عقيدة الفخر الرازي وذكر وصيته وتوبته المزعومة.

عقيدة الفخر الرازي وذكر وصيته وتوبته المزعومة.

زعم بعض المشبهة ان الفخر الرازي رجع في ٱخر حياته لعقيدة السلف، وهي عندهم الإثباتُ على ظاهر اللغةِ، في حين أن الرازي رحمه الله كان على مذهب التفويض؛ وهذا نصُّ كلام الرازي في أساس التقديس، ونصه: “الفصل الرابع، في تقرير مذهب السلف ٠ حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهاتِ يجب القطعُ فيها بأن مرادَ الله تعالى منها شئ غيرُ ظواهرها؛ ثُــــمَّ يجب تفويـــضُ معناها إلى الله تعالى؛ ولا يجوز الخوضُ في تفسيرها”٠ انتهى

فالرازي كان على طريقة التأويل ثم عاد في آخر حياته إلى طريقةِ السلف، وهي التفويض، والطريقتان مرضيتان عند أهل السنة رضي الله عنهم.

وأما الوصية التي كتبها الفخر قبل وفاته، فليس فيها أيضا الرجوع عن عقيدته وتوبته منها كما يزعمون. وهذه الوصية نقلها الشيخ تاج الدين السبكي كاملة في طبقات الشافعية الكبرى، ونصها:

” أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا الْكَمَال عمر بن إلْيَاس بن يُونُس المراغي أخبرنَا التقي يُوسُف بن أبي بكر النَّسَائِيّ بِمصْر أخبرنَا الْكَمَال مَحْمُود بن عمر الرَّازِيّ قَالَ سَمِعت الإِمَام فَخر الدّين يُوصي بِهَذِهِ الْوَصِيَّة لما احْتضرَ لتلميذه إِبْرَاهِيم بن أبي بكر الْأَصْبَهَانِيّ: يَقُول العَبْد الراجي رَحْمَة ربه الواثق بكرم مَوْلَاهُ مُحَمَّد بن عمر بن الْحسن الرَّازِيّ وَهُوَ أول عَهده بِالآخِرَة وَآخر عَهده بالدنيا وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يلين فِيهِ كل قَاس وَيتَوَجَّهُ إِلَى مَوْلَاهُ كل آبق، أَحْمد الله بالمحامد الَّتِي ذكرهَا أعظم مَلَائكَته فِي أشرف أَوْقَات معارجهم ونطق بهَا أعظم أنبيائه فِي أكمل أَوْقَات شهاداتهم وأحمده بالمحامد الَّتِي يَسْتَحِقهَا عرفتها أَو لم أعرفهَا لِأَنَّهُ لَا مُنَاسبَة للتراب مَعَ رب الأرباب، وصلواته على مَلَائكَته المقربين والأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وَجَمِيع عباد الله الصَّالِحين.

