تنبيه
نعلم حسًّا وضرورة بأن الكاف قبل النون ولا يجتمعان في زمن واحد فيلزم الحشوية القائلين بأنه يتكلم بحرف وصوت قائم بذاته التجسيم والتشبيه. وهم قسمان:
قسم قائلون بحلول الحوادث بذات الله تعالى.
وشرذمة يقولون الحروف والأصوات قديمة. وهؤلاء لا يفهمون ما يقولون لأنا نعلم ضرورة وحسًّا بأن الكاف في «كن» قبل النون ولا يجتمعان في زمن واحد. ثم يلزمهم ما لزم النصارى في اعتقادهم أن الصفة من صفات الله القديمة وجدت بالمسيح إما كلامه وإما علمه فأثبتوا قدمه وكفّرهم جميع المسلمين وتبرؤوا منهم وبينوا أن الصفة الواحدة يستحيل أن تكون موجودة في موصوفَين كما لا يصح أن يوجد جوهر واحد في مكانين.
فائدةٌ مهمةٌ
إن مما استدلَّ به أهل الحقّ على أنَّ كلامَ الله تعالى ليس حرفًا ولا صوتًا ءايات منها قوله تعالى ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *﴾ [سورة الأنعام] وقالوا لو كانَ الله تعالى يتكلمُ بحرفٍ وصوتٍ كخلقه لجازَ عليه كلّ صفات الخلق من الحركةِ والسكونِ وغيرِ ذلك وهذا محالٌ، فلذلك وَجَبَ أن يكونَ كلام الله غير حرف وصوت، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى ﴿ … وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *﴾ وذلك لأن الله يكلمُ كل إنسانٍ يوم القيامة فيُسمعهُ كلامه ويحاسِبُ من يحاسبه منهم به فيَفهمُ العبد من كلام الله السؤال عن أفعالِهِ وأقوالِهِ واعتقاداته، وينتهي الله عزَّ وجلَّ من حسابهم في ساعة أي وقت قصير من موقفٍ من مواقِفِ القيامةِ، ويومُ القيامة كُلُّه خمسونَ ألفَ سنة.فلو كانَ حسابُ الله لخلقِهِ من إنسٍ وجِنّ بالحرفِ والصوتِ ما كان ينتهي من حسابهم في مائةِ ألفِ سنة لأن الخلقَ كثيرٌ ويأجوج ومأجوج وحدهم يوم القيامة البشر كلهم بالنسبة لهم كواحدٍ من مائة، وفي روايةٍ كواحدٍ من ألفٍ، وبعضُ الجن يعيشون ءالافًا من السنين، فلو كان حسابُ الخلق بالحرفِ والصوتِ لكان إبليسُ وحده يأخذُ حسابه وقتًا كثيرًا لأن إبليسَ يجوز أن يكون عاشَ مائة ألف سنة ولا يموتُ إلا يوم النفخة، وحسابُ العبادِ ليس على القولِ فقط بل على القولِ والفعلِ والاعتقادِ. وكذلك الإنسُ منهم من عاشَ ألفي سنة ومنهم من عاشَ ألفًا وزيادة ومنهم من عاشَ مئات من السنين فلو كان حسابُهُم بالحرفِ والصوتِ لاستغرقَ حسابُهُم زمانًا طويلًا جدًّا ولم يكن الله أسرع الحاسبين بل لكان أبطأ الحاسبين، والله تعالى يقول ﴿ … وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *﴾، ثم الحروفُ تتعاقَبُ مهما كانت سريعةً تأخُذُ شيئًا من الوقت. أما الله تعالى فكلامُهُ أزليٌّ أبديٌّ ليس حرفًا ولا صوتًا ولا يُبتدأُ ولا يُختَتَمُ ولا يزيدُ ولا ينقُصُ، فمعنى قولِنا القرءانُ كلامُ الله ليس بمعنى أن الله نطقَ به كما نحنُ نقرؤه، إنما معناهُ أنه يدلُّ على كلامِ الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، على هذا المعنى نقولُ القرءانُ كلام الله.
الله تعالى خلقَ صوتًا بحروفِ القرءانِ فأسمعَ جبريلَ ذلك الصوت وجبريلُ تلقفه ونَزلَ به على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأمر الله [(402)]، فعلَّمه صلى الله عليه وسلم لأمته وكذلك وَجَدَ جبريلُ حروف القرءان مكتوبة في اللوحِ المحفوظِ.
فَيُفهَمُ من هذا أن جبريلَ لم يسمع القرءانَ الذي هو كلام الله الأزلي وإنما سمع صوت القرءان الذي خلقه الله له فتلقفه.أما الدليلُ على أن العبادَ يسمعونَ كلامَ الله الأزليّ يومَ القيامة فمأخوذٌ من حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربُّه يومَ القيامة ليس بينه وبينه تَرجمانٌ ولا حَاجِبٌ يحجبهُ» رواه البخاري [(403)].
