تنبيه
الهداية عند أهل الحق على وجهين:
الأول. الهداية بمعنى خلق الاهتداء في العبد وهو المراد في قوله تعالى ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي … *﴾ [سورة الأعراف].والثاني. بمعنى الدعوة كقوله تعالى ﴿… وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *﴾ [سورة الشورى] فالهداية بهذا المعنى لا تستلزم أن يهتدي المدعو بدليل قوله تعالى ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ … *﴾ [سورة القصص] وكذا قوله ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ … *﴾ [سورة فصلت] أي بينّا لهم الهدى لكنهم لم يهتدوا فلذلك قال ﴿… فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى … *﴾ [سورة فصلت]. وعند المعتزلة أنّ الهداية حقيقةٌ في هذا الثاني وأن الله هدى الكافر بأن نصب له ما يصير به مهتديًا كما تقول هديت زيدًا الطريق إذا جعلت الاهتداء له بإرشادك وإن لم تكن خالقًا، كذلك يهدي الله الكافر لكنه ما اهتدى وضل عنه، وتعلقوا بقوله تعالى ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى … *﴾ [سورة فصلت] على غير وجهه. ويدل على أنه ليس حقيقة في هذا الثاني نفيه في قوله تعالى ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ … *﴾ [سورة البقرة] لأن دعاءهم كان واجبًا عليه. وإنما الذي لا يجب عليه خلق الإيمان في قلوبهم، فكان ردّ أهل الحق من الأشاعرة والماتريدية أن قالوا: «إن الهدى على خلاف مراد ربه فلقد استوخموا من السنة المناهل العذاب، ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب».وبعبارة أخرى الهداية ضربان: هدى دعاء وبيان، وهدى رشادٍ وعرفان فالذي حصل لثمود الأول لا الثاني وإلا لاستحال تخلّف أثره. قال تعالى ﴿… مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ … *﴾ [سورة الكهف] وقال ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ … *﴾ [سورة الأنعام]، وقال ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ … *﴾ [سورة الأنعام] فدل على أن الهدى الذي هو الرشاد والاهتداء خاص بالمؤمنين وعلى هذا قوله تعالى ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَآءُ … *﴾ [سورة يونس] فخصَّ الهداية وعمَّ الدعوة فدل على أنّ الهدى بفضله والضلالة بقدره. كل ذلك مستند إلى سابق علمه وهذا من القواصم للمعتزلة. وقولهم إنه لم يضلهم إلا بعد أن أضلوا أنفسهم مردود فإن إضلالهم أنفسهم مكسوب لهم فهو مخلوق لله تعالى على ما عُرف ولأنه إذا قيل في العرف فلان هداه الله لم يتبادر الذهن إلى غير خلق الهدى وكذلك إذا قيل أضلّه الله. والتبادر إلى الفهم علامة الحقيقة.
تكميل
يؤخذ من كلام الزركشي [(534)] إن قال المعتزلي يُرد عليكم على موجب ما ذهبتم إليه من شمول إرادته تعالى لأعمال العباد خيرها وطاعتها ومعاصيها أن يحتج العاصي فيقول: تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقَب. قلنا: إن ذاك بمنزلة قول المريض تقدمت الإرادة بالمرض فلا أتألم وهذا مع جهالته فاعتلاله بالقدر ذنبٌ جدير بأن يعاقب عليه.فإن قال قائل: أليس هذا كاحتجاج ءادم في محاجة موسى له الواردة في الخبر الصحيح؟ قلنا: لم يحتج ءادم بالقدر إلا بعد أن تاب فقد أخبر الله تعالى عنه أنه قال ﴿ … رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *﴾ [سورة الأعراف] وقال في حقه ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى *﴾ [سورة طه] فالمذموم إنما هو احتجاج العاصي بالقدَر مع الإصرار على الذنب.ـ[534] رواه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قوله تعالى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *} [سورة الصافات].
