الغزو في سبيل الله مبناه القهر والإكراه
مِن القياسات الفاسدة
قياسُ ما يقتضي الرِّضَا بالكُفرِ ضرورةً
على ما لا يقتضي الرِّضَا بالكُفرِ ضرورةً
يكفُر مَن يسُبُّ أصنام الكُفَّار ليسمع منهُم مسبَّة الله
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فإنَّ مِن الكُفر طَلَب الكُفر أو الأمر أو الرِّضَا به، ومِن هذا: لو سأل كافرًا عن دينه وهُو مُتيقِّنٌ أنَّ المسؤول يُجيب بالكُفر؛ لأنَّه لمَّا سأله وهُو عالم بأنَّه يكفُر بجوابه كان كمَن طلب منه الكُفر وأمره به ورضيَه له.
2
وقد أنكر الخصم بدايةً أنْ يكون الأمر مُستلزمًا للرِّضَا! فلمَّا ألجمناه بالأدلَّة والبراهين وبيَّنَّا له أنَّه خلط بين معنى الرِّضَا في حقِّ الله وهُو الإثابة وبين معناه في حقِّ المخلوق وهُو هُنا الأخذ والقَبول: انتقل إلى شُبهة أُخرى.
3
وعمد الخصم في شُبهته الجديدة إلى مزيد مِن الخلط؛ فقاس سُؤال الكافر عن دينه -مع التَّيقُّن مِن أنَّه يكفُر في الجواب- على الغزو في سبيل الله! وهذا قياس مع الفارق سنُبيِّن -فيما يلي- وجه القول بكونه فاسدًا باطلًا.
4
وكذلك قاس الخصم مسبَّة أصنام الكُفَّار -مع العلم بأنَّهُم يرُدُّون بمسبَّة الله تبارك وتعالى- على الغزو في سبيل الله! وهُو كذلك قياس مع الفارق فلا يقع إلَّا باطلًا؛ وليس هكذا تكون الفتوى.. فبئس القياس وبئس القايس.
5
وكُلُّ هذا مِن الجاهل خلط بين ما يقتضي الرِّضا بالكُفر ضرورةً وبين ما لا يقتضيه ضرورةً؛ فقياسه الأوَّل على الثَّاني دلَّ أنَّه ما عرف تحقيقًا، وهُو في قياسه مُفترٍ على الشَّرع مُتخوِّض فيما لا يعلم والعياذ بالله تعالى.
6
فالجاهل المغرور إذَا أدرك قاعدة شرعيَّة غابت عنه أُخرى وإذَا حاول الهرب مِن الوُقوع في مُخالفة القاعدة الأُولى وقع في مُخالفة الثَّانية؛ فلا يخرُج إلَّا بالتُّرَّهات والشُّبُهات الَّتي يلتبس حلُّها على أحمق ضعيف عقل مثله.
7
والبيان: في التَّمييز بين ما يقتضي الرِّضَا بالكُفر ضرورةً وبين ما لا يقتضيه ضرورةً؛ فسابُّ الأصنام إنْ علم أنَّهُم يسُبُّون ربَّنا تبارك وتعالى يكفُر لِفعله ما يقتضي الرِّضَا بالكُفر لأنَّه صار كمَن طلب الكُفر ورضيَه وأمر به.
8
وإنْ لم يعلم ذلك منهُم: لا يكون في حُكم مَن طلب الكُفر ورضيَه وأمر به لكنَّه يكون آثمًا لفعله مُباحًا يُخشى معه منهُمُ الرَّدُّ على مسبَّة أصنامهم بمسبَّة الله تبارك وتعالى؛ فالبيان: في فهم الفرق الَّذي يكون بَين الحالَين.
9
فعلَّة كُفر مَن سبَّ الأصنام علمُه أنَّهُم يرُدُّون بمسبَّة الله تبارك وتعالى؛ أمَّا علَّة تحريم ذلك فالخشية مِن أنْ يرُدُّوا بمسبَّة الله تبارك وتعالى؛ -والخشية دون العلم-، ولكنَّ الجاهل خلط بين العلَّتين! وهذا أصل قياسه الفاسد.
10
أمَّا الغزو في سبيل الله فلا يقتضي الرِّضَا بالكُفر ضرورة كما توهَّم الجاهل؛ لأنَّ اقتضاء ذلك مدفوع بالقتال؛ سواء كان الجهاد (1) جهادَ دفعٍ لردِّ الكُفَّار؛ أو كان (2) جهادَ طَلَبٍ يبتدئُه المُسلمون بُغية نشر الإسلام ومحو الكُفر.
11
ففي الأوَّل اقتضاء الرِّضَا بالكُفر بالضَّرورة: مدفوع بكونه لدفع القتل عن المُسلمين لم يطلُبه المُسلمون ولم يكُن لهُمُ الخِيار في الدَّعوة إليه ولا في الابتداء به وإنَّما يُقاتلون اختيارًا دفعًا لمطامع الكُفَّار في بلاد المُسلمين.
12
وفي الثَّاني؛ فاقتضاء الرِّضَا بالكُفر بالضَّرورة: مدفوع بالقتال الَّذي بدأه المُسلمون ومبناه القهر والإكراه؛ فإنْ أراد الكُفَّار القتال رغم ذلك: أرادوه على الاختيار؛ فلا يكون جهاد الطَّلب طَلَبًا للكُفر كما توهَّم الجاهل المغرور.