اعلموا أخلائي فِي الدّين وإخواني فِي طلب الْيَقِين أَن النَّاس يَقُولُونَ إِن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ انْقَطع عمله وتعلقه عَن الْخلق وَهَذَا مُخَصص من وَجْهَيْن، الأول؛ أَنه إِن بَقِي مِنْهُ عمل صَالح صَار ذَلِك سَببا للدُّعَاء وَالدُّعَاء لَهُ عِنْد الله تَعَالَى أثر. الثَّانِي؛ مَا يتَعَلَّق بالأولاد وَأَدَاء الْجِنَايَات أما الأول فاعلموا أَنِّي كنت رجلا محبا للْعلم فَكنت أكتب من كل شَيْء شَيْئا لأقف على كميته وكيفيته سَوَاء كَانَ حَقًا أَو بَاطِلا إِلَّا أَن الَّذِي نطق بِهِ فِي الْكتب الْمُعْتَبرَة أَن الْعَالم الْمَخْصُوص تَحت تَدْبِير مدبره المنزه عَن مماثلة التحيزات مَوْصُوف بِكَمَال الْقُدْرَة وَالْعلم وَالرَّحْمَة، وَلَقَد اختبرت الطّرق الكلامية والمناهج الفلسفية فَمَا رَأَيْت فِيهَا فَائِدَة تَسَاوِي الْفَائِدَة الَّتِي وَجدتهَا فِي الْقُرْآن لِأَنَّهُ يسْعَى فِي تَسْلِيم العظمة والجلال لله وَيمْنَع عَن التعمق فِي إِيرَاد المعارضات والمناقضات وَمَا ذَاك إِلَّا للْعلم بِأَن الْعُقُول البشرية تتلاشى فِي تِلْكَ المضايق العميقة والمناهج الْخفية. فَلهَذَا أَقُول كل مَا ثَبت بالدلائل الظَّاهِرَة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عَن الشُّرَكَاء كَمَا فِي الْقدَم والأزلية وَالتَّدْبِير والفعالية فَذَلِك هُوَ الَّذِي أَقُول بِهِ وَألقى الله بِهِ وَأما مَا يَنْتَهِي الْأَمر فِيهِ إِلَى الدقة والغموض وكل مَا ورد فِي الْقُرْآن والصحاح الْمُتَعَيّن للمعنى الْوَاحِد فَهُوَ كَمَا قَالَ وَالَّذِي لم يكن كَذَلِك أَقُول يَا إِلَه الْعَالمين إِنِّي أرى الْخلق مطبقين على أَنَّك أكْرم الأكرمين وأرحم الرَّاحِمِينَ فَكل مَا مده قلمي أَو خطر ببالي فأستشهد وَأَقُول إِن علمت مني أَنِّي أردْت بِهِ تَحْقِيق بَاطِل أَو إبِْطَال حق فافعل بِي مَا أَنا أَهله وَإِن علمت مني أَنِّي مَا سعيت إِلَّا فِي تقديس اعتقدت أَنه الْحق وتصورت أَنه الصدْق فلتكن رحمتك مَعَ قصدي لَا مَعَ حاصلي فَذَاك جهد الْمقل وَأَنت أكْرم من أَن تضايق الضَّعِيف الْوَاقِع فِي زلَّة فأغثني وارحمني واستر زلتي وامح حوبتي يَا من لَا يزِيد ملكه عرفان العارفين وَلَا ينقص ملكه بخطأ الْمُجْرمين. وَأَقُول ديني مُتَابعَة الرَّسُول مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكتابي الْقُرْآن الْعَظِيم وتعويلي فِي طلب الدّين عَلَيْهِمَا اللَّهُمَّ يَا سامع الْأَصْوَات وَيَا مُجيب الدَّعْوَات وَيَا مقيل العثرات أَنا كنت حسن الظَّن بك عَظِيم الرَّجَاء فِي رحمتك وَأَنت قلت أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي وَأَنت قلت “أم من يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ” فَهَب أَنِّي مَا جِئْت بِشَيْء فَأَنت الْغَنِيّ الْكَرِيم فَلَا تخيب رجائي وَلَا ترد دعائي واجعلني آمنا من عذابك قبل الْمَوْت وَبعد الْمَوْت وَعند الْمَوْت وَسَهل عَليّ سَكَرَات الْمَوْت فَإنَّك أرْحم الرَّاحِمِينَ.

وَأما الْكتب الَّتِي صنفتها واستكثرت فِيهَا من إِيرَاد السؤالات فَلْيذكرْنِي من نظر فِيهَا بِصَالح دُعَائِهِ على سَبِيل التفضل والإنعام وَإِلَّا فليحذف القَوْل السيء فَإِنِّي مَا أردْت إِلَّا تَكْثِير الْبَحْث وشحذ الخاطر والاعتماد فِي الْكل على الله.

الثَّانِي وَهُوَ إصْلَاح أَمر الْأَطْفَال فالاعتماد فِيهِ على الله.

ثمَّ إِنَّه سرد وَصيته فِي ذَلِك إِلَى أَن قَالَ: وَأمرت تلامذتي وَمن لي عَلَيْهِ حق إِذا أَنا مت يبالغون فِي إخفاء موتِي ويدفنوني على شَرط الشَّرْع فَإِذا دفنوني قرأوا عَليّ مَا قدرُوا عَلَيْهِ من الْقُرْآن ثمَّ يَقُولُونَ يَا كريم جَاءَك الْفَقِير الْمُحْتَاج فَأحْسن إِلَيْهِ.

