الردة وأقسامها المجمع عليها حفظ اللسان عن الكفر والمحرمات – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

الردة وأقسامها المجمع عليها حفظ اللسان عن الكفر والمحرمات

قال الله تعالى ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ *﴾ [سورة ق] أي أن كل قول يلفظ به العبد يكتبه الملكان. كاتب الحسنات يكتب الكلام الطيب وكاتب السيئات يكتب الكلام السَّيّئ والمباح الذي ليس بحسنة ولا سيئة ثم يمحى المباح وتثبت الحسنات والسيئات كما قال ابن عباس [(850)] في تفسير ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *﴾ [سورة الرعد] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكثر خطايا ابن ءادم من لسانه» رواه الطبراني بإسناد صحيح [(851)] من طريق أبي وائل قال ارتقى ابن مسعود الصفا ثم أخذ بلسانه فقال «يا لسان قل خيرًا تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم»، ثم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أكثر خطايا ابن ءادم من لسانه».قال الغزالي [(852)] «إن اللسان نعمة عظيمة، جِرْمُهُ صغيرٌ وجُرْمُهُ كبيرٌ» اهـ وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من شره فقد روى البخاري ومسلم [(853)] من حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنّ العبدَ لَيتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّنُ فيها ينزلُ بها في النَّار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب». ورواه الترمذي [(854)] بلفظ «لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا» وذلك نهاية قعر جهنم. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري [(855)] «وذلك ما كان فيه استخفاف بالله أو بشريعته» اهـ.
فإذا عُرف هذا فلنوضح الأشياء التي هي موجبة للنزول إلى ذلك القعر من جهنم.
اعلموا أنّ العلماء من أهل المذاهب الأربعة قد وضعوا بابًا خاصًّا سموه «باب الردة» فقسموا الردة أي ما يُخرج من الإسلام ثلاثة أقسام: الكفر اللفظي والكفر الفعلي والكفر الاعتقادي. وذكروا أنه يترتب على كل قسم من الأقسام الثلاثة حبوط ثواب الأعمال الحسنة جميعِها وذهاب عصمة النكاح إذا حصلت من أحد الزوجين.ومما استدَل به أهلُ الحق على أن الكفرَ ثلاثةُ أقسامٍ ءايات منها قوله تعالى ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ … *﴾ [سورة التوبة] فهذه الآية يفهم منها أن من الكفر ما هو قول فقط بلا فعل ولا اعتقاد. وقوله تعالى ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا … *﴾ [سورة الحجرات] وهذه الآية يُفهم منها أن الكفرَ منه اعتقاديٌّ من دون أن يقترن به قول أو فعل لأن الارتيابَ أي الشك يكونُ بالقلبِ، وقوله تعالى [سورة فصلت] يُفهم منه أن الكفرَ منه فعليٌّ بمفرده من دون أن يقترن به قول أو اعتقاد. وهذه المسئلةُ إجماعيةٌ اتفقَ عليها علماءُ المذاهبِ الأربعةِ. وكلٌّ من الثلاثةِ كفرٌ بمفردِهِ فالكفرُ القوليُّ كفرٌ ولو لم يقترن به اعتقادٌ ولا فعلٌ ولا شرح صدر ولا اختيار دين ءاخر، والكفرُ الفِعليُّ كفرٌ ولو لم يقترن به اعتقادٌ وانشراحُ الصّدر به ولا قول، والكفرُ الاعتقادي كفرٌ ولو لم يقترن به قولٌ ولا فعلٌ. وإنما يُشترطُ للقولِ الكفري انشراحُ الصدرِ في المُكرَهِ على قولِ الكفرِ.فالمكرهُ هو الذي لا يكفُرُ لِمجردِ القول بعد أن أكره إلا أن يشرحَ صدرَه بما يقولُه فعندئذٍ يكفرُ، لأن المسلمَ المكره على قولِ الكفرِ إن قال كلمة الكفر لإنقاذِ نفسه مما هددَهُ به الكفارُ وقلبهُ غير منشرح بما يقوله لا يُحكَمُ بكفرِهِ، وأما إن تغيَّر خاطرهُ بعد الإكراهِ فشرحَ صدرَهُ بقولِ الكفر كفر، وهذا معنى قول الله تعالى ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *﴾ [سورة النحل] فألغى هذا الحكم الشّرعي الذي اتفقَ عليه علماءُ الإسلامِ وجاءت به هذه الآية أشخاصٌ من أهلِ هذا العصر أحدهم سيد سابق في كتابه فقه السُّنة [(856)] وحسن قاطرجي [(857)] وشخص يدعى حسن هضيبي في كتابٍ سماه «دعاة لا قضاة» [(858)] وشخص سوريٌّ من ءال الإدلبي. فليحذر هؤلاء فإنهم حرَّفوا شرعَ الله وخالفوا حكَّامَ المسلمين من الخلفاءِ ونوّابِهم فإنهم لم يكونوا يقولون الشخص الذي تكلمَ بكلمةِ الكفرِ والردةِ عند تقديمه إليهم للحكمِ عليه هل كنتَ شارحًا صدركَ بما قلتَ من قول الكفرِ بل كانوا يُجرونَ عليه حكمَ الرّدة بمجرّدِ اعترافه أو شهادةِ شاهدين عليه بأنه قال كلمة كذا من الكفر. وهذه كتبُ التواريخ الإسلامية تشهَدُ بذلك في الوقائع التي ذكرت فيها كواقعةِ قتل الحلاج [(859)] فإنه أُصدرَ عليه حكمُ الردة لقوله «أنا الحقُّ» أي «أنا الله» ونحوِ ذلك من كلمات الرّدة فأصدرَ القاضي أبو عمر المالكي في بغداد أيام الخليفة المُقتَدر بالله حكمًا عليه فقطعت يداهُ ورجلاهُ ثم قطعت رقبته ثم أُحرقت جثتهُ ثم ذُرَّ رمادُهُ في دِجلة. وهذا التشديدُ عليه ليرتدعَ أتباعه لأنه كان له أتباع عُرفوا بالحلاّجيّةِ.وكان الإمامُ الجنيدُ رضي الله عنه سيدُ الطائفة الصوفية تَفَرَّسَ فيه بما ءَالَ إليه أمرُه لأنه قال للحلاّج [(860)] «لقد فَتَحتَ في الإسلامِ ثُغرةً لا يَسُدُّها إلا رأسُك».
وجهلة المتصوفةِ خالفوا سيدَ الصوفية الجنيد فصاروا يهَوّنون أمرَ النطق بكلمات الردة ممن ينتسب إلى التصوّف فلا يكفّرون أحدًا منهم لقولِ «أنا الله» أو «أنا الحقُّ»، أو قال «إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمُ جميعَ ما يعلمه الله»، أو «إن الله يَحُل في الأشخاصِ»، أو «إن الله كان واحدًا ثم صار كثيرًا» فيزعمون أن العالمَ أجزاءٌ منَ الله. وبعض هؤلاء يعملون سماعًا فيُنشد قوالهم في حلقتهم أبياتًا منها هذا البيت:
                     فما في الوجود سوى واحد       ولكن تكثَّر لما صفا

