فائدة في قولهم لا يُكفر أحد من أهل القبلة بذنب
بنى على ذلك بعضهم عدم تكفير المبتدعة اعتمادًا على ما صرَّحوا به من قبول شهادتهم سوى الخطابية، فقال ابن الهمام [(1056)] إن ذلك ليس لكفرهم فقال ابن أمير الحاج في شرحه المسمى «بالتقرير والتحبير» [(1057)]: «هذا والمراد بالمبتدع الذي لم يكفر ببدعته وقد يعبر عنه بالمذنب من أهل القبلة كما أشار إليه المصنّف سابقًا بقوله: وللنهي عن تكفير أهل القبلة هو الموافق على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العالم وحشر الأجساد من غير أن يصدر عنه شىء من موجبات الكفر قطعًا من اعتقاد راجع إلى وجود إله غير الله تعالى أو إلى حلوله في بعض أشخاص الناس أو إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو ذمه أو استخفافه به ونحو ذلك المخالف في أصول سواها مما لا نزاع أن الحق فيه واحد كمسألة الصفات وخلق الأعمال وعموم الإرادة وقِدَم الكلام، ولعل إلى هذا أشار المصنف ماضيًا بقوله إذ تمسكه بالقرءان أو الحديث أو العقل، إذ لا خلاف في تكفير المخالف في ضروريات الإسلام من حدوث العالم وحشر الأجساد وإثبات العِلم بالجزئيات وإن كان من أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات، وكذا المتلبس بشىء من موجبات الكفر ينبغي أن يكون كافرًا بلا خلاف وحينئذٍ ينبغي تكفير الخطابية لما قدمناه عنهم في فصل شرائط الراوي وقد ظهر من هذا أن عدم تكفير أهل القبلة بذنب ليس على عمومه إلا أن يحمل الذنب على ما ليس بكفر فيخرج المكفَّر به. ويؤيد ذلك قول أبي حنيفة في «الفقه الأكبر» [(1058)]: «ولا نكفر أحدًا بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها».قال ابن أمير الحاج [(1059)]: «قالوا: ونُقل عن الشافعي ما يدل عليه لا أردُّ شهادة أحد من أهل الأهواء إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل الكذب والظاهر أنه لم يثبت عنده ما يفيد كفرهم» اهـ يعني أنه لم يطَّلع على ما يقضي بكفر المعتزلة من أقوالهم كقولهم بأن العبد يخلق أفعال نفسه بقدرة أعطاه الله إياها وأن الله كان قادرًا على خلق مقدور العبد قبل أن يعطيه القدرة عليه فصار بعد أن أعطاه القدرة عاجزًا عن مقدور العبد ونحو ذلك مما هو صريح في نسبة النقص إلى الله تعالى. وإنما عنى من كان من المعتزلة مقتصرًا على القول بأن صاحب الكبيرة مخلَّد في النار وإنه لا يشفع له وأن القرءان مخلوق لا بقصد الصفة القائمة بذات الله وأنه لا يرى في الآخرة فيحمل قوله بقبول شهادة أهل الأهواء على هذا الصنف من المعتزلة وعلى من لم يبلغ من الرافضة إلى القول بقذف عائشة وتفضيل عليّ على بعض الأنبياء ونحو ذلك من أهل الأهواء والبدع. فأما حمل كلامه على جميعهم فلا يليق بعلم الشافعي وجلالته. وعلى هذا الوجه يُحمل ما نقل عن الأشعري من عدم تكفيرهم. وبذلك يُجمع بين ما مضى عنه من قبول شهادة أهل الأهواء وبين ما نقل عنه من تكفيرهم ومرادهم بأهل الأهواء أهل البدع الاعتقادية. قلت: فبهذا التوفيق انتفى التناقض في كلامه.ـ[1056] تهذيب اللغة (2/ 234).
ـ[1057] نقله عنه الجوهري في الصحاح (2/ 503).ـ[1058] فتاوى السبكي (1/ 10).
ـ[1059] المفردات في غريب القرءان (ص/319).
