رد الإمام الرازي على شبهات أحد النصارى ضد أهل الحديث والسنة، وبيان أن المجسمة لا يمكنهم اقامة الحجة على أهل الكتاب.
قال الإمام الرازي في مناظرته مع أحد النصارى أنه قال: ” … أما الجواب عن قولك بأن عيسى ما كان إلها، وأنه عبارة عن هذا الشخص الجسماني الذي يأكل ويشرب ويحدث فنقول : مسلم ، ونحن أيضا نقول كذلك ولا نعتقد إلا ذلك : من أن عيسى الذي تعتقده أيها المسلم بهذه الصفة ما كان إلها بل كان بشرا، فإنه من المحال أن يعتقد في الشخص البشري الجسماني الآكل الشارب المحدث أنه إله مقدس عن جميع ذلك وكيف نعتقد الجمع بين النفي والإثبات، والحق والباطل ، والنور والظلمة ، هذا لا يعتقده عاقل . انما صانع العالم هو القديم الأزلي الذي لا يكيف ولا يمثل ، ويظهر لعباده كيف شاء وفي أي صورة شاء ويجوز تسمية الصورة بأي اسم شريف ، لأن العلم حاصل بأن المسمى غير الاسم والصورة غير المعنى فهذا لا بأس به اذا اعتقدته طائفة منا ، فإنكم معترفون بأن طائفة منكم تعتقد أن الإله صورة وجسم جالس على العرش ، وعلى الله تاج من ذهب ، وفي رجله نعلان من ذهب ، بل رويتم ذلك كله أو بعضه عن نبيكم في كتاب الآجري وعبد القادر الجيلاني ، وغيرهما من أئمتكم الذين تعتقدون انهم خير الأمة وأعلمهم ، ونقلتم ايضا عن ابن عباس أنه فسر المقام المحمود بجلوس محمد مع ربه على العرش ، ونقلتم عن نبيكم أنه قال : إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا . والنزول والصعود انما يطلق على الأجسام ، فنسبتم الى نبيكم أنه اعتقد في إله العالم أنه جسم ، وأنه في كل ليلة يفتقر في تقريبه عباده ولطفه بهم إلى أن ينزل ويصعد ، ونقلتم عنه ايضا أنه خلق آدم على صورته وأنه مسح بيده على ثدي نبيكم فعلم علم الأولين والآخرين فأثبتم لله تعالى بذلك الجسم والصورة والأعضاء والجوارح و الحركة والسكون الى غير ذلك من الأحاديث الموهمة للتشبيه و التجسيم والموهمة التكييف والتمثيل”. انتهى
فرد عليه الإمام الرازي : ” وأما قولك بأنكم رويتم عن نبيكم الأحاديث الموهمة للتشبيه و التجسيم كيت وكيت ، فأعلم أولا أن الحاكم مثلا إذا ثبت عنده عدالة رجل فإنه كلما شهد عنده بشيء وجب عليه قبوله إلا أن يشهد بما يخالف المعقول ، ويقدح في الأصول ، فإنه ما يقبله بل يسقطه من الشهادة ، ومع أنه إذا قبله في تلك الشهادات التي كان يشهدها عنده فإنه ما يبني قطعا وبتا في نفس الأمر لإحتمال أن يكون كاذبا في الشهادة من حيث الباطن ، وانما له حكم الظاهر والله يتولى السرائر ، فكذلك أئمة العلم من ثبت عندهم تزكيته قبلوا روايته عن النبي عليه السلام لما لم يخالف العقول ويقدح في الأصول ، فأخبار الصفات التي رووها انما أثبتها الأئمة في كتبهم لما ثبت عندهم من عدالتهم لا أنهم حكموا وقطعوا بصحتها في نفس الأمر بل قالوا : روي عن النبي عليه السلام كيت وكيت ، لا أنهم قالوا : قطعنا بأن النبي عليه السلام قال ذلك ، وعلى التقدير أن يقول ذلك ، فإنهم ما قالوا اعتقدوا ذلك لإحتمال أن يكون النبي حكى ذلك حكاية عن غيره لا أنه اعتقده اعتقادا .
ومع ذلك فإن كل حديث يخالف المعقول ، ويقدح في الأصول زيفوه وأسقطوا رواته ، وكل حديث احتمل تأويلا حسنا ومحملا واضحا أثبتوه على حاله ، وذلك لا يؤدي إلى قدح كما زعمت لا في الرواة ولا الأئمة ، ولا في النبوة ولا في الأمة ، بل يدل على عظم معرفتهم وكمال علمهم وعقلهم حيث أدغل أئمة الضلال كل حديث مضل ، ومع ذلك لم يقبلوا منها حديثا واحدا بل مهدوا معيارا ومحكا واضحا ، ثم عرضوا عليه ، فما كان حقا حققوه ، وما كان زيغا أسقطوه ، وكل حديث احتمل تأويلا حسنا ومحملا صالحا أثبتوه وتكلموا عليه شرحا وبحثا وتحقيقا وتحريرا”. انتهى

