ضابط يعرف به مذهب أهل الحق في النصوص القرءانية أو الحديثية الموهمة للجسمية والحيز والمكان في حق الله – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

ضابط يعرف به مذهب أهل الحق في النصوص القرءانية أو الحديثية الموهمة للجسمية والحيز والمكان في حق الله

اعلم أن جميع ما ورد في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية كاليد والعين يجب الإيمان به مقرونًا بالتنزيه فإن كلًّا منها صفة له تعالى لا بمعنى الجارحة بل على وجه يليق به وهو سبحانه وتعالى أعلم به وقد يؤول كل ذلك لأجل صرف العامة عن الجسمية على وجه يحتمل أن يكون المعنى المرادَ لله تعالى ولرسوله بتلك النصوص لا على الجزم والقطع بأنه هو المراد، وهذا يسمى تأويلاً تفصيليًّا كأن يقال استوى أي قهر قال البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات» [(256)]: «باب ما جاء في إثبات الوجه صفة لا من حيث الصورة» اهـ، وقال أيضًا [(257)]: «باب ما جاء في إثبات العين صفةً لا من حيث الحدقة» اهـ، وقال [(258)]: «باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة» اهـ، وقال [(259)]: «باب ما ذكر في الصورةالصورة هي التركيب والمصوَّر هو المركَّب قال الله عزّ وجلّ ﴿يَآأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *﴾ [سورة الانفطار]. ولا يجوز أن يكون البارئ تعالى مصوَّرًا ولا أن يكون له صورة لأن الصورة مختلفة والهيئات متضادة ولا يجوز اتصافه تعالى بجميعها لتضادها ولا يجوز اختصاصه ببعضها إلا بمخصّصٍ لجواز جميعها على من جاز عليه بعضها فإذا اختص ببعضها اقتضى مخصِّصًا خصصه به وذلك يوجب أن يكون مخلوقًا وهو محال فاستحال أن يكون مصوَّرًا وهو الخالق البارئ المصوّر» اهـ.وقد احتاط العلماء في الاحتجاج بالأخبار الواردة في الصفات حتى إن بعضهم اشترط للاحتجاج بالخبر في الصفات أن يكون الحديث قطعي الثبوت يعني المتواتر وعلى ذلك كثير من الأشاعرة. وتوسط بعضهم وهم الماتريدية أصحاب أبي حنيفة وبعض الأشاعرة فشرطوا للاحتجاج بالحديث أن يكون مشهورًا مستفيضًا وهو أقل من المتواتر إذ لا يراعى فيه إلا أن يكون من رواية ثلاثة فأكثر. وقد اشترط الحافظ ابن حجر أن يكون الحديث الوارد في الصفات متفقًا على ثقة رواته، ومثل ذلك ذكر الذهبي فلا سبيل إلى الاحتجاج بالخبر المختلَف في رواته، وكثيرًا ما تحتج الحشوية والمشبهة بالخبر الذي هو دون ذلك.ولا دليل لمن أثبتوا لله التحيز في جهة فوق ولا حجة لهم في حديث الجارية لأن هذا الحديث من أحاديث الآحاد وظاهره معارض للحديث المتواتر. وقد قرر علماء الأصول وعلماء الحديث [(260)] أن الحديث إذا خالف النص القرءاني أو الحديث المتواتر أو صريح العقل ولم يقبل تأويلاً فهو باطل موضوع كذب على الرسول. وعبارة الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه «الفقيه والمتفقه» ما نصه [(261)]: «وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصل الإسناد رُدَّ بأمور: أحدها أن يخالف موجَبات العقول فيُعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجَوَّزَات العقول وأما بخلاف العقول فلا، والثاني أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل [لهأو منسوخ، والثالث أن يخالف الإجماع فيُستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه»، ثم قال: «والرابع أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على كافة الخلق علمه فيدل ذلك على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم، والخامس أن ينفرد برواية ما جرت العادة بأن ينقله أهل التواتر فلا يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية، وأما إذا ورد مخالفًا للقياس أو انفرد الواحد برواية ما تعم به البلوى لم يُرَدّ. وقال قوم ممن ينتحل مذهب مالك بن أنس إذا كان مخالفًا للقياس لم يجز العمل به [(262)]. وقال قوم ممن ينتسبون إلى مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت لا يجوز العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى» اهـ.وأما احتجاج الوهابية لإثبات تحيز الله في السماء بحديث الجارية الذي رواه مسلم [(263)] من طريق راوٍ واحد وهو معاوية بن الحكم أن رجلًا من الصحابة أراد أن يعتق جارية له سوداء فأحضرها إلى الرسول فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أين الله» فليس فيه حجة لأنه مخالف للحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر صحابيًا سمعه كل منهم من الرسول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا شهدوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» هذا الحديث [(264)] صريح بأن الإسلام لا يصح إلا بالشهادتين، فإن حُمل حديث الجارية على الظاهر كان معناه أن الرسول حكم للجارية لإشارتها إلى أن الله في السماء بأنها مؤمنة بالله ولا يصح عن رسول الله أن يحكم بالإيمان لمجرد