فائدة جليلة في إيضاح المثال السابق
قال أهل الحق في إبطال القول بحوادث لا أول لها وإثبات صحة حوادث متسلسلة إلى ما لا نهاية له في المستقبل عقلاً ما كفى وشفى، فمثلوا الأول بملتزم قال لا أعطي فلانًا في اليوم الفلاني درهمًا حتى أعطيه درهمًا قبله ولا أعطيه درهمًا قبله حتى أعطيه درهمًا قبله وهكذا لا إلى أول، فمن المعلوم ضرورة أن إعطاء الدرهم الموعود به في اليوم الفلاني محال لتوقفه على محال وهو فراغ ما لا نهاية له بالإعطاء شيئًا بعد شىء. ولا ريب أن ما ادَّعوه من حوادث لا أول لها مطابق لهذا المثال، فإن إعطاء الفاعل للفلك مثلًا الحركة في زماننا هذا وفي غيره من الأزمان الماضية متوقف على إعطائه قبله من الحركات شيئًا بعد شىء مما لا نهاية له، فالحركة للفلك في الزمان المعين نظير الدرهم الموعود به في الزمن المخصوص والحركات التي لا تتناهى قبلها نظير الدراهم التي لا تتناهى قبل ذلك الدرهم فيكون وجود الحركة للفلك في هذا الزمان مثلًا مستحيلًا كما استحال وجود الدرهم الموعود به في الزمان المعين للشخص.ومثال ما ادعيناه في نعيم الجنة كما لو قال الملتزم لا أعطي فلانًا درهمًا في زمن إلا وأعطيه درهمًا بعده وهكذا لا إلى ءاخر فهذا لا ريب لعاقل في جوازه عقلًا إذ حاصله التزام الملتزم عدم قطع العطاء بعد ابتدائه، فهذا المثال لا تخفى مطابقته لما ادعيناه في نعيم الجنة للمؤمنين ولما ندعيه في عذاب جهنم للفلاسفة القائلين بقِدم العالم وأضرابهم من الطبائعيين وسائر الكافرين فإن هذا لا يلزم منه محذور فإن المستقبل يسع ذلك بأن توجد فيه الحوادث شيئًا بعد شىء أبدًا فذلك معقول.
وبما قررنا ثبت قطعًا صحة قولنا في الاستدلال على حدوث الأعيان، فالأعيان ملازمة للأعراض الحادثة وكل ملازم للحادث فهو حادث، وثبت احتياجها إلى محدِث أخرجها من العدم إلى الوجود وهو الله تبارك وتعالى.
زيادة إيضاح الاستدلال على بطلان التسلسل والدَّور في وجود المحدثات
تنبيه
استنكر بعض الناس قول «الله موجود» لكون موجود على وزن مفعول، والجواب أن مفعولا قد يُطلق على من لم يقع عليه فعل الغير كما نقول «الله معبود». وهؤلاء ظنوا بأنفسهم أن لهم نصيبًا من علم اللغة وليسوا كما ظنوا. قال الحافظ الفقيه اللغوي الكبير شارح القاموس السيد محمد مرتضى الزبيديُّ في شرح الإحياء ما نصه [(110)]: «والبارئ تعالى موجود وكل موجود يصحُّ أن يُرى» وفي غير هذا الموضع من الشرح، وذكره أيضًا في شرح القاموس [(111)].
وقد نقل الإجماع على جواز تسمية الله موجودًا سعد الدين التفتازاني [(112)].وقد ذكر الجوهري [(113)] وغيره من اللغويين أن العرب قد تطلق لفظ المفعول بمعنى الفاعل في كلمات عديدة من ذلك: عُنيَ بالشىء فهو معنيٌّ به أي معتن به، وزُهي الرجل فهو مزهوٌّ بمعنى تكبر فهو متكبر. وليعلم هؤلاء المتهورون أنهم خالفوا الإجماع، وما خالف الإجماع فهو باطل ولو هدوا لمعرفة الصواب لعلموا أن اللفظ الذي يعطي المعنى الذي لا يليق بالله هو: «مُوجَدٌ» بفتح الجيم اسم مفعول أوْجَدَ يوجد. فالعالم مُوجَد بإيجاد الله والله موجِده بكسر الجيم.ـ[110] سقطت من الأصل واستدركناها ليستقيم المعنى.
ـ[111] إتحاف السادة المتقين (2/ 119).
ـ[112] تاج العروس (10/ 444).
ـ[113] شرح العقائد النسفية (ص/70).