وهذا البيت صريح في الكفر لأن فيه إثباتَ عقيدة الوحدة المطلقة ونسبةَ التكثر ونسبة الصفاء إلى الله والتكثرُ من صفات الحوادث وكذلك الصفاء ومقابلهما.
أما الصوفيةُ الحقيقيونَ فهم بريئونَ منهم، فهؤلاءِ في وادٍ وأولئكَ في وادٍ ءاخر. بل قال الإمام الجنيد رضي الله عنه [(861)] «لو كنت حاكمًا لضربت عنق من سمعته يقول لا موجود إلا الله».
ومن شأن هؤلاءِ أعني جهلة المتصوفة أن يقولوا إذا نُقلَ عن أحدِهم كلمة كفر «يؤوَّل» ولو كانت مما لا يقبل التأويل وهؤلاء من أبعدِ خلق الله عن علم الدين، فإن علماءَ الإسلام متفقونَ على أن التأويلَ البعيدَ لا يُقبل إنما التأويلُ يُقبَلُ إذا كان قريبًا قال ذلك الإمامُ الكبير حَبيبُ بنُ رَبيع المالكيُّ [(862)] وإمام الحرمين الشافعيُّ [(863)] والشيخ الإمام تقيُّ الدّين السُّبكي [(864)]، ونُقِلَ معنى هذا عن الإمام محمدِ بن الحسن الشيباني صاحبِ أبي حنيفة.وإننا نورد لتأييد كلامنا بعض نصوص أهل المذاهب الأربعة قال ابن حجر الهيتمي الشافعي ما نصّه [(865)]: «ثم كفر المسلم أي قطعه للإسلام إما أن يكون (بنيّةبالقلب حالًا أو مآلًا وإن قصد الكفر وغيره على السواءوكذا إن تردد بأن جرى شك ينافي الجزم بالنيّة، ولا تأثيرَ لما يجري في الفكر من غير اختيار؛ (أوتعمدِ (فعلولو بقلبه استهزاءً أو جحودًا، (أوتعمدِ (قول باعتقادلذلك الفعل أو القول أي معه (أومع (عنادمن الفاعل أو القائل (أومع (استهزاءأي استخفاف منهما (ظاهركالتعرّض لسبّ الله أو رسوله» اهـ.
وقال النووي في روضة الطالبين ما نصّه [(866)]: «الردة وهي قطع الإِسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر وتارة بالفعل، وتحصل الردّة بالقول الذي هو كفر سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء» اهـ.
وفي كتاب مواهب الجليل للحطَّاب المالكي ما نصّه [(867)]: «الردة كفر المسلم بصريح لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه» اهـ.
وفي منح الجليل للشيخ محمد عليش المالكي ما نصّه [(868)]: «وسواء كفر (أي المرتدبقول صريح في الكفر كقوله كفرت بالله أو برسول الله أو بالقرءان، أو الإله اثنان أو ثلاثة، أو العُزَيْرُ ابن الله، أو بلفظ يقتضيه أي يستلزم اللفظ للكفر استلزامًا بيّنًا كجحد مشروعية شىء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فإنه يستلزم تكذيب القرءان أو الرسول وكاعتقاد جسمية الله أو تحيّزه» اهـ.وقال الفقيه ابن عابدين الحنفي في ردّ المحتار على الدرّ المختار ما نصّه [(869)]: «قوله وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان، هذا بالنسبة إلى الظاهر الذي يحكم به الحاكم، وإلا فقد تكون بدونه كما لو عرض له اعتقاد باطل أو نوى أن يكفر بعد حين» اهـ. وقال تاج الدين السبكي في طبقاته ما نصه [(870)]: «ولا خلاف عند الأشعري وأصحابهِ بل وسائرِ المسلمين أن من تلفظ بالكفر أو فعل أفعال الكفر أنه كافر بالله العظيم مخلد في النار وإن عرف بقلبه» اهـ.
وفي شرح منتهى الإرادات للبهوتي الحنبلي ما نصّه [(871)]: «باب حكم المرتد: «وهو لغة الراجع قال تعالى ﴿… وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *﴾ [سورة المائدة]، وشرعًا مَن كفر ولو كان مميزًا بنطق أو اعتقاد أو فعل أو شك طوعًا ولو كان هازلاً بعد إسلامه» اهـ.
