قاعدة
قال العلماء: من تكلم بلفظ صريح معناه في الكفر كَفَر ولا يقبل له تأويل كما قال حبيب بن ربيع أحد أئمة المالكية [(1037)]. وقالوا أيضًا وإن لم ينو المعنى. فينطبق هذا الحكم على من يقول «أخت ربك» أو «يلعن ربّك» ولا ينوي أن لله أختًا ولا أنَّ الله تلحقه اللعنة.وقال العلماء أيضًا «من تكلم بكلامٍ كفرٍ ولا يرى ذلك كفرًا فتشهد على عادته لم يرجع إلى الإسلام». قال ابن نجيم [(1038)] نقلاً عن جامع الفصولين وغيره: «إن المرتد لا ينفعه الإتيان بالشهادتين على وجه العادة ما لم يرجع عما قال». وكذلك قال ابن حجر وغيرهما [(1039)].
ـ[1037] و [(1300)] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها.
ـ[1038] أما من هَمَّ بالكفر كفر.ـ[1039] رواه البخاري في صحيحه: كتاب العتق وفضله: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، وكتاب الطلاق: باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون … إلخ، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر.
قاعدة
من أكره على كلمة الكفر أو فِعْلِ الكفر بالتهديد بالقتل [(1040)] وقال أو فَعَلَ ما أُكره عليه لم يكفر. وكذلك إن خرجت منه كلمة الكفر بدون إرادة لم يكفر، كالذي يقول «وما أنا من المسلمين» وكان أراد أن يقول «وما أنا من المشركين». وكذلك إذا غاب عقله فتكلم بكلمة الكفر لم يكفر فإنَّ من غاب عقله ارتفع التكليف عنه.
ولا يشترط للوقوع في الكفر انشراح الصدر بالإجماع فقد قال ملا علي القاري [(1041)] في شرحه على الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة ما نصّه: «ففي حاوي الفتاوى مَن كفر باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان فهو كافر وليس بمؤمن عند الله. انتهى وهو معلوم من مفهوم قوله تعالى ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ … *﴾ [سورة النحل]» اهـ.قال الحافظُ ابن حجَر ما نَصُّه [(1042)]: «قلتُ وممّن جَنَح إلى بعض هذا البحث الطبريُّ في تهذيبه فقالَ بعدَ أن سرد أحاديثَ الباب – يعني أحاديث الخوارج ـ: فيه الرّدُّ على قولِ من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القِبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالمًا فإنّه مُبطل لقوله في الحديث [(1043)]: «يقولون الحق ويقرءون القرءان ويَمْرُقُون من الإسلام ولا يتعلّقون منه بشىءٍ» ومن المعلوم أنّهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطإ منهم فيما تأوَّلوه من ءاي القرءان على غير المراد منه، ثم أخرج بسند صحيح عن ابن عباس وذكر عنده الخوارج وما يلقون عند قراءة القرءان فقال يؤمنون بمحكمه ويهلِكون عند متشابهه» اهـ.
