إثبات كسب العباد لأفعالهم وأن الله خالقها لا يخلقون شيئًا منها – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

إثبات كسب العباد لأفعالهم وأن الله خالقها لا يخلقون شيئًا منها
مذهب أهل الحق أنّ أعمال العبد كلَّها مخلوقة لله لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله صَانِعُ كُلّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ» [(511)].
فيجب الاعتقاد بأن العبد لا يخلق شيئًا من أعماله، أي لا يحدثها من العدم بل يكسبها. فأفعاله مخلوقة لله بمشيئته وعلمه وتقديره. فلا يجري في المُلك والملكوت طرفة عينٍ ولا فلتة خاطر ولا لفتة ناظر إلا بقضاء الله وقدره وقدرته وإرادته ومشيئته، لا فرق بين ما كان خيرًا أو شرًّا، نفعًا أو ضرًّا، وإيمانًا أو كفرًا، وفوزًا أو خسرانًا، أو غَوايةً أو رشدًا لأن الممكنات العقلية بما فيها من الأجسام والأعمال لا توجد إلا بفعل الصانع الحكيم. لا يصح عقلاً أن يكون وجود قسم منها بفعل الله ووجود قسمٍ ءاخر بفعل غيره وهذا مذهب أهل الحق لا يُسأل الله عما يفعل وهم يسألون.
قال الإمام أبو حنيفة في «الوصيّة» [(512)] «والعبد مع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق. فلما كان الفاعل مخلوقًا فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة». وقال في «الفقه الأكبر» [(513)] «وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خالقها».
وقال الجاحظ والنَظَّام من زعماء المعتزلة بأن العبد يخلق شيئًا واحدًا وهو القصدنقل ذلك الإمام عبد القاهر التميمي [(514)].وكأن ما في كتاب «المسايرة» للكمال بن الهَمَّام وكتابه «التحرير» [(515)] مأخوذ من قوليهما إذ فيهما أن العبد يخلق شيئًا واحدًا وهو العزم المصمّم وأنه يخص به عموم قول الله تعالى ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ … *﴾ [سورة الزمر] ليصح التكليف»، فليُحذر من ذلك فإنه خروج عن مذهب أهل الحق قاطبة. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وقد نسب إليه ذلك ملا علي القاري وردَّه [(516)].
ونص عبارة «المسايرة» [(517)]: «جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية والاختيار بخلق الله تعالى لا تأثير لقدرة العبد فيه وإنما محل قدرته عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأمور في باطنه عزمًا مصممًا بلا تردد وتوجهًا صادقًا إلى الفعل طالبًا إياه» اهـ.
إلى أن قال [(518)]: «فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى صح تكليفُه وثوابُه وعقابُه وذمه ومدحُه وانتفى بطلانُ التكليفِ والجبرُ المحضُ وكفى في التخصيص لتصحيح التكليف هذا الأمر الواحد أعني العزم المصمموما سواه مما لا يُحصى من الأفعال الجزئية والتُّروك كلُّها مخلوقةٌ لله تعالى متأثرةٌ عن قدرته ابتداء بلا واسطة» اهـ.
والدليل على ما قاله أهل السنة أن فعل العبد ممكن من الممكنات العقلية وكل ممكن مقدور له ففعل العبد مقدوره ولا يحصل شىء من مقدوره إلا بإيجاده لأن قدرته عامة كما أن إرادته عامة شاملة ولو قصرت قدرته عن بعض الممكنات لكان ذلك بمانعٍ غالبٍ ولا يجوز أن يمنع الواجب الوجود شىءٌ بل هو غالب على أمره.ـ[511] المسايرة (ص/114 – 115).
ـ[512] تشنيف المسامع (4/ 87 – 88).
ـ[513] يعني أيها الإنسان.
ـ[514] تشنيف المسامع (4/ 93).
ـ[515] تأويلات أهل السنة (8/ 578).
ـ[516] التوحيد (ص/304).
ـ[517] يعني المعجزة.
ـ[518] تأويلات أهل السنة (4/ 223).

