زيادة بيان للدليل العقلي على وجود الله
اعلم رحمك الله بتوفيقه أن وجود العالم دليل على وجود الله لأنه لا يصح في العقل وجود فعلٍ ما بدون فاعل كما لا يصح وجود ضربٍ بلا ضارب ووجود نسخ وكتابة بلا ناسخ وكاتب. ولا يصح كون ذلك الفاعل طبيعة لأن الطبيعة لا إرادة لها فكيف تَخْلُق. كيف تخصص المعدوم بالوجود بدل العدم ثم بحالة دون حالة.
وكذلك لا يصح في العقل أن يكون الشىء خالق نفسه لأن في ذلك جمعًا بين متنافيين لأنك إذا قلت خلق زيد نفسه جعلت زيدًا قبل نفسه باعتبار ومتأخرًا عن نفسه باعتبار، فباعتبار خالقيته جعلته متقدمًا، وباعتبار مخلوقيته متأخرًا وذلك محال عقلاً.
وكذلك لا يصح في العقل أن يخلق الشىء مثله أي مشابهه لأن أحد المثلين ليس بأولى بأن يخلق مثله من الآخر فالأب والابن لا يصح أن يخلق أحدهما الآخر لأن كلًّا منهما كان معدومًا ثم وُجد.
فمن فكَّر بعقله علم أنه كان بعد أن لم يكن، وما كان بعد أن لم يكن فلا بدّ له من مكون أي محدِث من العدم فيستنتج فأنا لا بد لي من مكون. وبعبارة أخرى أنا كنت بعد أن لم أكن وما كان بعد أن لم يكن فلا بدَّ له من مكون فأنا لا بد لي من مكون.
وإيضاح ذلك أنك تعلم أن الإنسان يُخلق في بطن أمه ثم يخرج وهو لا يعلم شيئًا ولا يتكلم ولا يمشي فيأخذ في النمو شيئًا فشيئًا فيتطور فتحصل له قوة مشي وكلام ويحصلُ له علم يتجدد له شيئًا فشيئًا حتى نشأ طفلًا ثم صار شابًا ثم كهلاً ثم شيخًا ثم هرِمًا. انتقل من ضعف إلى قوة ثم إلى ضعف فلا يُعقل أن يكون طَور نفسه بنفسه، ولا يُعقل أيضًا أن يكون الأب طوَّر الابن ولا يعقل أيضًا أن تكون الطبيعة مُطورته، ولا يصح في العقل أيضًا أن يكون تطورُهُ بدون مطوّرٍ فثبت بطلان هذه التقديرات، ووجب أن يكون بتطوير مُطوِّرٍ موصوفٍ بالحياة والعلم والقدرة والإرادة وجوده قديم أي أزلي وذلك المطوِّر هو المسمى الله.فإن قيل: ما هو قلنا: موجود لا كالموجودات، ويعبَّر عنه بقول «شىء لا كالأشياء» أي موجود حي لا كالأحياء، عالِمٌ لا كالعلماء، وقادرٌ لا كالقادرين، ومريدٌ لا كالمريدين وذلك لأنه لو كانت حياته تشبه حياة غيره أو علمه علم غيره أو قدرته قدرة غيره أو إرادته إرادة غيره لكان متطوّرًا كغيره من الإنسان وسائر الأجسام ولاحتاج إلى مطوِّر كما احتاجت سائر المتطورات لأن المتماثلات يجوز عليها عقلاً ما يجوز على بعضها.
فالأجسام كلها لطائفها وكثائفها حادثة بإحداث مُحدِث فاعل مختار.
وهذه المسألة جديرة بزيادة الإيضاح وذلك يُحوجنا إلى تقديم مقدمة وهي كما يأتي.
