بحث يلتفت إلى ما مضى من تكفير الغالي من أهل الأهواء
روى محمَّد بن الحسن والحارثي والأنصاري عن أبي حنيفة [(558)] قال «حدثني نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام «يَجيء قوم يقولون لا قدر ثم يخرجون منه إلى الزندقة فإذا لقيتموهم فلا تُسلّموا عليهم وإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم فإنهم شِيْعةُ الدجال ومجوس هذه الأمة حق على الله أن يُلحِقَهُم بهم» فالمعتزلة هم القدرية لأنهم جعلوا الله والعبد سواسية بنفي قدرته عزَّ وجلَّ على ما يُقدِرُ عليه عبده وبالعكس كما المجوس قائلون بمبدأين مستقلين هما الظلمة والنور أو يزدان وأَهْرُمُنْ. وقول المعتزلة «أنتم القدرية المرادون بهذا الحديث فإن الشىء ينسب إلى من يثبته لا إلى من ينفيه» فهو مردود لما رواه أبو داود [(559)] عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم «لكل أمةٍ مجوسٌ ومجوسُ هذه الأمةِ الذين يقولون لا قَدَر» فهو نص في أنهم هم المرادون.وأخرج البيهقي والإمام أحمد [(560)] عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مجوسُ هذه الأمة الذين يقولونَ لا قدر فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وهم شيعةُ الدّجال فحقٌ على الله أن يحشرهم معه». فهو من الأحاديث المشهورة التي تقوم بها الحُجة في العقيدة، رواه ثمانية من الصحابة عُمَر وعبد الله بن عمر وحذيفة بن اليمان وابن عباس وجابر وأبو هريرة وسهل بن سعد وأنس بن مالك. وخرجه عنهم ستة عشر نفسًا بأكثر من عشرين طريقًا، فرواه من حديث عمر وابن عباس [(561)] اللالكائي، وعن ابن عمر أحمد وأبو داود والحاكم والطبراني والبيهقي والبخاري في التاريخ واللالكائي [(562)].
ورواه أحمد وأبو داود والبيهقي والطيالسي والبزارُ عن حذيفة بن اليمان [(563)]، وابن ماجه والطبراني عن جابر [(564)]، والطبراني عن سهل ابن سعد [(565)]، وابن عساكر عن أبي هريرة [(566)]، والطبرانيُّ وأبو نعيم عن أنس [(567)]. ولذلك أورده الإمام أبو حنيفة في بعض رسائله الاعتقادية [(568)]. فاحتجاج أبي حنيفة به في مسألة اعتقادية دليل على تصحيحه له، والإمام أبو حنيفة من المحدثين الحفاظ الذين يصح منهم التصحيح والتضعيف، وقد رواه ابن حبان في صحيحه وصححه أيضًا [(569)] وهو الصواب [(570)] وإن كان عند البعض ضعيفًا.
وقال أبو حنيفة في «الوصيّة» [(571)]: «فلو زعم أحد أن تقدير الخير والشر من غيره تعالى صار كافرًا بالله وبطل توحيده».وقال رضي الله عنه في «الفقه الأبسط» [(572)]: «فإن قال القدريُّ المشيئة إليَّ إن شئت ءامنت وإن شئت لم أؤمن قال تعالى ﴿… فَمَنْ شَآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … *﴾ [سورة الكهف]. وقال تعالى ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى … *﴾ [سورة فصلت]. وقال تعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ … *﴾ [سورة الإسراء]. وقال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ *﴾ [سورة الذاريات] ولم يجبر عباده على ذنب ثم يعذبهم عليه ولو زنى أو شرب أو قذف تُجرى الحدود عليه ولم يشأ أن يُفترى عليه والله يقول ﴿ … هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ *﴾ [سورة المدثر] فهو ليس بأهل للكفر غير مريد له. يقال له: قوله تعالى ﴿… فَمَنْ شَآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … *﴾ [سورة الكهف] وعيد فقد قال تعالى ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَآءَ اللَّهُ … *﴾ [سورة المدثر] وقال تعالى ﴿… يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ … *﴾ [سورة الأنفال] أي بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان. وقوله تعالى ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى … *﴾ [سورة فصلت] أي بصّرناهم وبينا لهم. وقوله تعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ … *﴾ [سورة الإسراء] أي أمر ربُّك. وقوله تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ *﴾ [سورة الذاريات] أي إلا ليوحدوني [(573)].ويقال له: هل يطيق العبد لنفسه ضرًّا أو نفعًا؟ فإن قال: لا لأنهم مجبورون في الضر والنفع ما خلا الطاعة والمعصية يقال له: هل خلق الله الشر؟ فإن قال: «نعم» خرج من قوله، وإن قال: «لا» كفر لقوله تعالى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ *﴾ [سورة الفلق] فقد أخبر أن الله خالق الشر. والحدود تجري بما أمر الله تعالى به لأنه أمر بالحدود فلا يُترك ما أمر الله تعالى به. ولأنه لو قطع زيدٌ يَدَ غلامه كان بمشيئة الله وذمَّه الناسُ ولو أعتقه حمدوه عليه وكلاهما وُجِدَ بمشيئة الله تعالى، وقد عمل بمشيئة الله لكن من عمِلَ بمشيئة الله المعصية فإنه ليس بها رِضًا ولا عَدلٌ في فعله.
