فائدة مهمة في التنزيه
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري النيسابوري في «شرح الإرشاد لإمام الحرمين» بعد كلام في الاستدلال على نفي التحيز في الجهة عن الله تعالى ما نصه [(136)]: «فإذا زالت الأوهام عن كثير من الموجودات فكيف يُطلب بها القديم سبحانه الذي لا يشبهه المخلوقات فهو سبحانه لا يُتصور في الوهم فإنه لا يُتصور إلا صورة ولا يَتقدر إلا مُقدَّر قال الله تعالى ﴿… لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … *﴾[سورة الشورى] ومن لا مثل له لا يتمثل في الوهم فمن عرفه عرفه بنعت جلاله بأدلة العقول وهي الأفعال الدالة عليه وعلى صفاته وقد قيل في قوله تعالى ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى *﴾ [سورة النجم] إليه انتهى فكر من تفكَّر، هذا قول أبيّ بن كعب وعبد الرحمن بن أبي نُعْم، وروى أبيُّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا فِكرة في الرّب» [(137)]، وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [(138)]: «إذا ذُكِر الله تعالى فانتهوا» وقال [(139)]: «تفكّروا في الخلق ولا تتفكّروا في الخالق».فإن قيل: كيف يُعقل موجود قائمٌ بالنفس ليس بداخل العالم ولا خارج عنه؟ قلنا: عرفتم استحالة ذلك ضرورةً أم دِلالةً؟ وقد أوضحنا معنى مباينته بالنفس. وهكذا الجواب عن قولهم خلق الله تعالى العالم في نفسه أم مباينًا عنه؟ قلنا – أي على زعمكم -: خلقه على مقدار نفسه أو أكبر منه أو أصغر أو فوق نفسه أو تحته؟ ثم نقول: حروف الظروف إنما تستعمل في الأجرام المحدودة [(140)]، وكذلك الدخول والخروج من هذا القبيل وكذلك المماسة والمباينة وقد أجبنا عن المباينة. فإن قالوا كيف يُرى بالأبصار من لا يتحيّز ولا يقوم بالمتحيّز؟ قلنا: الرؤية عندنا لا تقتضي جهةً ولا مقابلة وإنما تقتضي تعيين المرئي وبهذا تتميّز عن العلم فإنَّ العلم يتعلق بالمعدوم وبالمعلوم على الجملة تقديرًا وكذلك لا تقتضي اتصال شعاع بالمرئي فهي كالعلم أو في معناه، فإن قيل: ألستم تقولون الإدراك يقتضي نفس المُدرَك؟ قلنا: لا يقتضي تعيينه ولا تحديده، فإن قالوا: كيف يدرك وجود الإله سبحانه؟ قلنا: لا كيفية للأزلي ولا حَيْثَ له وكذلك لا كيفية لصفاته ولا سبيل لنا اليوم إلى الإخبار عن كيفية إدراكه ولا إلى العلم بكيفية إدراكه وكما أن الأكمه الذي لا يبصر الألوان إذا سئل عن المَيز بين السواد والبياض والإخبار عن كيفيّتهما فلا جواب له كذلك نعلم أن من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة.
فإن قالوا: من أبصر شيئًا يمكنه التمييز بين رؤيته لنفسه وبين رؤيته ما يراه فإذا رأيتم الإله سبحانه كيف تميّزون بين المرئيّين؟ قلنا: مَن لا جهة له لا يشار إليه بالجهة ومن لا مثل له لا إيضاحَ له بالمثال ومن لا أشكال له فلا إشكال فيه.ثم نقول لهم: أنتم إذا رأيتم الإله كيف تميّزون بينه وبين العرش وهو دونه سبحانه بالرؤية، أتميّزون بينهما بالشكل والصورة أم باللون والهيئة ومن أصلكم أن المرئي شرطُه أن يكون في مقابلة الرائي وكيف يَرى القديم سبحانه نفسه وكيف يَرى الكائنات مع استتار بعضها ببعض فلا يَرى على هذا الأصل بطون الأشياء وهذا خلاف ما عليه المسلمون، وإذا كان العرش دونه فلا يحجبه عنا حالة الرؤية [(141)]، قال الأستاذ أبو إسحق [(142)]: «من رأى الله تعالى فلا يَرى معه غيره أي تلك اللحظة فاندفع السؤال على هذا الجواب» اهـ.ـ[136] شرح الإرشاد (ق/58 – 59)، مخطوط.
ـ[137] رواه مرفوعًا الدارقطني في الأفراد (1/ 397)، والبغوي في تفسيره (5/ 265)، وابن كثير في التفسير (4/ 259). وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (ص/31) عن سفيان الثوري من قوله.
ـ[138] أورده ابن عدي في الكامل (3/ 1193).
ـ[139] عزاه الزبيدي في شرح الإحياء (6/ 536) لأبي الشيخ من حديث أبي ذر. وله شاهد موقوف على ابن عباس رواه البيهقي في الأسماء والصفات (ص/420) بلفظ: «تفكروا في كل شىء ولا تفكروا في ذات الله عز وجل»، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 383) وعزاه للبيهقي وقال: «موقوف وسنده جيد».
ـ[140] أي على وجه الحقيقة وإلا فقد ترد على المجاز في نحو قوله تعالى { … أَفِي اللَّهِ شَكٌّ … *} [سورة إبراهيم] أو يكون مراده أن حروف الظروف لا تستعمل على معنى الظرفية في حق الله تعالى إنما تستعمل على هذا المعنى في حق الأجرام.
ـ[141] أي وإذا كان العرش تحته بالجهة على زعمكم فكيف لا يحجبه عنا حالة الرؤية مع اشتراطكم المقابلة بين الرائي والمرئي ومع كون الجنة تحت العرش الذي هو سقفها وهو أوسع منها كما هو معلوم.
ـ[142] هذا رأي أبي إسحق وهو مخالف لرأي الأشعري الذي سبق ذكره. وقول الأشعري صواب نقول به لأن المؤمن الذي يرى غير الله مع وجود ذات هذا الشخص يرى الله الذي ليس متحيزًا ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه فصح أن يرى الشخص نفسه عند رؤية الذات المقدس وغيره من المخلوقات من غير أن يكون بينه وبين الله مسافة ولا اتصال ولا انفصال ورؤية الآخرة غير رؤية الدنيا. الشارح.