فائدة في بيان الفرق بين المخالف في الاعتقاد وبين المخالف في الفروع
فائدة في بيان الفرق بين المخالف في الاعتقاد وبين المخالف في الفروع
لمّا علمنا أن الأنبياء متفقون في الدين لا اختلاف بينهم وإنما اختلفت شرائعهم لاقتضاء الحكمة ذلك علمنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في أصول العقيدة وإنما كان اختلافهم في الأحكام. اجتهدوا في فروعها فاختلف اجتهادهم فلم يكن في ذلك تضليل من بعضهم لبعض ولا تبديع. وكذلك من جاء بعدهم وسلك نهجهم لم يختلفوا في أصول العقيدة التي كان عليها الرسول والصحابة ولكنهم اختلفوا في فروع الأحكام أسوة بالصحابة فلذلك يسمون أهل السنة والجماعة ومنهم أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم ممن انقرضت مذاهبهم كالأوزاعي فإن مذهبه انقرض بعد مائتي سنة وأما من خالف أهل السنة في العقيدة فهم مسلمون ضالون إلا من غلا منهم فأدَّى به غُلُوُّه إلى ما يقضي عليه بالكفر. وهذا مَحمَل الحديث الصحيح المشهور الذي رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما [(1060)] عن عدة من الصحابة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «ستفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة وهي الجماعة» ولفظ أبي داود [(1061)]: «إن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» قال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وفي رواية عند الترمذي [(1062)] «كلهم في النار إلا ملّة واحدة». قالوا من هي يا رسول الله قال «ما أنا عليه وأصحابي».
فقوله صلى الله عليه وسلم: «كلهم في النار» أي أنهم يستحقون عذاب النار لمخالفتهم في الاعتقاد لكن من لم يكن منهم غاليًا إلى الكفر يدخل الجنة بعد العذاب.فعُلِم من ذلك أن لا مجال للاجتهاد في أصول العقيدة وأنه لا يعذر المخطئ في الاعتقاد بخلاف المخطئ في الاجتهاد في فروع الأحكام إذا كان أهلًا للاجتهاد بأن يكون حافظًا لآيات الأحكام وأحاديث الأحكام مع معرفة أسانيدها ومعرفة أحوال الرواة من حيث الثقة والضعف قويَّ القريحة عارفًا بالمسائل التي أجمع عليها المجتهدون فإنه إن أصاب في اجتهاده فله أجران وإن أخطأ فله أجر بطلبه الحقَّ وبذل وسعه وذلك أخذًا من حديث البخاري وغيره [(1063)] من حديث ابن عمرو «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».
وأما غير الأهل للاجتهاد فلا أجر له باجتهاده لاستخراج الأحكام بدليل حديث أبي داود [(1064)] «القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار»، وقال «قاض قضى بعلم بحق فهو في الجنة، وقاض قضى بجهل فهو في النار، وقاض قضى بجَور فهو في النار». فتبين أن من زعم أن المجتهدين في العقيدة المخالفين لأهل السنة يعذرون مردود عليه زعمه. فما ذكره صاحب كتاب قصة الإيمان [(1065)] «أن ابن رشد في قوله بأزلية العالم وقدمه مخطئ معذور» مردود بإجماع العلماء على تكفير من قال بأزلية العالم. كما قطع بتكفيرهم النووي وابن حجر والسيوطي والقاضي عياض المالكي والفقيه المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في «تشنيف المسامع» وغيرهم [(1066)]. وكذلك نص على أن المخطئ في الاعتقاديات لا يُعذر الإمام الصوفي أحمد الفاروقي السرهندي. وقد قدمنا في موضع أنه لا فرق في التكفير بين من يقول بأزلية العالم بمادته وصورته كابن سينا وبين من يقول بأزليته بنوعه كبعض الفلاسفة كأصحاب الهَيُّولَى وإلى ذلك يرجع كلام ابن تيمية في بعض مؤلفاته كما قدمنا ذلك.ـ[1060] تاج العروس (2/ 410).
ـ[1061] أخرجه البيهقي في سننه (7/ 291، 292)، وأخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب النكاح: باب حق الزوج على المرأة، وقال الحافظ البوصيري في المصباح (1/ 324): «رواه ابن حبان في صحيحه. وقال السندي: كأنه يريد أنه صحيح الإسناد» اهـ. وانظر الإحسان (6/ 186 – 187).
ـ[1062] مسند أحمد (6/ 76)، قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 9): «رواه أحمد وإسناده جيد» ..
ـ[1063] كشف الأستار عن زوائد البزار (4/ 34).
ـ[1064] مجمع الزوائد (10/ 132).
ـ[1065] كذا في المطبوع وبهامشه: «في نسخة البزار».
ـ[1066] الأمالي المصرية (ص/184).
فائدة في قولهم لا يُكفر أحد من أهل القبلة بذنب
