وجوب أزليَّة الصفات
قد برهنَّا في ما مضى أن حدوث الصفة للذات يوجب حدوث الذات وحدوثُ ذات البارئ محال فثبت أن صفاته أزلية.
وصفات الله تعالى ليست كصفات المخلوقين. قال القشيري في عقيدته [(492)]: «قال شيوخ هذه الطريقة على ما يدل عليه متفرقات كلامهم ومجموعاتها ومصنفاتهم في التوحيد إن الحق سبحانه موجود قديم واحد حكيم قادر عليم ماجد رحيم مريد سميع مجيد رفيع متكلم بصير متكبر قدير حي باق أحد صمد وأنه عالم بعلم قادر بقدرة مريد بإرادة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام لا يشبه شيئًا من المصنوعات ولا يشبهه شىء من المخلوقات ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا صفاته أعراض، لا يُتصور في الأوهام ولا يتقدر في العقول ولا له جهة ولا مكان، يُرَى لا عن مقابلة ويَرَى غيره لا عن مماقلة» اهـ ثم أتم العقيدة إلى ءاخرها.وقال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي ما نصه [(493)]: «ذكر النسفي في الاعتماد أن المماثلة عند الفلاسفة والباطنية تثبت بالاشتراك في مجرد التسمية فلا يوصف البارئ عندهم بكونه حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا على الحقيقة لاتصاف الخلق بها وهو باطل لأنها لو ثبتت به لتماثلت المتضادات إذ السواد والبياض يشتركان في اللونية والعرضية والحدوث وعند المعتزلة «تثبت المماثلة بالاشتراك في أخص الأوصاف إذ لا مماثلة بين السواد والبياض مع اشتراكهما في اللونية والعَرَضية والحدوث لأنها أوصاف عامة فلما جاء الاشتراك في السوادين ثبتت المماثلة لأنه أخص الأوصاف وهذا لأن المماثلة إنما تقع بما تقع به المخالفة والسواد يخالف البياض لكونه سوادًا لا لكونه لونًا وعرضًا وحادثًا دل أنه إنما يماثل السواد لكونه سوادًا فلو كان البارئ متصفًا بالعلم لثبت التماثل إذ العلم يماثل العلم لكونه علمًا لا لكونه كذا فكذا هذا» وهو فاسد لأن المحدَث يخالف القديم بصفة الحدوث وينبغي أن تثبت المماثلة بين كل مشترِكين في صفة الحدوث فتكون المتضادات كلها متماثلة لاشتراكها في صفة الحدوث ولأن القدرة على حمل مَنٍّ تساوي القدرة التي يحمل بها غيره مائة منٍّ في أخص أوصافها ولا تماثلها وعندنا هي تثبت بالاشتراك في جميع الأوصاف حتى لو اختلفا في وصف لا تثبت المماثلة لأن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر وينوب منابه إن كان من جميع الوجوه كانا مثلين من جميع الوجوه وإن كان من بعض الوجوه فهما متماثلان من ذلك الوجه ولكن إذا استويا من ذلك الوجه … إذ لو كان بينهما تفاوت في ذلك الوجه لما ناب أحدهما مناب صاحبه ولا سد مسده.فالحاصل أنه يجوز أن يكون الشىء مماثلاً للشىء من وجه مخالفًا من وجه فإن أحدًا من أهل اللغة لا يمتنع من القول بأن زيدًا مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن كانت بينهما مخالفة بوجوه كثيرة ولو اشتركا في الفقه والكلام ولكن لا ينوب أحدهما مناب صاحبه ولا يسد مسده يمتنع من أن يقول إنه مثل له في كذا تحقيقه أن المماثلة جنس يشتمل على أنواعه وهي المشابهة والمضاهاة والمشاكلة والمساواة وإطلاق اسم الجنس على كل نوع من أنواعه جائز فإن الآدمي يقال له حيوان وكذا الفرس وغيره ثم قد يختص شيئان بثبوت المساواة بينهما وهي الاشتراك في القدر مع عدم المشاكلة والمضاهاة والمشابهة وكذا كل نوع من سائر أنواعه وعند عدم الأنواع الأخر تثبت المخالفة من ذلك الوجه ومع ذلك لا يمتنع أهل اللغة من إطلاق لفظ المماثلة لثبوت ما ثبت من هذه الأنواع مع أن علمنا عرض محدَث جائز الوجود ومستحيل البقاء غير شامل على المعلومات أجمع وهو ضروري أو استدلالي وعلمه تعالى أزلي واجب الوجود شامل على المعلومات أجمع ليس بعرض ولا مستحيل البقاء ولا ضروري ولا استدلالي وكذا حياتنا وقدرتنا وسائر الصفات فإذًا لا مماثلة بين علمه تعالى وعلم الخلق وكذا في سائر الصفات ولأن القول بعالِم لا علم له وقادر لا قدرة له كالقول بمتحرك لا حركة له وأسود لا سواد [له] وهو تناقض ظاهر.فإن قيل «هذه الصفات لو كانت ثابتة لكانت باقية ولو كانت باقية فإما أن تكون باقية بلا بقاء أو ببقاء فإن كانت باقية ببقاء ففيه قيام الصفة بالصفة وقد أنكرتم علينا مسألة بقاء الأعراض وادعيتم استحالته وإن كانت باقية بلا بقاء فلم لا يجوز أن يكون الذات قادرًا بلا قدرة عالمًا بلا علم» قلنا كلُّ صفة من هذه الصفات باقية ببقاء هو نفس تلك الصفة فيكون علمه علمُ الذات بقاءً لنفسه فيكون الذات بالعلم عالمًا والعلم بنفسه باقيًا وكذلك بقاء الله تعالى بقاء له وبقاء لنفسه أيضًا فيكون الله تعالى به باقيًا وهو بنفسه أيضًا باق. ولا يقال «إن البقاء إذا جعل بقاء للذات يستحيل أن يكون بقاء لنفسه لأنه يؤدي إلى القول بحصول الباقيين ببقاء واحد وهو محال كحصول أسودين بسواد واحد» لأنا نقول بأن حصول باقيين ببقاء واحد إنما يستحيل إذا لم يكن أحد الباقيين بقاء لنفسه ثم يقوم بالباقي الآخر [وإلا] كان كل منهما باقيًا ولم يستحل ذلك.
فإن قيل «لو كانت له هذه الصفات لكانت أزلية إذ القول بحدوث الصفات للقديم محال ولكانت أغيارًا للذات والقول بوجود الأغيار في الأزل مناف للتوحيد، قلنا الصفات ليست بأغيار للذات لأن أحد الغيرين هما اللذان يمكن وجود أحدهما بدون الآخر فلم يوجد للمغايرة ضرورة وهذا لأن ذات الله تعالى لا يتصور بدون علمه وكذا علمه لا يتصوّر بدون ذاته لما أن ذاته أزلي وكذا صفاته والعدم على الأزلي محال وهذا كالواحد الذي من العشرة لا يكون عين العشرة ولا غير العشرة لاستحالة بقاء الواحد الذي من العشرة بدون العشرة أو بقائها بدونه إذ هو منها فعدمها عدمه ووجودها وجوده» اهـ.
ـ[492] الأسماء والصفات (ص/279).
ـ[493] إتحاف السادة المتقين (2/ 100).
الصفات على وجهين ذاتيّة وفعليّة