ثم قال ما نصُّه [(1044)]: «وفيه أنّ من المسلمين من يخرج من الدّين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام، وأن الخوارج شرّ الفرق المبتدعة من الأمّة المحمدية ومن اليهود والنصارى، قلت والأخير مبني على القول بتكفيرهم مطلقًا، وفيه منقبة عظيمة لعمر لشدّته في الدّين، وفيه أنّه لا يكتفى في التعديل بظاهر الحال ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشّف والورع حتى يختبر باطن حاله» اهـ.وكذلك لا يشترط عدم الغضب، فمن تلفظ بلفظ الكفر غاضبًا عامدًا أي بغير سبق لسان كفر، قال النووي في «روضة الطالبين» ما نصه [(1045)]: «ولو غضب على ولده أو غلامه فضربه ضربًا شديدًا فقال له رجل ألست مسلمًا، فقال لا متعمدًا كفر» اهـ. وفي الفتاوى الهندية ما نصه [(1046)] «وإذا قيل لرجل ألا تخشى الله، فقال في حالة الغضب لا، يصير كافرًا. كذا في فتاوى قاضيخان» اهـ. وهذا فيه الردّ على ما ذكره سيد سابق في كتابه الذي سمّاه «فقه السنّة» [(1047)] ونصّه: «إن المسلم لا يعتبر خارجًا عن الإسلام ولا يحكم عليه بالردّة إلا إذا انشرح صدره بالكفر واطمأن قلبه به ودخل فيه بالفعل لقول الله تعالى ﴿… وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا … *﴾ … » اهـ لأن الآية هي في المكره ليست عامة له ولغيره. فالله تعالى أفهمنا بهذه الآية حكمين في المكره أولهما أن المكره على الكفر إن كان قلبه مطمئنًّا بالإيمان ولم ينشرح صدرُهُ بالكفر أنه معذور لا يحكم عليه بالكفر. والثاني أن المكره إذا شَرحَ صدره بالكفر حُكم عليه بالكفر، فخالف سيد سابق هذا الحكم وتبعه حسن قاطرجي اللبناني فقالا: «لا يحكم على من يقول كلمات الردة بالكفر إلا أن يختار على دين الإسلام دينًا غيره ويشرح صدره به ويعتقده» فهما بذلك عطَّلا حكم هذه الآية وخرجا عن إجماع المسلمين. ـ[1040] و [(1301)] قاله السبكي الكبير بنحوه انظر فتح الباري (11/ 328).
ـ[1041] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا … *} [سورة الحجرات].
ـ[1042] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب من هم بحسنة أو بسيئة، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت وإذا همّ بسيئة لم تكتب.
ـ[1043] التحرير لابن الهمام مع التقرير والتحبير (3/ 318).
ـ[1044] التقرير والتحبير (3/ 318).
ـ[1045] شرح الفقه الأكبر (ص/117).
ـ[1046] التقرير والتحبير (3/ 318).
ـ[1047] رواه الترمذي في سننه: كتاب الإيمان: باب ما جاء في افتراق هذه الامة، وحسّنه، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 208)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 274)، والحاكم في المستدرك (1/ 128 – 129) وصححه في الجملة ووافقه الذهبي.
فائدة في بيان أن الإنسان لا يؤاخذ على الخواطر السيئة التي ترد على قلبه بدون اختياره وإرادته
فائدة في بيان أن الإنسان لا يؤاخذ على الخواطر السيئة التي ترد على قلبه بدون اختياره وإرادته
اعلم أن ما يرد على القلب بدون إرادة من المؤمن من الخواطر القبيحة مما يكرهه المؤمن لا يؤاخذ به المؤمن ولا يكتب عليه ذلك الخاطر بل له ثواب بكراهيته للخاطر الخبيث. روى مسلم [(1048)] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق السماء من خلق الأرض فيقول الله فيقول من خلق الله فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل ءامنت بالله ورسوله». ومعنى ذلك أن يثبت على اعتقاد أن الله أزلي لا بداية لوجوده كما وصف نفسه بأنه الأول أي الأزلي لا يوصف بأنه خلق نفسه ولا بأنه خلقه غيره كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم بقوله «كان الله ولم يكن شىء غيره».
وروينا في الصحيح [(1049)] ما يدل على أن المؤمن لايؤاخذ بهذه الوسوسة التي ترد على القلب بدون إرادته مع كراهيته لها حديث أبي هريرة قال: جاء أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إننا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال «وقد وجدتموه» قالوا نعم، قال «ذاك صريح الإيمان» يعني أن كراهية هذا الخاطر علامة الإيمان. أما الشك والارتياب في أصل الإيمان أو فيما عُلم من أمر الدين علمًا ظاهرًا بين المسلمين فهو كفر مخرج من الملة. قال الله تعالى [سورة الحجرات] فأعلمنا بقوله أن الإيمان لا يصح مع الارتياب أي الشك أي لا بد من الجزم. فما دام العبد جازمًا غير شاك لا يضره ما يطرأ على القلب بدون إرادته، والحمد لله على ذلك.ـ[1048] رواه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب شرح السنة. ـ[1049] رواه الترمذي في سننه: كتاب الإيمان: باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، قال الترمذي: «هذا حديث مفسَّرٌ غريب».
