ليس كُلُّ ذنب خسَّة ودناءة.. ولا كُلُّ ذنب يُوجب الإزراء والخساسة
بيان أنَّ مِن الصَّغائر ما لا يقدح بالمراتب ولا يُخلُّ بالمناصب
بيان الحكمة مِن وُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها كما في قول الجُمهور
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فقد جوَّز جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة على الأنبياء عليهم السَّلام الوُقوع نادرًا في ذنب صغير لا خسَّة فيه ثُمَّ يتوبون منه فَورًا قبل أنْ يُقتدى بهم فيه ولكنَّهُم معصومون مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة إجماعًا.
2
قال القاضي الإيجي في شرح [مُختصر ابن الحاجب]: <وأمَّا بعد الرِّسالة: فإنْ كانت مِن الكبائر أو مِن الصَّغائر الخسيسة فالإجماع على عصمتهم منها؛ وإنْ كانت مِن غيرها فالأكثرُ على جوازه> انتهى باختصار.
3
وقال السَّعد التَّفتازانيِّ في [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى باختصار.
4
وقال الإمام النَّوويِّ في [شرح مُسلم]: <فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا> إلخ.. وقال الإمام الغزاليُّ في [المُستصفَى]: <فقد دلَّ الدَّليل على وُقوعها منهُم> انتهى.
5
ولو أردنا استقصاء أقوال العُلماء والمُصنِّفين في بيان أنَّ جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة على القول بجواز وُقوع الأنبياء بعد الوحي في ذنب صغير لا خسَّة فيه لاحتاج ذلك منَّا إلى صرف الزَّمن الطَّويل في رسمه وبيانه.
6
ولكنَّ بعض الجَهَلَة المُتصولحة آثروا الغُلُوَّ فقالوا إنَّ الأنبياء لا يُمكن أنْ يقع أحدُهُم في ذنب صغير لا خسَّة فيه بعد النُّبُوَّة -بالإجماع-؛ وهذا الإجماع الَّذي يذكرونه إنَّما هُو إجماع مكذوب مُفترَى على الشَّرع.
7
فلمَّا نقلنا لهُم أقوال العُلماء قال الجَهَلَة: كيف يقعون في ذنب وقد قيل: إنَّ الذَّنب عار؛ وإنَّه يتضمَّن نقض العهد وتحليل عقد الودِّ والإيثار على المَولى والطَّاعة للهوى وخلع جلباب الحياء والمُبادرة لله بما لا يرضى؟
8
والجواب أنْ يُقال لهُم إنَّ الذُّنوب والمعاصي منها ما يُوجب الإزراء والخساسة ويقدح بالمراتب ويُخِلُّ بالمناصب ومنها ما لا يُوجب ذلك؛ والصَّغائر الَّتي جوَّزها جُمهور العُلماء على الأنبياء هي غير ذات الخسَّة والدَّناءة.
9
ويحسُن أنْ يُقال لهُم: إنَّ العامَّة ابتلوا بالكبائر والخسائس والإصرار على الذَّنب فكان مِن أدب الصُّوفيَّة التَّنفير مِن ذلك دون أنْ يقصدوا أنَّ كُلَّ ذنب مهمَا كان صغيرًا يكون فاعلُه خسيسًا ناقضًا للعهد خالعًا جلباب الحياء.
10
فلو قُدِّر وُقوع وليٍّ مِن أولياء الله الكبار في ذنب صغير لا خسَّة فيه؛ فهذا لا يعني أنَّ هذا الوليَّ الكريم على الله صار موصوفًا بالعار وتحليل عقد الودِّ والإيثار على المَولى والطَّاعة للهوى والمُبادرة لله بما لا يرضَى.
11
ففي كُتُب الصُّوفيَّة عبارات شديدة في وصف المعاصي مِن باب التنَّفير والزَّجر بحيث لا يُتصوَّر وُقوعُها مِن الأولياء فضلًا عن الأنبياء، وهذا لا يعني أنَّ الأولياء معصومون مِن الوُقوع في الذُّنوب الكبيرة والصَّغيرة.
12
لكن إذَا تكلَّموا بلسان الفُقهاء والأُصوليِّين تتغيَّر عباراتُهُم إلى ما نعرف مِن تعريفات يُستفاد منها أنَّ المعاصي منها كبير ومنها صغير وأنَّ الصَّغائر منها ما يشتمل على الخسَّة والدَّناءة ومنها ما لا يشتمل على ذلك.
13
وقد سمَّى الله تعالى الصَّغائر باللَّمَم؛ والَّذين يرتكبونها ويجتنبون الكبائر والفواحش بأنَّهُم مُحسنون فقال تعالى: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} الآية..
14
قال الإمام الطَّبريُّ في [تفسيره]: <وأَوْلى الأقوال في ذلك عندي بالصَّواب قول مَن قال “إلَّا” بمعنى الاستثناء المُنقطع، ووجَّه معنى الكلام إلى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} بما دون كبائر الإثم> إلخ..
15
فإنْ رأيتَ وصف الصُّوفيَّة للذُّنوب الَّتي تُوجب الإزراء والخساسة؛ وانتبهتَ أنَّ الله وصف الَّذين يجتنبون الكبائر والفواحش ويقعون في صغائر الذُّنوب والمعاصي دون إصرار بأنَّهُم (الَّذين أحسنوا) تَفْهَمْ ما لم يفهمه الجَهَلَة.
16
فمِن هُنا يُعرف أنَّ كلام الصُّوفيَّة في وصف الذُّنوب وعباراتهمُ القاسية في ذلك لا تنطبق على الَّذين يجتنبون الكبائر والفواحش فلا يقعون إلَّا في ذنب صغير لا خسَّة فيه.. فبَطَلَت شُبهة الجَهَلَة المُتصولحة أهل الفتنة.
17
وهذا ليس دعوة للتَّهاون بالصَّغائر ولكن لضرورة بيان مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في عصمة الأنبياء وإلَّا فينبغي أنْ لا ينظُر الإنسان إلى الذَّنب.. صغير أم كبير.. بل ينبغي أنْ ينظُر إلى عظمة مَن يعصي.
18
وأمَّا عن الحكمة مِن وُقوع الأنبياء عليهمُ السَّلام في صغائر لا خسَّة فيها على قول الجُمهور قال الإمام الرَّازيُّ في [تفسيره]: <ثَالِثُهَا الصَّغَائِرُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَهُوَ يَصُونُهُمْ عَنِ الْعُجْبِ> انتهى.
19
والعُجْب في اللُّغة هُو الزُّهُوُّ.. ورجُلٌ مُعْجَبٌ: مَزْهُوٌّ بما يكون منه حسَنًا أو قبيحًا.. والعُجْبُ بطاعة الله هُو كما قال الفُقهاء: شُهود العِبادة صادرة مِن النَّفس غائبًا عن المِنَّة، ويُحبط ثوابها إذَا اقترن بالعمل.
نهاية المقال.
Feb 15, 2021, 2:22 AM
