إثبات رؤية الله في الآخرة بالأبصار – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

إثبات رؤية الله في الآخرة بالأبصار

اعلم أنّ رؤية الله تعالى في الدنيا بالبصر لم تقع لأحد من خلقه وأما في الآخرة فواقعة باتفاق أهل الحق ولا يُحيل العقل ذلك فكما صح علمهم بوجوده بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة جاز عقلًا رؤيتهم له كذلك بلا كيف ولا جهة.
قال الإمام أبو حنيفة في «الفقه الأكبر» [(832)] «والله تعالى يُرى في الآخرة ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة». وقال أيضًا [(833)] «ولقاء الله لأهل الجنة بلا جهة ولا تشبيه ولا كيفٍ حق».
وقال أبو منصور الماتريدي في كتاب التوحيد [(834)] بعد أن ذكر أن رؤية الله في الآخرة واجبةٌ سمعًا بلا كيف: «فإن قيل كيف يُرى؟ قيل بلا كيف إذ الكيفية تكون لذي صورة بل يُرى بلا وصف قيامٍ وقعودٍ واتكاءٍ وتعلقٍ واتصال وانفصال ومقابلة ومُدابرة وقصير وطويل ونور وظلمة وساكن ومتحرك ومماس»، ثم قال: «ولا معنًى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك» انتهى كلام الماتريدي رحمه الله.والمؤمنون يرون الله في الآخرة ولا يرونه في الدنيا. أما الكفار فمحرومون من رؤيته في الدنيا والآخرة لقوله تعالى  ﴿… إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *﴾ [سورة المطففين]. قال أهل الحق: علة صحة الرؤية عقلًا الوجود فالبارىء موجود فيصح عقلًا أن يُرى، وكذا يصح عقلًا أن يُرى سائر الموجودات من الأصوات والطعوم والروائح وغير ذلك، وإنما لا نرى الأصوات والطعوم والروائح ونحو ذلك بالأبصار لأن الله تعالى لم يُجْرِ عادته في خلقه بأن يروا ذلك ولو شاء لنا أن نراها لرأيناها كما نرى الأجسام.
والله تعالى يُرى بلا مسافة لأنه ليس من لازم الرؤية المسافة، وقالت المعتزلة: لا يُرى الشىء إلا مع مسافة ولا يُرى إلا في جهة والمرئي لا بد أن يكون في جهة، فقالوا «إن الله تعالى لا يرى» وذلك لاعتقادهم أن الله موجود بلا مكان وهو حق لكن اعتقادهم أنه تعالى لا يُرى باطل، فإنهم قاسوا الخالق بالمخلوق كما فعلت المشبهة الذين قالوا: الموجود لا بد أن يكون في مكان إذن الله في مكان، ولا بد أن يكون في جهة والله في جهة، ثم قالوا: المعهود المألوف في عقولنا أن يكون الشىء له حد، فالله له حد، وقد ضلَّ الفريقان.
وأما الدليل على الرؤية من حيث النقل والسمع أن موسى عليه السلام قد سأل الرؤية بقوله  ﴿… رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ … *﴾ [سورة الأعراف] فلو كانت رؤيته تعالى مستحيلة عقلًا لكان طلب موسى لذلك جهلًا بما يجوز في حق الله وما لا يجوز أو سَفَهًا وعبثًا وطلبًا للمحال، والأنبياء منزهون عن ذلك، وأن الله تعالى قد علق الرؤية باستقرار الجبل وهو أمر ممكن في نفسه عقلًا، والمعلق بالممكن ممكن لأن معناه الإخبار بثبوت المعلق عند ثبوت المعلق به، والمحال لا يثبت على شىء من التقادير الممكنة.وأوردت المعتزلة على ذلك شبهتين الأولى: قولهم سؤال موسى عليه السلام كان لأجل قومه حيث قالوا  ﴿… لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً … *﴾ [سورة البقرة] فسأل ليعلموا امتناعَها كما علمها هو، والثانية: قالوا إنا لا نسلّم أن المعلَّق عليه ممكن بل هو استقرار الجبل حال تحركه واجتماعُ الاستقرار والتحرك في ءان واحد مستحيل. وأجاب أهل الحق: بأن كلاًّ من ذلك خلاف الظاهر ولا ضرورة إلى ارتكابه على أن القوم إن كانوا مؤمنين لكفاهم أن يقول موسى إن الرؤية مستحيلة، وإن كانوا كفارًا لم يصدقوه في حكم الله تعالى بالامتناع أي عدم إمكانها، وأيًّا ما كان فيكون السؤال عبثًا. قالوا: والاستقرار حالَ التحرك أيضًا ممكن بأن يقع السكون بدل الحركة وإنما المحال اجتماع الحركة والسكون.
فيلزم المعتزلة من نفيهم جوازَ رؤية الله تعالى أن يكون موسى إما جاهلًا بما يجوز على الله وإما أن يكون يعلم ذلك وإنما من بابِ السَّفَهِ طلب من الله، وكلا الأمرين مستحيل على من نبَّأه الله تعالى وأكرمه بالنبوة، والأنبياء هم أولى بأن يعرفوا ما يجوز على الله وما لا يجوز عليه تعالى فكيف لا يُثبت المعتزلة صحةَ الرؤية عقلًا وقد سأل موسى ذلك بنص القرءان.ـ[832] عزاه الحافظ ابن حجر في الإصابة (2/ 3) للبيهقي في كتابه الدلائل ولم نعثر عليه فيه.
ـ[833] انظر الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 3).
ـ[834] مصنف ابن أبي شيبة (6/ 548).

الحوض

الأولياء وكراماتهم