصلكم أنه انقضى قبل الدورة التي في وقتنا هذا دورات لا نهاية لها فإذا انقضت فقد انتهت، وكيف ينتهي ما لا يتناهى واحدًا واحدًاوهذا ما لا يستريب فيه منصفوربما عبَّر شيخنا عن ذلك فقال: شرط كل حادث على أصول الدهرية أن ينقضي قبله ءاحادُ ما لا نهاية لهومآل ذلك في التحقيق يرجع إلى أنه لا يحدث حادث إلا بعد أن ينقضي ما لا ينقضيومن ذلك قال أهل الحقإن في تقدير حوادث لا نهاية لها نفيًا لجملة الحوادث، فإنها لو ثبتت لكان كل واحد مشروطًا بمحال وهو انقضاء ما لا ينقضي قبله، وكل ما عُلق ثبوته بمحال كان محالا وهذه الطريقة مغنية في إثبات ما نرومه.ثم سلك أئمتنا طرقًا في الحجاج منها أن قالوا: من أثبت الحوادث ونفى الأولية فيقسم عليه القول، ويقال له: نفي الأولية لا يخلو إما أن يرجع إلى موجود واحد، وإما أن يرجع إلى موجودات، فإن رجع ذلك إلى موجود واحد أثبتوه في الأزل ونفوا أوليته فقد أثبتوا قديمًا لا أول له، وأثبتوا حوادث متناهية لها أول واستبان أن الذي نُفي عنه الأولية ليس من الحوادث بل هو متصف بالقدم في نفسه، وما هو من الحوادث فالنهاية والبداية لازمتان له. وإن زعم الخصم أن نفي الأولية يرجع إلى موجودات ولا يتخصص بموجود واحد كان ذلك واضح البطلان فإن كل حادث له أول. فينبغي أن يُصْرَفَ نفي الأولية إلى ذات أزلية، وإثبات حادث أزلي تناقض لا خفاء به.
ومما تمسك به الأئمة أن قالوا: حقيقةُ الحادثِ الموجودُ الذي له أول. فإذا كان هذا حقيقة الحادث الواحد، فحقيقة الحوادث هي التي لها أول إذ الحقائق لا تختلف بانضمام ءاحاد إلى أفراد. والذي يقرر ذلك أن الجوهر الواحد إذا كان من حقيقته التحيز فالجواهر متحيزة إذًا ثبت كون الجوهر الواحد متحيزًا.وقد التزم بعض الأغبياء على ذلك سؤالا فقال: قد يثبت لحالة الاجتماع من الحكم ما لا يثبت في الانفراد، فإن الواحد لو أخبر عما شاهده لم يقتض إخبارُهُ العلم بالمخبَر، ولو أخبر عدد التواتر عما شاهدوه تضمن إخبارهم العلم بالمخبر فرقًا بين الإفراد والاجتماع، وهذا خلف من الكلام مرذول، وذلك أن الذي تمسكنا به مرتبط بالحقائق، والذي ألزمه السائل ليس من قبيل الحقائق، وذلك أن إخبار أهل التواتر ليس يوجب العلم بحقيقته [ولا هو] [(109)] راجع إلى أجناس المخبرين أو إلى أجناس أخبارهم، ولكنه منوط بإطراد العادة، ويجوز في المعقول تقدير انخراق العادة في إخبار أهل التواتر حتى لا يُعلم المخبَر، وإذا سبق المنقضي الانقضاء وجب متأخر عنه، وإذا تأخر عنه كان له أول منه ابتدأ، والمنقضي الذي سبقه له أول أيضًا لأنه قبل الانقضاء والانقضاء يعقُبه، وإذا تقدم الانقضاءَ منقض وجب أن يكون لهما أولان، وهذا موجبُ تناهيهما، فوِزَانه وزَان الحركة، فإنها أبدًا مسبوقة بأنها تفريغ جهة وإشغال أخرى، والتفريغ لا بد أن يُسبق بإشغال، فهي أبدًا مسبوقة، وهي أبدًا لها أول، كذلك ههنا في الانقضاء المسبوق بمنقض عند إخبارهم، وكذلك يجوز تقدير اطراد العادة في أن نعلم صدق المخبِر الواحد إذا كان صادقًا، فاستبان خروج ما ألزمه السائل عن غرضنا، بل الذي أردناه إيضاحُ حقيقة، والحقائق لا تختلف بالانفراد والاجتماع.ومن أوضح ما نتمسك به أن نقول: إذا فرضنا الكلام في وقتنا هذا فقد انقضى قبله ما لا نهاية له، ولو فرضنا قولنا في الوقت المتقدم على وقتنا بأحقاب ودهور لقال الخصم فيه إنه انقضى قبله ما لا يتناهى، ولا يزال يقدم الوهمَ ويقدر الانقضاء قبله، ويجرنا هذا الكلام إلى أحد أمرين كلاهما ينقضان أصول الدهرية أحدهما أن نقول ينتهي الوهم إلى وقت يقال فيه الآن ينصرم ما لا يتناهى حتى لا يتحقق هذا القول قبل ذلك الوقت، فإن ارتضى الخصم ذلك، كان باطلًا بضرورة العقل، فإنا نعلم أن تقدير وقت قبيل ذلك الوقت المعين الذي فرضنا الكلام فيه كتقدير ذلك الوقت، وليس أحدهما أولى من الثاني، ثم كذلك القول في وقت قبله إلى غير أول، والذي يوضح ذلك أنا لو خصصنا ذلك بوقت معين لزم منه إذا نُفي قبل هذا الوقت حادث واحد فالذي قبله متناه وما كان متناهيًا لا يصير بواحد غير متناه وهذا معلوم ضرورة وبديهة. فاستبان بما قلناه بطلان قول من يقول: إنما ننتهي في تقديمنا أوهامنا إلى وقت يقال فيه: انقضى قبله ما لا يتناهى، ولا يسوغ تقديم الوهم على ذلك الوقت، فقد وضح بطلان ذلك.