ويقال له: الفرية على الله من الكلام أم لا؟ فإن قال: «نعم» يقال له: «من أنطق الكافر؟» فإن قال: «الله تعالى»، فقد خصموا أنفسهم لأن الفرية من النطق ولو لم يشإ الله لما أنطقهم بها وهو أهل لما يشاءُ من الطاعة وليس بأهل لما يشاء من المعصية» انتهى كلامه رضي الله عنه.
انظر إلى قوله: «وإن قال: لا – أي أنكر خلق الله تعالى للشر – كَفَرَ» فإنه صريح في تكفيرهم والقدري معلوم أنه يقول لم يخلق الله الشرَّ.
ثم قال [(574)] رضي الله عنه: «وإن قال: – يعني القدري – الرجلُ إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل وإن شاء شرب وإن شاء لم يشرب يقال له: هل حكم الله على بني إسرائيل أن يعبروا البحر وقدَّر على فرعون الغرق؟ فإن قال: «نعم»، يقال له: هل يقع من فرعون أن لا يسير في طلب موسى وألا يغرق هو وأصحابه؟ فإن قال: «نعم»، فقد كفر، وإن قال: «لا»، نقض قوله السابق» اهـ.[558] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (9/ 183)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 207): «وفيه يحيى بن سابق وهو ضعيف».
ـ[559] رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (37/ 97).ـ[560] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4/ 464)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 59)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 205): «رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة».
ـ[561] إشارات المرام (ص/274).
ـ[562] رواه ابن حبان في صحيحه انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (8/ 48، 258).
ـ[563] قال الحافظ صلاح الدين العلائي بعد أن ذكر طرق الحديث ما نصه: «ينتهي بمجموع طرقه إلى درجة الحسن الجيد المحتج به إن شاء الله» حكاه عنه الحافظ السيوطي في اللآلئ المصنوعة (1/ 259).
ـ[564] إشارات المرام (ص/278).
ـ[565] إشارات المرام (ص/278 – 295).
ـ[566] أي إلا لآمرهم بتوحيدي وعبادتي.
ـ[567] إشارات المرام (ص/299 – 300).
ـ[568] سمي إرهاصًا لأنه تأسيس لقاعدة نبوته، قال الزبيدي في تاج العروس (4/ 400): «الإرهاص الإثبات يقال أرهص الشىء إذا أثبته وأسسه وهو مجاز ومنه إرهاص النبوة».
ـ[569] رواه الترمذي في سننه: كتاب المناقب: باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: هذا حديث حسن.
ـ[570] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.
ـ[571] ذكر نحوه الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة (4/ 24).
ـ[572] رواه ابن حبان في صحيحه انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (8/ 150)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 14 – 15).
ـ[573] رواه ابن حبان في صحيحه انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (8/ 158)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 15).
ـ[574] العَذق: كل غصن له شُعب، والعَذْق أيضًا النخلة (لسان العرب 10/ 238).
433 سؤال وجواب في الفرض العيني