قول إنسان اللهُ في السماء لأن هذه العقيدة عقيدة اليهود والنصارى وكثير من الكفار، فمستحيل أن يحكم الرسول بهذه المقالة لإنسان بالإيمان. فما أسخف الوهابية الذين يرون حديث الجارية أقوى شاهد على عقيدتهم الفاسدة حيث إنهم أخذوا بظاهره فقالوا «الله حالٌّ في السماء» يعنون العرش فوافقوا اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار. أما بعض أهل السنة فلم يأخذوا بظاهر هذا الحديث بل أوَّلوه قالوا معنى ما ورد في هذا الحديث أن الرسول قال لها «أين الله» ما اعتقادك من التعظيم لله، وقولها «في السماء» معناه عالي القدر جدًّا، فلم يحكموا ببطلانه نظرًا لإمكان هذا التأويل. ثم رواية ابن حبان [(265)] لحديث الجارية من حديث الشريد بن سويد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف هذه الرواية ولفظها أن الرسول قال لهذه الجارية التي جاء بها شخص «من ربك» فقالت: «الله» فقال: «ومن أنا» قالت: «أنت رسول الله» قال: «أعتقها فإنها مؤمنة». هذه الرواية لا إشكال فيها لأن قول «الله ربي» بمنزلة أشهد أن لا إله إلا الله.وقد حكم عدةٌ بشذوذ وضعف رواية مسلم لحديث الجارية قال عصرينا المحدث عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري في «الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة» [(266)] ما نصه: «الحديث شاذ لا يجوز العمل به» ثم قال: «وجاء حديثان مخالفان لحديث معاوية يؤكدان شذوذه فروى البيهقي في السنن [(267)] من طريق عون بن عبد الله بن عتبة حدثني أبي عن جدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقالت: يا رسول الله إن عليَّ رقبة مؤمنة أتجزئ عني هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم: «من ربُّك» قالت: الله ربي، قال: «فما دينك» قالت الإسلام، قال: «من أنا» قالت: أنت رسول الله، قال: «أفتصلين الخمس وتُقرين بما جئت به من عند الله» قالت: نعم فضرب صلى الله عليه وسلم على ظهرها وقال: «أعتقيها». وروى أيضًا [(268)] من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الشَّرِيد [(269)] بن سويد الثقفي قال: قلت يا رسول الله إن أمي أوصت إليَّ أن أعتق عنها رقبة وأنا عندي جارية نُوبيَّة فقال رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم: «ادع بها» فقال: «من ربك» قالت: الله قال: «فمن أنا» قالت: رسول الله قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» اهـ. فتبين أنه لا حجة للمشبهة الوهابية وغيرهم في حديث الجارية لإثبات عقيدتهم أن الله متحيز في السماء. ولا تنسَ أن الأخذ بظاهر حديث الجارية تجسيم لله والجسم مخلوق فلا يكون الخالق جسمًا ولا يصح أن يخلق الجسم جسمًا، فالشمس جسم منير تنفع الناس والشجر والماء بضوئها وحرارتها ولا تستحق مع ذلك الألوهية لأنها جسم له مقدار وكمية ولون خاص وحدٌّ خاص فتحتاج إلى من قدَّرها بهذا المقدار وخلقها على هذا الحجم. فلو كانت الألوهية تصح للجسم لكانت الشمس أولى بالألوهية من الجسم الذي يزعم الوهابية أنه على العرش فإن نفعها مشاهد محسوس لكل أحد بخلاف ذلك الجسم الذي يدعونه.واعجَبْ من ابن تيمية زعيم المشبهة حيث يعتقد أن الله حجم بقدر العرش ثم ينزل بذاته إلى السماء الدنيا التي هي بالنسبة للعرش كقطرة في جنب بحر، فكيف صح عنده أن تسعه السماء الدنيا؟! ثم زد عجبًا حيث إنه يقول: «ينزل ولا يخلو العرش منه» كما ذكر ذلك في كتابه شرح حديث النزول [(270)]، وهذا تناقض فإن معناه ينزل ولا ينزل وهو مناقضة لقول الله تعالى  ﴿… لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … *﴾ [سورة الشورى] فإن اعتقاد المشبهة فيه إثبات أمثالٍ كثيرة لله تعالى لا مثل واحد فقط، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون.ـ[256] الأسماء والصفات (ص/289).
ـ[257] تشنيف المسامع (2/ 374)، الفقيه والمتفقه (ص/132).
ـ[258] الفقيه والمتفقه (ص/132 – 133).
ـ[259] القياس مقدم عندهم.
ـ[260] رواه مسلم في صحيحه: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته.
ـ[261] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب { … فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ … *} [سورة التوبة]، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ـ[262] الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/ 206)، (6/ 256).
ـ[263] انظر الكتاب (ص/87 – 89).
ـ[264] السنن الكبرى (ص/388).
ـ[265] السنن الكبرى (7/ 388).
ـ[266] ضبطه الحافظ في التقريب (ص/316) بوزن الطويل.
ـ[267] انظر الكتاب (ص/299).
ـ[268] انظر الكتاب (1/ 260 – 261).
ـ[269] شرح صحيح مسلم النووي (6/ 36).
ـ[270] رواه النسائي في السنن الكبرى: عمل اليوم والليلة: باب الوقت الذي يستحب فيه الاستغفار (6/ 124).

قاعدة عظيمة النفع في تنزيه الله تعالى

إثبات جواز التأويل للنصوص الواردة مما يوهم الجسمية والأعضاء