فإن قالوا أي المشبهة: دليلُنَا على أن كلامَ الله بالحرفِ والصوتِ قولُه تعالى ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *﴾ [سورة يس] فالجوابُ: لو كان الأمرُ كما تدَّعونَ لتناقَضَت هذه الآيةُ مع غيرِها من الآياتِ والقرءانُ يتعاضَدُ ولا يتناقَضُ.
وإنما معنى هذه الآية أن الله يخلق العالم بقوله أي بحكمه الأزلي بوجوده أي أن الله حكم في الأزل بوجود العالم فوجد بذلك الحكم والحكم قول وليس المعنى أن الله ينطق بالكاف والنون. ثم «كن» لغةٌ عربيةٌ والله تعالى كانَ قبلَ اللغاتِ كلها وقبلَ أصنافِ المخلوقاتِ فعلى قولِ المشبهةِ يلزَمُ أن يكونَ الله ساكتًا قبلُ ثم صار متكلمًا وهذا محالٌ لأن هذا شأن البشرِ وغيرِهم، وقد قالَ أهل السنة: لو كانَ يجوزُ على الله أن يتكلمَ بالحرفِ والصوتِ لجازَ عليه كل الأعراضِ من الحركةِ والسكونِ والبرودةِ واليبوسةِ والألوانِ والروائحِ والطعومِ وغيرِ ذلك وهذا محالٌ.
وقال بعض أهل السنة إن قول الله تعالى ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *﴾ [سورة يس] هو عبارة عن إيجاد الشىء في الوقت الذي شاء وجوده فيه من غير تأخير ولا ممانعة من أحد وقد تقدم كل ذلك فالتفسيران اللذان ذهب إليهما أهل السنة موافقان للعقل والنقل.أما ما ذهبت إليه المجسمة من أن الله ينطق بالكاف والنون عند خلق كل فرد من أفراد المخلوقات هو سَفَهٌ لا يقول به عاقل لأنهم إن قالوا قبل إيجاد المخلوق ينطق الله بهذه الكلمة المركبة من كاف ونون فيكون خطابًا للمعدوم، وإن قالوا إنه يقول ذلك بعد إيجاد الشىء فلا معنى لإيجاد الموجود.
ويقال لهم الكاف والنون مخلوقان ما كانا موجودين في الأزل ولا يتصف بكلام حادث ولا بقدرة حادثة لأنه لو كان يتصف بصفة حادثة لكان مثل خلقه لأن الخلق يتصفون بصفة حادثة. فالإنسان أول ما يخرج من بطن أمه لا يتكلم ولا يعلم شيئًا ثم يحدث له علم وكلام. المشبهة بسخافة عقولهم جعلوا الله مثل خلقه لأن كل حادث مخلوق والخالق لا يجوز أن يكون حادثًا ولا يجوز أن يتصف بصفة حادثة.
ثم إنه يلزم على قول المجسمة بشاعة كبيرة وهي أن الله تبارك وتعالى لا يتفرغ من النطق بكلمة كن وليس له فعل إلا ذلك، لأنه في كل لحظة يخلق ما لا يدخل تحت الحصر. فكيف يصح في العقل أن يخاطب الله كل فرد من أفراد المخلوقات بهذا الحرف؟ كيف يُعقل أن ينطق الله تعالى بالكاف والنون بعدد كل مخلوق يخلقه؟ فإن هذا ظاهر الفساد لأنه يلزم عليه أن يكون الله ليس له كلام إلا الكاف والنون. فما أبشع هذا الاعتقاد المؤدّي إلى هذه البشاعة.
فالتفسيران الأوَّلان أحدهما وهو الأول قال به الأشاعرة كالبيهقي والثاني قال به الإمام أبو منصور الماتريدي.ثم إن الله ما وصف نفسه بالنطق إنما وصف نفسه بالكلام أي بأنه متكلم فلو كان كلام الله نطقًا لجاءت بذلك ءاية من القرءان. والموجود في القرءان الكلامُ والقولُ وهما عبارة عن معنًى قائم بذات الله أي ثابتٍ له معناه الذكر والإخبار وليس نطقًا بالحروف والصوت. وقد ألّف الحافظ أبو الحسن علي بن أبي المكارم المقدسي جزءًا في تضعيف أحاديث الصوت على وجه التحقيق [(404)]، وصرَّح البيهقي رحمه الله بأنه لا يصح حديث في نسبة الصوت إلى الله تعالى [(405)].ـ[402] إشارات المرام (ص/167 – 176).
ـ[403] المسامرة شرح المسايرة (ص/78 – 82).
ـ[404] و [(1295)] تقدم تخريجهما.
ـ[405] رواه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب: باب المعراج.
الدليل على أنّ كلام الله الذاتي الذي هو صفة ذاته قديمٌ أزلي كعلمه وقدرته
