وزن الأعمال – الحساب – الشفاعة – الدليل القويم على الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري

وزن الأعمال

يجب الإيمان بأن الأعمال توزن يوم القيامة ودليله قوله تعالى ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ … *﴾ [سورة الأنبياء]، وقوله تعالى ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ … *﴾ [سورة الأعراف]، فالميزان هو عبارة عما يعرف به مقادير الأعمال والعقل قاصر عن إدراك كيفيته [(802)]، وهل توزن الأشخاص [(803)] أو الكتب [(804)] أو الأعمال [(805)] ورد بكل ذلك نص فلا مانع من القول بكل ذلك، ومعنى ذلك أنه يمكن أن توزن أحيانًا الأشخاص أو أعمالهم وأحيانًا الكتب.
فإن قيل كيف توزن الأعمال وهي حركات ونوايا فعلها العبد؟ قلنا لا مانع عقلاً من ذلك، قالوا الحسنات تُصَوَّرُ بصور حسنة والسيئات بصور قبيحة وتوزن هذه وتوزن هذه، وتوضع هذه في كفة وتلك توضع في كفة.والميزان هو كمِيْزانِ الدُّنْيا لَهُ قَصَبةٌ وعَمُودٌ وكفَّتانِ كَفّةٌ للحسناتِ وكَفّةٌ للسَّيئاتِ تُوزَنُ بهِ الأعْمالُ يَومَ القيامةِ، والذي يتَولَّى وزْنَها جِبْريلُ وميكَائيلُ [(806)]، فَمن رجَحَتْ حَسَناتُه على سَيّئاتِه فَهُو مِنَ أهْلِ النَّجاةِ، ومَنْ تسَاوَتْ حسَناتُه وسيّئاتُه فهوَ مِن أهل النَّجاةِ أيضًا ولكِنَّهُ أقَلُّ رُتْبةً من الطَّبَقةِ الأُولَى وأَرفَعُ من الثَّالِثَةِ، ومنْ رَجَحَتْ سَيِّئاتُه على حسَناتِه من المسلمين فَهُو تَحتَ مَشيْئةِ الله إن شَاءَ عذَّبَهُ وإن شَاءَ غَفَرَ لَهُ. وأمَّا الكافِرُ فتَرْجَحُ كفَةُ سيّئاتِه لا غيرَ لأنَّهُ لا حسَنَاتِ لهُ في الآخِرةِ لأَنَّه أُطْعِمَ بحسَناتِه في الدُّنْيا بالرزق وصحة الأجسام ونحو ذلك.ـ[802] سنن الدارقطني: كتاب الحج: باب المواقيت (2/ 278).
ـ[803] صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمّته.
ـ[804] رواه ابن ماجه في سننه: كتاب الزهد: باب ذكر الشفاعة، والحاكم في المستدرك (1/ 66) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتُج بسُليم بن عامر وأما سائر رواته فمتفق عليهم ولم يخرجاه».
ـ[805] سنن أبي داود: كتاب السُّنّة: باب الشفاعة.
ـ[806] جامع الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: باب ما جاء في الشفاعة.

