من الدليل على أن اللفظ المنزل المتألف من الحروف لا يجوز أن يكون كلام الله الأزلي القائم بذاته – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

فائدة جليلة

من الدليل على أن اللفظ المنزل المتألف من الحروف لا يجوز أن يكون كلام الله الأزلي القائم بذاته ما سبق وقدمناه من أنه ثبت أن الله تعالى يكلم كل فرد من أفراد العباد يوم القيامة، فلو كان الله تبارك وتعالى يكلمهم بصوت وحرف لم يكن حسابه لعباده سريعًا، والله تبارك وتعالى وصف نفسه بأنه سريع الحساب فلو كان كلام الله تعالى بحرف وأصوات لكان أبطأ الحاسبين، وهذا ضد الآية التي فيها إن الله أسرع الحاسبين قال الله تعالى ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *﴾ [سورة الأنعام] فلا يتحقق معنى أسرع الحاسبين إلا على مذهب أهل السنة أن الله متكلم بكلام أزلي بغير حرف ولا صوت وذلك لأن عدد الجن والإنس كثير لا يحصيهم إلا الله، ومن الجن من يعيش ءالافًا من السنين، ومن الإنس من عاش ألفي سنة فأكثر فقد عاش ذو القرنين في ملكه ألفي عام كما قال الشاعر العربي: [الكامل]
        والصَّعبُ ذو القرنين أمسى ملكُه     ألفين عامًا ثم صار رميما


ومن الإِنس أيضًا يأجوج ومأجوج كما ورد في الحديث [(417)] أنهم من ولد ءادم، وورد أنهم أكثر أهل النار كما روى البخاري [(418)]، وورد أنه لا يموت أحدهم حتى يلد ألفًا لصلبه كما رواه ابن حبان والنسائي [(419)]، وهؤلاء يحاسبهم الله على أقوالهم مع كثرتهم الكثيرة ويكلم كلَّ فرد منهم تكليمًا بلا ترجمان، ويحاسبهم على عقائدهم ونواياهم وأفعالهم، فلا بد أن يأخذ حسابهم على موجب قول المشبهة الذين يقولون كلام الله حرف وصوت يتكلم من وقت إلى وقت ثم من وقت إلى وقت مدة واسعة جدًّا، فعلى موجب كلامهم يستغرق ذلك جملة مدة القيامة التي هي خمسون ألف سنة، وعلى قولهم هذا لم يكن الله أسرع الحاسبين وهو وصف نفسه بأنه أسرع الحاسبين كما تقدم، فقول المشبهة يؤدي إلى اختلاف القرءان وتناقضه وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال.وأما أهل السنة فيقولون إن كلام الله ليس متجزئًا فيفهم الناس من كلامه الذي ليس بحرف وصوت وغيرُ متجزئ في ساعة واحدة ما يشاء [(420)]، فيتحقق على ذلك أنه أسرع الحاسبين.ـ[417] رواه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ *} [سورة سبأ].
ـ[418] الفقيه والمتفقه (1/ 132 – 133).
ـ[419] هو الإِمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، صاحب التصانيف، ولد سنة 392هـ. وله رحلات عديدة، ومؤلفات كثيرة، توفي سنة 463هـ.
ـ[420] تدريب الراوي (1/ 276).ـ[421] التبصير في الدين (ص/167).