مسألة في السعيد والشقي
ذهب الجمهور إلى أن السعيد والشقي لا يتبدّلان فالسعيد من علم الله أنه يموت مؤمنًا والشقي من علم الله أنه يموت على الكفر [(535)]. قال علماؤنا: لن ينفع من ساءت خاتمتُه تقدُّمُ قناطير من إيمان، وينفع من حسنت خاتمته تقدم حبّة خردل من إيمان، والكتاب والسنة يدلان على ذلك قال تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ *وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأِجَلٍ مَعْدُودٍ *﴾ إلى قوله في سورة هود ﴿ … غَيْرَ مَجْذُوذٍ *﴾ وإنما أراد بالشقي من مات على كفره وبالسعيد من مات على إيمانه، وذكر الواحدي من رواية ابن عمر [(536)] عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة» ولو صحَّ هذا لكان نصًّا، وروى الترمذي [(537)] أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فرغ ربك من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير». فإن قيل: أليس قال الله تعالى ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ … *﴾ [سورة الرعد] فالجواب أنه لم يقل يمحو كل شىء ويثبت فلا حاجة إلى التخصيص على أنه جاء عن ابن عباس تفسيره بالنسخ أي يمحو ما يشاء من القرءان بالنسخ ويثبت ما يشاء منه فلا ينسخه كما أخرجه البيهقي في كتاب «الأسماء والصفات» [(538)] وعلى هذا فقوله تعالى ﴿… وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *﴾ معناه ما سبق في علم الله في الأزل، وذلك لا يتغير ولا يتبدل، وقال الزركشي [(539)]: «وأمّا ما في اللوح المحفوظ فحادث يمحو الله ما يشاء ويثبت».
وجاء عن ابن عباس أيضًا [(540)] أنه قال في تفسير ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ … *﴾ [سورة الرعد] إن الملَكين الموكلين بالعبد يكتبان جميع ما يتلفظ به العبد من حسنةٍ وسيئة وغير ذلك، ثم يثبتان الحسنات والسيئات ويمحى ما سوى ذلك كقوله: اذهب وتعالَ واقعد ونحو ذلك.فإن قيل: ما وجه ما جاء من المشهور الصحيح [(541)] من حديث جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»؟ قلنا: يفسره ما ورد في رواية سهل بن سعد بلفظ [(542)]: «ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس» فيكون الذي تسوء خاتمته كان فيما يعلم الله منه منافقًا يتظاهر بالإسلام وقلبه كافر أو مرائيًا لا يعمل مخلصًا لله وليس ذلك فيمن استقام باطنه وصلح ظاهره فإنه لا تسوء خاتمته بل يختم له بخيرٍ كما قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في كتاب «العاقبة» [(543)] ويشهد له حديث: «إنما الأعمال بالخواتيم إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خَبُثَ أعلاه خَبُث أسفله» رواه ابن حبان [(544)].
ومما يؤيد أن الذي يدخله المحو هو ما في صحف الملائكة ما في بعض روايات حديث [(545)]: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يومًا نطفة» الحديث وهي رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الأعمش عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استقرت النطفة في الرحم أخذها الملك بكفّه فقال: أي رب أذكرٌ أو أنثى وفيه فيقال انطلق إلى أمّ الكتاب فإنك تجد فيه قصة هذه النطفة فينطلق فيجد ذلك».
قلت: فيؤخذ من ذلك أن الذي لا يمحى ما سبق في علم الله أن يختم له به من عمل أهل السعادة أو أهل الشقاوة وما كتب في اللوح أنه يختم له به، وإن محل المحو ما تكتبه الحفظة من عمل العبد قبل ذلك والله أعلم.ـ[535] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير: باب لا يقول فلان شهيد.
ـ[536] نقله الحافظ في فتح الباري (1/ 489).
ـ[537] رواه ابن حبان في صحيحه انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/ 277).
ـ[538] أورده ابن حجر في فتح الباري (11/ 482).
ـ[539] المقاصد مع شرحه (4/ 265).
ـ[540] تبصرة الأدلة (2/ 716).
ـ[541] إشارات المرام (ص/264).
ـ[542] مناقب الشافعي (1/ 412 – 413).
ـ[543] شرح الفقه الاكبر (ص/72 – 74).
ـ[544] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.
ـ[545] معالم السنن (4/ 297).