13
فالقهر والإكراه دفعَا اقتضاء الرِّضَا بالكُفر في الغزو، وليس في مسبَّة الأصنام مع العلم أنَّهُم يرُدُّون بمسبَّة الله تبارك وتعالى -ولا في سُؤال الكافر مع التَّيقُّن مِن جوابه الكُفريِّ- ما يدفع اقتضاء الرِّضَا بالكُفر ضرورة.
14
وسبب ذلك أنَّ القتال مبنيٌّ على القهر والإكراه دائمًا مُطلَقًا، أمَّا مسبَّة الأصنام مع العلم أنَّهُم يرُدُّون بمسبَّة الله تبارك وتعالى؛ وسُؤال الكافر مع التَّيقُّن مِن جوابه الكُفريِّ: فلا يكون البناء فيهما على القهر والإكراه البتَّة.
15
ولمزيد بيان فقد غزا المُسلمون الدُّنيا فدانت لهُمُ الأُمم بالقهر والإكراه؛ سواء قاتل الكُفَّارُ المُسلمين أو لا؛ ولو كان غزوُهُم يقتضي أنَّهُم يُقاتلون المُسلمين ويقتُلُونهُم: فلماذَا لم يحصُل ذلك في كُلِّ مرَّة غزاهُمُ المُسلمون فيها!
16
ثُمَّ إنَّ الحربيِّين وإنْ لم يُبادروا بابتداء قتال المُسلمين فإنَّهُم فاعلون متَى استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ فمِن الحكمة أنْ يسبقهُم المُسلمون إلى ذلك إذَا قدروا عليهم لا تركُهُم يستعدُّون لقتال المُسلمين متَى كان مُناسبًا لهُم.
17
وقد يسأل الخصم: فإذَا كانت مسبَّة الأصنام مُحرَّمة لأجل ما يُخشى معها مِن ردِّ الكُفَّار بمسبَّة الله تبارك وتعالى؛ فلماذَا فُرض الجهاد في سبيل الله ولم يُحرَّم بالرَّغم ممَّا يُخشى معه مِن نُهوض الكُفَّار لقتال المُسلمين!؟
18
فالجواب: أنْ يُقال له إنَّ الجهاد فيه تحقيق مصالح شرعيَّة وفيه محوُ أكثر الكُفر بالله؛ وكُلُّ هذه المصالح الشَّرعيَّة وغيرها لا تتوفَّر في مسبَّة الأصنام لأنَّ مُجرَّد المسبَّة في تلك الحالة إظهار للمفاسد دون تحقيق مصلحة.
19
ففي الجواب على هذا يحسُن إيراد قول المُاتُريديِّ في تفسيره: <وأصلُه أنَّ ما خرج الأمر به مخرج الإباحة فإنَّه يُنهى عمَّا يتولَّد منه ويحدُث وما كان الأمر به أمر فرض ولزوم لا يُنهى عن المُتولِّد منه والحادث> انتهى.
20
فالفرق بين حُكم مسبَّة الأصنام مع الخشية مِن ردِّ الكُفَّار بالكُفر؛ وبين حُكم الجهاد مع الخشية مِن نُهوض الكُفَّار للكُفر؛ أنَّ الأوَّل فيه مفاسد عظيمة بينما في الجهاد محوٌ للكُفر فلا يُقاس الجهاد على مسبَّة الأصنام دائمًا.
21
وَلْيُعْلَمْ أنَّ قولنا: <وهُو مُتيقِّن بأنَّ المسؤول يُجيب> إلخ.. ليس المُراد باليقين فيه معنى المعرفة اليقينيَّة المقطوع بها كمعرفتنا بعذاب القبر عن طريق الوحي؛ لا.. وإنَّما المُراد باليقين هُنا العلم الَّذي ينبني على غَلَبَة الظَّنِّ.
22
وفي تفسير الرَّازيِّ: <الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ قَدْ يُقَبَّحُ إِذَا أَدَّى إِلَى ارْتِكَابِ مُنْكَرٍ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ يُقَبَّحُ إِذَا أَدَّى إِلَى زِيَادَةِ مُنْكَرٍ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ> انتهى.
23
أمَّا اقتراح الخصم أنَّنا نقول إنَّ المُراد باليقين هُنا علمُ اليقين؛ فهذا دليل كونه سقيم الفهم ضعيف العقل غارقًا في الجهل لا يفهم المسائل بوُجوهها الصَّحيحة.. فأَولى به السُّكوت فقد كشف عن جهل عظيم والعياذ بالله.
24
ومَن قرأ هذا المقال مع تدبُّر معانيه: فإنَّه سيفطُن أنَّ كُلَّ شُبُهات أهل الفتنة الَّتي يقترحُها الجاهل المغرور ما هي إلَّا تُرَّهات يُمليها عليه شيطانُه الَّذي يدعوه إلى الكُفر بالله كُلَّ يوم وكُلَّ ساعة.. والعياذ بالله مِن سُوء الخاتمة.
انتهى.
Jan 30, 2021, 5:41 AM