تنبيه

فائدة أخرى

فائدة أخرى

قال الشيخ الإمام المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي [(421)] ما نصه: «قال الشيخ الإمام أبو علي الحسن ابن عطاء في أثناء جواب عن سؤال وجه إليه سنة إحدى وثمانين وأربعمائةالحروف مسبوق بعضها ببعض، والمسبوق لا يتقرر في العقول أنه قديم، فإن القديم لا ابتداء لوجوده وما من حرف وصوت إلا وله ابتداء، وصفات البارئ جلَّ جلاله قديمة لا ابتداء لوجودها، ومن تكلم بالحروف يترتب كلامه ومن ترتب كلامه يشغله كلام عن كلام، والله تبارك وتعالى لا يشغله كلام عن كلام، وهو سبحانه يحاسب الخلق يوم القيامة في ساعة واحدة، فدفعة واحدة يسمع كل واحد من كلامه خطابه إياه، ولو كان كلامه بحرف ما لم يتفرغ عن يا إبراهيم لا يقدر أن يقول يا محمد فيكون الخلق محبوسين ينتظرون فراغه من واحد إلى واحد وهذا محال» اهـ.
فالحاصل أنه ليس في إثبات الصوت لله تعالى حديث مع الصحة المعتبرة في أحاديث الصفات [(422)]، لأن أمر الصفات يُحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره، ويدل على ذلك إيراد البخاري القدر الذي ليس فيه ذكر الصوت من حديث جابر هذا بصيغة الجزم [(423)]، وإيراده للقدر الذي فيه ذكر الصوت بصيغة التمريض [(424)]، فتحصّلَ أن في أحاديث الصفات مذهبين:
أحدهما: اشتراط أن يكون في درجة المشهور، وهو ما رواه ثلاثة عن ثلاثة فأكثر، وهو ما عليه أبو حنيفة وأتباعه من الماتريدية، وقد احتج أبو حنيفة رضي الله عنه في رسائله التي ألفها في الاعتقاد بنحو أربعين حديثًا من قبيل المشهور. والثاني: ما ذهب إليه أهل التنزيه من المحدثين وهو اشتراط أن يكون الراوي متفقًا على ثقته.
فهذان المذهبان لا بأس بكليهما.
وأما الثالث وهو ما نزل عن ذلك فلا يحتج به لإِثبات الصفات.وهناك قاعدةٌ تناسب هذا المطْلَب وهي ما ذكرها الحافظ الخطيب أبو بكر البغدادي قال: «يُرَدُّ الحديث الصحيح الإِسناد لأمورأن يخالف القرءان، أو السنة المتواترة، أو العقل» قال: «لأن الشرع لا يأتي إلا بمُجَوَّزات العقول» [(425)]، والخطيب البغدادي [(426)] أحد حفاظ الحديث السبعة الذين نوه علماء الحديث في كتب المصطلح بهم ومنهم البيهقي وهم غير أصحاب الكتب الخمسة وكلامه مذكور في كتابه الفقيه والمتفقه ونقله عنه الحافظ السيوطي في كتاب تدريب الراوي [(427)] من كتب مصطلح الحديث وأقره وكذا غيره. وللذهبي عبارة موافقة للمذهب الثاني من المذاهب الثلاثة وإن كان يتساهل بإيرادِ أحاديثَ غير ثابتة وءاثارٍ من كلام التابعينَ ونحوهم لا يحتج بمثلها ومن غير َتبيينٍ لحالها من حيث الإِسناد والمتن في بعض ما يذكره وذلك في كتابه «العلو للعلي الغفار» فليحذر فإن ضرره على مطالعه عظيم.
قال الإمام الأسفراييني ذاكرًا عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه [(428)]: «وأن تعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت لأن الحرف والصوت يتضمنان جواز التقدم والتأخر وذلك مستحيل على القديم سبحانه» اهـ.
وقال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ما نصه [(429)]: «ومبتدعة الحنابلة قالوا كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم، وبالغ بعضهم جهلًا حتى قال الجلد والقرطاس قديمان فضلًا عن الصحف، وهذا قول باطل بالضرورة ومكابرة للحس للإحساس بتقدم الباء على السين في بسم الله ونحوه» اهـ.
ـ[422] شرح الفقه الأكبر (ص/29 – 30).
ـ[423] الاعتقاد والهداية (ص/33).
ـ[424] روى ذلك الحافظ البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 455 – 456)، ومعرفة السنن والآثار (1/ 111).
ـ[425] ءاداب الشافعي ومناقبه (ص/194 – 195).
ـ[426] الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد بن حنبل (ص/59).
ـ[427] الذيل على طبقات الحنابلة (3/ 309).
ـ[428] مناقب الإمام أحمد (ص/155).
ـ[429] الأسماء والصفات (ص/265 – 266).