مسألة في التشنيع على الفلاسفة القائلين بإنكار المعاد الجسماني

الحساب

الحساب

يجب الإيمان بالحساب قال تعالى ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ *﴾ [سورة التكاثر] وهوَ عَرْضُ أعْمالِ العِبادِ علَيهم، ويكُونُ بتَكليم الله للعِبادِ جَمِيعِهم فَيفهَمُونَ منْ كلامِ الله السُؤالَ عمَّا فَعَلُوا بالنّعَمِ التي أعْطاهُمُ الله إيَّاها فيُسَرُّ المؤمِنُ التَّقيُّ ولا يُسَرُّ الكَافرُ لأنه لا حَسَنَة لهُ في الآخرةِ بلْ يكادُ يَغشَاهُ المَوتُ فقَد وَردَ في الحديثِ الصَّحيحِ «مَا مِنكم من أحَدٍ إلا وسَيُكلّمُهُ الله يَومَ القِيامَةِ لَيسَ بَينَهُ وبَينَهُ تَرْجُمَانٌ» رواهُ الشيخان وغيرهما [(807)].
ومما يدل على الحساب أيضًا قوله عليه السلام «إن الله يُدني المؤمنَ يومَ القيامةِ فيضع عليه كَنَفَهُ وسِتْرَهُ فيقولأتعرف ذنب كذا فيقولنعم أي رب حتى قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال الله تعالىسترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرُها لك اليوم» رواه البخاري [(808)].وأما الكفار والمنافقون فينادى عليهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذَبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين [(809)]. والمراد بالظالمين الكفار لأن الكفر هو أعظم الظلم وما سواه بالنسبة له كأنه ليس بظلم. ويكون الحساب يوم القيامة كما تقدم بسماع كلام الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، يسمع البشر والجن المسلمون وغير المسلمين ذلك الكلام فيفهمون عن أيّ شىء يسألهم ثم ينتهي من حسابهم في وقت قصير في ساعة وذلك معنى قول الله تعالى ﴿… وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *﴾ [سورة الأنعام] لأنه لو كان يكلمهم بكلام حرف وصوت ما كان أسرع الحاسبين لأنه يحاسب الجن والإنس، والبشر كثيرون جدًّا ويأجوج ومأجوج أكثر من سائر البشر عددًا والجن أكثر من البشر عددًا وأطول أعمارًا بكثير. ولا يكون الله تعالى في مكان عندما يسمعون كلامه لا في الأرض المبدلة ولا في غيرها من الأماكن لأنه سبحانه موجود بلا مكان كان ولا مكان وهو على ما عليه كان، وما يقوله بعض الناس عن يوم القيامة إنه يوم الوقوف بين يدي الله لا يريدون به إثبات المكان لله ولا أنّ الله يكون في الأرض والخلق حوله لأن الله تعالى منزه عن التحيز في مكان وعن الانتقال والحركة والسكون.ـ[807] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد: باب ذكر الشفاعة.
ـ[808] مسند أحمد (3/ 213).
ـ[809] صحيح ابن حبان: كتاب التاريخ: باب الحوض والشفاعة، انظر الإحسان (8/ 131).