هَذَا آخر الْوَصِيَّة”. انتهى

فلينظر مخالفته لطريقة هؤلاء الحشوية في قوله:

– “… إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة لي أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير منزَّهٍ عن مماثلة المتحيزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة”. وهذا النص نقله أيضا الذهبي في تاريخ الإسلام

– “كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية والتدبير والفعالية، فذلك هو الذي أقول به، وألقى الله به” .

وهذا النص نقله أيضا الذهبي في تاريخ الإسلام، وهو بعكس كلام القائلين بقدم جنس العالم.

العجيب أن الدكتور ناصر العقل في شرح الطحاوية قال ما نصه: ” أن أكثرهم – أتباع الرازي – إلى اليوم لم يستفيدوا من هذا الكلام مع إجلالهم للرازي وتقديرهم له، فهم لا يزالون يقررون كتبه التي ندم عليها وتراجع عنها وحذر منها، لا يزالون يعتمدنها في مذهبهم وفي طريقتهم”. انتهى

مع أن الإمام الرازي في وصيته التي نصّ فيها على مذهب السلف وصف كتبه بالمعتبرة، حيث قال: “إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة لي …” كما في تاريخ الإسلام أيضا للذهبي، ولم يقل أنه ندم عن كتبه، بل هو أوصى بها، فقال ما نصه: “وأما الكتب التي صنفتها، واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه، على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيئ؛ فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله”. انتهى

فقد أوصى الإمام الرازي بكتبه وأكد أنه كان متكلاً على الله في تأليفها، وكان يرجو الدعاء له لمن ينظر فيها.

فأين الندم والتوبة والتحسر على هذه التواليف ؟

وأما ما تمسك به هؤلاء من القول المنسوب للرازي: “لقد تأملتُ الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتُها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن، ومن جرّب مثل تجربتي؛ عرف مثل معرفتي.”. انتهى كما نقله عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى

و هذا النقل ليس على وجهه، بل قال الإمام الرازي ما نصه: “ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيت فيها فائدةً تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلالة لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية”. انتهى

ففي هذا النص فوائد منها:

-طريقة القرآن هي أفضل الطرق في التسليم لعظمة الله، ولكلٍّ فوائده، ولكن الإمام الرازي لم ينفِ فائدة الطرق الكلامية في الرد على المخالفين وإبطال شبهاتهم؛ لأن الإمام الرازي وغيره اضطروا لاستخدام هذا المنهج لإبطال حجج المخالفين بمصطلحاتهم وأدلتهم، وهذا كما ورد في الرسالة المنسوبة للحسن البصري التي أرسلها لابن مروان حول القدر، و نصه: “إنما أحدثنا الكلام فيه – أي القدر -؛ من حيث أحدث الناس “النُّكرة” له، فلما أحدث المحدثون الكلام في دينهم ما أحدثوا، أحدث الله للمتمسكين بكتابه ما يبطلون به المحدثات ويحذرون به من المهلكات”. انتهى كما هو مذكور في كتاب المنية والأمل، لأحمد بن يحيى بن مرتضى الحسيني اليماني.

ثم هذه ليست المرة الأولى التي نبّه فيها الإمام الرازي على هذا الأمر، فقد نصّ في أساس التقديس على أن مذهب السلف هو أسلم المذاهب، فقال ما نصه: “وهذا أسلم في ذوق النظر وعن الشغب أبعد”. انتهى

وأما ما ينقله البعض من نص منسوب لابن حجر أن الرازي حسّن اعتقاده، ثم تاب و انقلب على عقيدته القديمة، فهو باطل أيضا، و الراجح أن هذه العبارة ليست من كلام ابن حجر، و إنما وجدت في حاشية إحدى النسخ، ثم ادخلت إلى متن الكتاب في نسخ تالية.

و الذي يدل على ذلك و اختلاق هذه العبارة أمران:

– روى علماء الرجال هذه الجملة على أن وصية الرازي تبين حُسن اعتقاده، ليس أنه غيّر و حسّن اعتقاده.

– نص وصية الرازي محفوظ و مروي في كثير من الكتب، و هو نص طويل ليس فيه أي تخل عن عقيدة كان يعتقدها فتركها و حسنها و تاب منها.