وإن زعم الخصم أن لا ننتهي في الحكم بانقضاء الحوادث إلى أول لا يُتعدى ولا يتجاوز وأن حكم الانقضاء تحقق أزلا من غير أول فإن قال ذلك اتضح تناقض قوله؛ فإن الذي يتحقق من غير أولية لا يُتصور أن يقع قبله شىء حتى يكون مسبوقًا به ويكون المتقدم عليه سابقًا له إذ ما لا أول له لا يُسبق، فكيف يُتحقق قبل الانقضاء المحكوم به في الأزل حوادث ثم انقضت، ولا تناقض يزيد على الحكم بإثبات حادث قبل الحكم فيه بانقضاء أزلي، وهذا تصريح بتقديم الحادث على الأزلي وهذا باطل بضرورة العقل.قال عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني: هذه الطريقة التي طردناها مقتضبة مجتلبة مما أشار إليه المشايخ رضي الله عنهم فما تركوا مما مهدوه من قواعد العقائد مضطرَبًا للمتأخرين، ولكني لم أر هذه الدلالة على هذه الصيغة للمتقدمين، وهي مما ألهمني الله تعالى لتحريرها، ولو لم يكن في كتابنا هذا سواها لكان بالحريّ أن يُغتبط به، فإن جملة مذاهب الدهرية تستند إلى إثبات حوادث لا أول لها، وفي إيضاح إفساد ذلك تصريح بمنع عقائدهم بالنقض والرفض.
ولم نذكر هذه الكلمات متمدحين بل أوردناها لنميز بين هذه الطريقة وبين ما عداها ولا تجري جميع الأدلة مجرى واحدًا في الوضوح والخفاء. وقد ذكر الأئمة جملاً من الأمثلة في تحقق هذا الأصل نحو قول بعضهم إن المعلَّق حدوثُه بتقدم حدوث ما لا يتناهى عليه يستحيل ويفضي إلى منع تصور الحدوث وضربوا لذلك مثالا فقالوا: إذا قال القائل لمن يخاطبه لا أعطيك درهمًا إلا أعطيك قبله دينارًا ولا أعطيك دينارًا إلا أعطيك قبله درهمًا فلا يصح منه إعطاء درهم ولا دينار على قصد شرطه. وهذا ونحوه يندرج تحت ما قدمناه من الطرق، فلم نستحب الإطناب في إيراد الأمثلة فإن شرطنا في كتابنا هذا التعرض للمقاصد من غير إخلال بها والإضراب عن التطويل بتكثير الأمثلة والعبارات، والله ولي التوفيق.فإن قال من الملحدة قائل: إذا لم يبعد إثبات حوادث لا ءاخر لها لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها. وأشاروا بذلك إلى تجويز توالي الحوادث من غير انقضاء وتصرم. وهذا الذي ذكروه ساقط من أوجه أقربها أنه ادعاء مجرد، والكلام في حكم النظر لا يخلو إما أن يكون دليلاً وإما أن يكون قدحًا واعتراضًا، والذي ذكروه خارج من القسمين فإن ما قدمناه من الأدلة لا يقدح في شىء منها ما ذكروه والذي أبدوه لا يصلح أن يكون دليلاً، فإنه اقتصار على دعوى مجردة، ومعارضة لفظية من غير رعاية المعنى. وهذا القدر كاف في الانفصال، ولكنا نتعداه فنقول: حقيقة الحادث ما له أول، ففي نفي الأولية نفي حقيقة الحدوث، وليس حقيقة الحادث ما له ءاخر، فانفصل أحد الكلامين عن الآخر ووضح الفرق بينهما» اهـ.ـ[108] في نسخة: «الألوان».
ـ[109] الشامل في أصول الدين (ص/215 – 219). الجويني هو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف.

فائدة جليلة لإثبات حدوث العالم بإثبات الجوهر الفرد

فائدة جليلة في إيضاح المثال السابق