وزن الأعمال

الشفاعة

الشفاعة

اعلم أن الشفاعة هي طلب الخير من الغير للغير، وهي ثابتة بنص القرءان والحديث قال الله تبارك وتعالى  ﴿… مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ … *﴾ [سورة البقرة]، وقال تعالى  ﴿… وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى … *﴾ [سورة الأنبياء]، وقال صلى الله عليه وسلم «مَن زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه الدارقطني [(810)].
وروى مسلم [(811)] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل نبيّ دعوة مستجابة فَتَعَجَّلَ كلُّ نبي دعوتَه وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمّتي لا يُشرك بالله شيئًا».وروى الحاكم في المستدرك [(812)] عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى معاذ بن جبل وأبا عبيدة وعوفَ بن مالك، قال فقلنا نعم، فأقبل إلينا فخرجنا لا نسأله عن شىء ولا يخبرنا حتى قعد على فراشه فقال «أتدري ما خيّرني ربّي الليلة؟» فقلنا الله ورسوله أعلم، قال «فإنه خيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة»، فقلنا يا رسول الله ادْعُ الله أن يجعلنا من أهلها، قال «هي لكل مسلم» اهـ.المحتاجون للشفاعة:
المحتاجون لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر فقط لقوله صلى الله عليه وسلم «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» معناه هم الذين يحتاجون إليها، رواه أبو داود [(813)] والترمذي [(814)] وابن ماجه [(815)] وأحمد [(816)] وابن حبّان [(817)] والحاكم [(818)] والطبراني [(819)] والخطيب [(820)].
وروى ابن ماجه [(821)] عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خُيّرت بين الشفاعة وبين أن يَدخُل نصف أمّتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعمّ وأكفى، أتُرَونها للمتقين، لا، ولكنها للمذنبين الخطَّائين المتلوّثين». قال الحافظ البوصيري [(822)] إسناده صحيح.وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح [(823)] ما نصه «وقال ابن الجوزيوهذا مِنْ حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه ءاثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمَّته لكونهم أحوج إليها من الطائعين» اهـ. أمّا الأتقياء والأولياء والشهداء فلا حاجة لهم للشفاعة كما يُعلم من النصوص الصحيحة الواضحة، بل إنه ثبت في أحاديث كثيرة صحيحة أنهم هم أهل شفاعةٍ لغيرهم فقد روى ابن ماجه [(824)] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «للشهيد عند الله ستُّ خصال يَغفِر له في أوّل دُفعة من دمه، ويُرى مقعدَهُ من الجنّةِ، ويُجارُ من عذاب القبرِ، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُحَلّى حُلّةَ الإِيمان، ويُزَوَّج من الحور العين، ويُشَفَّع في سبعين إنسانًا من أقاربه».
والشفاعة تكون على نوعين:
1ـ شفاعة للمسلمين العصاة بعد دخولهم النار لإِخراجهم منها قبل أن تنتهي المدة التي يستحقّونها.
2ـ وشفاعة لمَن استحقوا دخول النار من عصاة المسلمين بذنوبهم فينقذهم الله من النار بهذه الشفاعة قبل دخولها.أما الكفَّار فلا أحد يشفع لهم قال تعالى ﴿… وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى … *﴾ [سورة الأنبياء] أي لا يشفعون إلا لمَن ماتَ على الإِيمان. وقال تعالى إخبارًا عن أصحاب اليمين من أهل الجنة أنهم يسألون الكفار وهم في النار ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ *﴾ [سورة المدثر]، وليس في قوله تعالى  ﴿… شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ *﴾ [سورة المدثر] إثبات لحصول الشفاعة لهم وأنها تُرَدُّ بل المعنى أنه لا شفاعة لهم. وقال تعالى  ﴿… وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ … *﴾ [سورة الأعراف]، فرحمة الله وسِعَت في الدنيا كل مؤمن وكافر لكنها في الآخرة خاصة لمن اتَّقى الشرك وسائر أنواع الكفر.
وقال تعالى ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ *﴾ [سورة الأعراف] أي أن الله حرّم على الكافرين الرزق النافع والماء المُروي في الآخرة وذلك لأنهم أضاعوا أعظمَ حقوق الله على عباده وهو توحيده تعالى. فتبيّن لنا أنَّ الكافر لا يرحمه الله ولا أحد يشفع له.ثم إن النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسّلامُ هو أوَّلُ من يشفعُ وأوَّلُ من تُقبَلُ شفاعَتُهُ [(825)]، وهو يختصُّ بالشّفاعَةِ العُظمَى وقد سُمّيت بذلكَ لأنّها لا تختصُّ بأمّتِهِ فقط بل ينتفعُ بها غير أمّتِهِ من المؤمنينَ، وهي لتخليصهم من الاستمرارِ في حَرّ الشّمسِ في الموقِفِ فإنَّ النّاسَ عندما يكونونَ في ذلكَ الموقف يقولُ بعضهم لبعضٍ [(826)]: تعالَوا لنذهبَ إلى أبينا ءادم ليشفَع لنا إلى ربّنا، فيأتونَ إلى ءادم يقولونيا ءادمُ أنت أبو البشرِ خَلَقَكَ الله بيدِهِ – أي بعنايةٍ منه ـ وأسجَد لكَ ملائكتهُ فاشفَع لنا إلى ربّنا، فيقولُ لهملستُ فلانًا، اذهبوا إلى نوحٍ فيأتونَ نوحًا فيطلبونَ منه، ثمّ يقولُ لهم ايتوا إبراهيمَ، فيأتونَ إبراهيم، ثم إبراهيمُ يقولُ لهم لست هناك – و معناهُ أنا لستُ صاحبَ هذهِ الشّفاعَةِ – فيأتونَ موسى فيقولُ لهم لستُ هناك، فيقول لهم ايتوا عيسى، فيأتونَ عيسى فيقولُ لهم لست هناك ولكن اذهبوا إلى محمّدٍ فيأتونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فيسجدُ النَّبيُّ لربّهِ فيُقَالُ له ارفع رأسَكَ واشفَع تُشَفَّع وسَل تُعطَهذه تُسمَّى الشّفاعة العظمَى لأنّها عامَّةٌ. وأما الكفارُ فلا ينتفعونَ بها لأنهم يُنقَلونَ من هذا الموقفِ إلى موقفٍ أشدَّ لا يستفيدونَ تخفيفَ مشقةٍ ولا نَيلَ راحَةٍ.ـ[810] مستدرك الحاكم، كتاب التفسير (2/ 382).
ـ[811] المعجم الكبير (1/ 258).
ـ[812] تاريخ بغداد (8/ 11).
ـ[813] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد: باب ذكر الشفاعة.
ـ[814] مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (2/ 356).
ـ[815] فتح الباري (11/ 97).
ـ[816] سنن ابن ماجه: كتاب الجهاد: باب فضل الشهادة في سبيل الله.
ـ[817] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب تفضيل نبيّنا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق.ـ[818] رواه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى { … لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ … *} [سورة ص].
ـ[819] و [(1297)] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب معرفة طريق الرؤية.
ـ[820] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
ـ[821] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب في الحوض.
ـ[822] رواه الترمذي في سننه من حديث سمرة مرفوعًا: كتاب صفة القيامة والرقائق: باب ما جاء في صفة الحوض. قال الترمذي: «وقد روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح»، وانظر فتح الباري (11/ 467).
ـ[823] شرح الفقه الأكبر (ص/136 – 137).
ـ[824] حكاه عنه ملاّ علي القاري في شرح الفقه الأكبر (ص/138).
ـ[825] التوحيد (ص/85).
ـ[826] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب التواضع.

الحساب

الصّراط