فيتبين لك مما ذكرنا أنَّ المذاهب الأربعة متفقة على هذا التقسيم أي تقسيم الكفر إلى أنواعه الثلاثة الكفر القولي والكفر الفعلي والكفر الاعتقادي، وعلى هذا التقسيم كان مفتي ولاية بيروت الأسبق الشيخ عبد الباسط الفاخوري فإنه يقول في كتابه «الكفاية لذوي العناية» في أحكام الردّة والعياذ بالله تعالى ما نصّه [(872)] «وهي قطع مكلف مختار الإسلام ولو امرأة بنية كفر أو فعل مكفر أو قول مكفر سواء قاله استهزاء أو اعتقادًا أو عنادًا» اهـ.وكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة يخرج من الإسلام بمفرده ولو لم ينضم إليه النوع الآخر، فيحصل بالاعتقاد المكفّر لو لم يصحبه قول أو فعل، ففي الفتاوى المهدية للشيخ محمد العباسي الحنفي [(873)] ما نصه: «سئل في رجل لم تجرِ على لسانه كلمة لكنه اعتقد بقلبه ما يُكفّر هل يكون كافرًا وإن لم يتلفظ، أو يتوقف كفره على اجتماع القول والاعتقاد بالقلب أجابلا يتوقف كفره على اجتماع القول مع الاعتقاد في القلب بل إذا اعتقد بقلبه ما يكفّر يكون كافرًا كما أنه لو جرى على لسانه كلمةُ الكفر فإنه يحكم بكفره ظاهرًا، ففي الدرّ وحواشيه من الردّة أن ركن الردّة إجراء كلمة الكفر على لسانه وهذا بالنسبة إلى الظاهر الذي يحكم به الحاكم وإلا فقد تكون بدونه كما لو عرض له اعتقاد باطل أو نوى أن يكفر بعد حينوالله تعالى أعلم». اهــ[850] انظر تاريخ بغداد (8/ 126).
ـ[851] الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية (2/ 70).
ـ[852] اليواقيت والجواهر (2/ 83).
ـ[853] انظر الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 217).
ـ[854] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7/ 414 – 415).
ـ[855] فتاوى السبكي (2/ 19).
ـ[856] فتح الجواد بشرح الإرشاد (2/ 298).
ـ[857] روضة الطالبين: كتاب الردة (10/ 64).
ـ[858] مواهب الجليل شرح مختصر خليل (6/ 279).
ـ[859] منح الجليل شرح مختصر خليل (9/ 205).
ـ[860] رد المحتار على الدر المختار، باب المرتد (3/ 283).
ـ[861] طبقات الشافعية (1/ 91).
ـ[862] شرح منتهى الإرادات، باب حكم المرتد (3/ 386).ـ[863] الكفاية لذوي العناية، الفصل الأول في أحكام الردّة.
ـ[864] الفتاوى المهدية، باب التعزير والردّة، وحدّ القذف والبغاة (2/ 27).
ـ[865] الفتاوى الخانية (بهامش الفتاوى الهندية) (3/ 577).
ـ[866] المصدر السابق (3/ 577).
ـ[867] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير: باب لا يعذب بعذاب الله.
ـ[868] تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/ 194).
ـ[869] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 270)، وانظر المصدر السابق.
ـ[870] انظر كتابه المسمى ظاهرة الغلو في التكفير (ص/95).
ـ[871] انظر الكتاب (ص/11).
ـ[872] السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (4/ 549).
ـ[873] من علق شعار الكفر على نفسه من غير ضرورة فإن كان بنية التبرك أو التعظيم أو الاستحلال كان مرتدًّا أما إن علقه لا بنية إحدى هذه المذكورات فلا يكفر لكنه أثم إثمًا كبيرًا.

الأولياء وكراماتهم

بيان الكفر اللفظي