ما يجوز أن يسمى الله به وما لا يجوز

فائدة

فائدة
قال الزركشي في «تشنيف المسامع» [(519)]: «والله سبحانه وتعالى فاعل بالاختيار فله تقديم الحادث وله تأخيره بحسب اختياره، والدليل عليه قوله تعالى ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ … *﴾ [سورة القصص] ﴿ … إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ *﴾ [سورة البقرة] ﴿ … فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *﴾ [سورة هود].وقد برهن على ذلك بقوله تعالى ﴿ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ … *﴾ [سورة الرعد] الآية، وتقريره أنه لو كان فاعلاً بالطبع كما زعموا لما اختلفت مخلوقاته مع اتحاد أسبابها كالنار في إحراقها والماء في إغراقه وتبريده والشمس في تسخينها لكن مخلوقاته مختلفة مع اتحاد أسبابها لأن الجنس الواحد من الشجر كالرمان مثلًا يُسقى بماء واحد ثم يختلف في طعمه فمنه حلو ومنه حامض، فاختلاف طعومه مع اتحاد ما يغذّيه ويُنَمّيه دليل على أن الصانع فاعل بالاختيار» اهـ.

إثبات كسب العباد لأفعالهم وأن الله خالقها لا يخلقون شيئًا منها

دليل ءاخر

دليل ءاخر
إنه لما ثبت أنه مريد لكل كائن دخل في الوجود – لأن المُصَحِّحَ لتعلق إرادته بالخير والطاعة إنما هو إمكانها والإمكان مشترك بين الجميع – وجب أن يكون شائيًا للممكنات كلها وهو المطلوب. وثبت أنّه خالقٌ لجميعها خيرها وشرها.

دليل عقلي ءاخر
أنه لو كان فعل العبد بخلقه لكان عالمًا به على وجه الإحاطة ضرورة أنه مختار والاختيار فرع العلم لكنه لا يحيط علمًا بفعله؛ لما يجد كل عاقل عدم علمه حال قطعه لمسافة معينة بالأجزاء والأحيان والحركات التي بين المبدإ والمنتهى وكذا حالة نُطقه بالحروف يجد كل عاقل من نفسه عدم العلم بالأعضاء التي هي ءالتها والمحالّ التي فيها مواقعها وعدم العلم بهيئاتها وأوضاعها وكل ذلك ظاهر. هكذا قرره الماتريدي.

دليل ءاخر لو كان فعل العبد مخلوقًا بقدرته لزم اجتماعُ مؤثرين حقيقيين على أثر واحد وهو محال لما يلزم عليه من اجتماع النقيضين وهو الاستغناء وعدم الاستغناء. وبيان الملازمة أن فعل العبد ممكن وكل ممكن واقع بقدرة الله تعالى ضرورة أنَّ الإمكان هو المحوج للمرجح المعيَّن لأن غير المعيَّن لا تحقق له والإمكان معقول واحد في جميع الممكنات فيلزم افتقار جميع الممكنات إلى ذلك المرجح المعيَّن وإلا لزم الترجيح بلا مرجّح ولا جائزٌ أن يكون ذلك المرجح ممكنًا وإلا لزم التسلسل فيه فيكون واجب الوجود هو صانع العالم فيكون جميع الممكنات واقعة بقدرته فلو كان فعل العبد واقعًا بقدرته لزم المحال المذكور فثبت المطلوب.

دليل ءاخر
لو جاز أن يكون فعل العبد واقعًا مخلوقًا بقدرته لجاز أن يكون الجواهر وسائر الأعراض بقدرته وذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين المعتزلة. فيكون وقوع فعل العبد بخلقه باطلاً محالاً. وبيان الملازمة أن المحوج لفعل العبد إلى مرجح هو الإمكان والحدوث وكل منهما حقيقة واحدة في جميع الممكنات.
فإذا وضح ذلك لزم القول بأن أفعال العباد مستندة في بروزها من العدم إلى قدرة الله، وذلك لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على وجه الكسب، بل الله تعالى خلق قدرة العبد الحادثة ومقدوره جميعًا وإرادته ومراده جميعًا فالحركة خلقٌ لله وكسبٌ للعبد.
فإن قال المعتزلي: إن ذلك جبر منافٍ للتكليف قلنا: لا يكون ذلك جبرًا محضًا والعبد يُدرك بالضرورة التفرقة الضرورية بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية وكيف يكون خلقًا للعبد وهو لا يحيط علمًا بتفاصيل الحركات المكتسبة وأعدادها.
فإذا بطل الطرفان لم يبق إلا الأخذُ بالأمر بين الأمرين والاقتصاد في الاعتقاد لا جبر محض ولا اعتزال. وهو أن فعل العبد مخلوق بقدرة الله ومكتسب للعبد بمعنًى دون الخلق أي الإحداث من العدم. فمذهب أهل الحق خرج من بين فرث ودم لبنًا خالصًا للشاربين.