فائدة جليلة

فائدة ترجع إلى مسئلة الكلام

فائدة ترجع إلى مسئلة الكلام

قال البيهقي [(430)] في ردّ قول من يقول إن الله متكلم بمعنى خالق الكلام في غيره كالشجرة التي كان موسى عندها: «ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم قائمًا بغيره ثم يكون هو به متكلمًا مكلمًا دون ذلك الغيركما لا يجوز ذلك في العلم والسمع والبصر وقال ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ … *﴾ [سورة الشورى] فلو كان كلام الله لا يوجد إلا مخلوقًا في شىءٍ مخلوق لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنًى لاستواء جميع الخلق في سماعه من غير الله ووجودهم ذلك عند الجهمية مخلوقًا في غير الله وهذا يوجب إسقاط مرتبة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين، ويجب عليهم إذ زعموا أن كلام الله لموسى خلقه في شجرة أن يكون من سمع كلام الله من ملكٍ أو من نبيّ أتاه به من عند الله أفضلَ مرتبة في سماع الكلام من موسى لأنهم سمعوه من نبي ولم يسمعه موسى عليه السلام من الله وإنما سمعه من شجرةٍ، وأن يزعموا أن اليهود إذ سمعت كلام الله من موسى نبي الله أفضل مرتبةً في هذا المعنى من موسى بن عمران صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم لأن اليهود سمعته من نبي من الأنبياء وموسى صلوات الله عليه وعلى نبينا وسلم سمعه مخلوقًا في شجرة، ولو كان مخلوقًا في شجرة لم يكن الله عزَّ وجلَّ مكلمًا لموسى من وراء حجاب ولأن كلام الله عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام لو كان مخلوقًا في شجرة كما زعموا للزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمةً ووجب عليهم أنّ مخلوقًا من المخلوقين كلَّم موسى وقال له ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي … *﴾ [سورة طه] وهذا ظاهر الفساد» اهـ.والحاصل أنه يجب اعتقاد أن اللفظ المنزّل حادث مخلوقٌ لله لكنه ليس من تأليف جبريل ولا سيدنا محمد إنّما هو شىء تلقَّفَه جبريل من اللوح المحفوظ فتلاه على النبي، لكن لا يجوز أن يقال عن هذا اللفظ إنه مخلوق إلا في مقام التعليم فيجوز حذرًا من اعتقاد الحادث قديمًا قائمًا بذات الله، وعلى هذا التفصيل يحمل كلام الشافعي أي قوله لحفص لما ناظره في هذه المسئلة فقطعه بالحجّة وأصرّ حفص على معتقده وقوله القرءان مخلوق: «لقد كفرتَ بالله العظيم». ويعني الشافعي بهذه العبارة أن ذلك كفر من حفصٍ حقيقيٌّ ولا يعني الشافعي بذلك كفرانَ النِّعمة كما زعَم بعضُ الشّافعيّة ودلَّ على ذلك قولُ حفصٍ لما قام من مجلس الشّافعي للرّبيع المُرادي: «أراد الشافعي قتلي [(431)]». ويدُلّ لذلك أيضًا روايةُ الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم عن الرَّبيع أنَّ الشّافعيَّ كفّرَهُ [(432)].
قال ابن أبي بكر السعدي الحنبلي في كتابه الجوهر المحصل [(433)]: «وصح عن الإمام أحمد أنه كان يبدّع من يقول بأن اللفظ بالقرءان غير مخلوققال العلامة ابن رجب في الطبقات [(434)]: «والصحيح الصريح عن أحمد أنه كان يبدّع قائل ذلك» اهـ. وقد روى ابن الجوزي [(435)] عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه غضب غضبًا شديدًا على من نسب إليه رضي الله عنه أنه قال: لفظي بالقرءان غير مخلوق وأمره بأن يمحوه أشدَّ المحو. ومثله نقل الإمام البيهقي في الأسماء والصفات [(436)] أن الإمام أحمد كان ينكر هذه العبارة، وقال البخاري في كتابه خلق أفعال العباد [(437)]: «المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام والخوضَ والتنازع إلا فيما جاء فيه العلم وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم».ـ[430] خلق أفعال العباد (ص43).
ـ[431] أي المعتزلة.
ـ[432] إتحاف السادة المتقين (2/ 135).
ـ[433] شرح العقائد (ص/94).ـ[434] شُهِرَ ذلك عند الماتريدية ووافقهم بعض الأشاعرة بأن الكلام الذاتي لا يُسمع وإنما يسمع دليله لامتناع سماع ما ليس بصوت، ولكن المعتمد أنه يصح أن يُسمع إذا أزال الله من العبد المانع فإنه يسمع ولا يلزم حدوثه لحدوث السامع فالكلام الأزلي الذي ليس حروفًا متعاقبةً العبدُ يسمعه ويسمَعُهُ الله، كما أنه يرى الذات المقدس المنزه عن الاقتران بالزمان والمكان والشكل والهيئة، وذلك الذات المقدس ربنا تبارك وتعالى يجوز عقلاً أن يُرى للعباد.
ـ[435] انظر الكتاب (ص/51).
ـ[436] انظر المنهاج (1/ 221).
ـ[437] انظر الموافقة (2/ 143).

فائدة أخرى

تنبيه