مناظرة الفخر الرازي مع الداعية النصراني وافحامه له
قال الرازي في تفسيره الكبير: “اتفق أني حين كنت بخوارزم، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي: ما الدليل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم، فإن رددنا التواتر، أو قبلناه لكن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق، فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعاً بنبوّة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول، فقال النصراني: أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً بل أقول إنه كان إلٰهاً، فقلت له الكلام في النبوّة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإلٰه وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإلٰه عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب أن لا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضاً وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً وقتل بعد أن كان حياً على قولكم وكان طفلاً أولاً، ثم صار مترعرعاً، ثم صار شاباً، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً.
والوجه الثاني: في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد، فإن كان إلٰهاً أو كان الإلٰه حالاً فيه أو كان جزءاً من الإلٰه حالاً فيه، فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم! وبالله أنني لأتعجب جداً! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده.
والوجه الثالث: وهو أنه: إما أن يقال بأن الإلٰه هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإلٰه بكليته فيه، أو حل بعض الإلٰه وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول: فلأن إلٰه العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إلٰه العالم، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إلٰه! ثم إن أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود، فالإلٰه الذي تقتله اليهود إلٰه في غاية العجز! وأما الثاني: وهو أن الإلٰه بكليته حل في هذا الجسم، فهو أيضاً فاسد، لأن الإلٰه لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسماً، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإلٰه، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل، وكان الإلٰه محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخف، وأما الثالث: وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإلٰه، وجزء من أجزائه، فذلك أيضاً محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلٰهية، فعند انفصاله عن الإلٰه، وجب أن لا يبقى الإلٰه إلٰهاً، وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلٰهية، لم يكن جزأ من الإلٰه، فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلاً.
الوجه الرابع: في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى، ولو كان إلٰهاً لاستحال ذلك، لأن الإلٰه لا يعبد نفسه، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور، دالة على فساد قولهم، ثم قلت للنصراني: وما الذي دلك على كونه إلٰهاً؟ فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإلٰه تعالى، فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فأقول: لما جوّزت حلول الإلٰه في بدن عيسى عليه السلام، فكيف عرفت أن الإلٰه ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟ فقال: الفرق ظاهر، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول، لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا، فقلت له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإلٰه في بدن عيسى: فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت: إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة.
الوجه الخامس: أن قلب العصا حية، أبعد في العقل من إعادة الميت حياً، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلٰهاً ولا ابناً للإلٰه، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلٰهية كان ذلك أولى، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام، والله أعلم”.انتهى
فينبغي أن يعلم أن الاحتجاج بإعجاز القرآن هو استدلال عقلي. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: أي : سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقاً منزلاً من عند الله ، عز وجل ، على رسوله – صلى الله عليه وسلم – بدلائل خارجية. انتهى
فالقرآن حض على الاستدلال بالمعقولات والبحث فيها؛ لأن الأدلة العقلية تورث اليقين، ولذلك قال تعالى في حق سيدنا إبراهيم عليه السلام (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الأنعام 75، فالتدبر والتعقل في ملكوت الله مطلوب ومورث لليقين. وقال الله جل جلاله على لسان الكافرين المكذبين للرسل (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك 10، وهذا اعتراف بأنهم لو تفكروا وأعملوا عقولهم وحدها بدون سمع لقامت عليهم الحجة وما ضلوا، فكيف وقد جاءتهم الرسل وأنذرتهم؟
وقال تعالى أيضاً (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية 13، وقال أيضاً: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يونس 101، ففتح باباً واسعاً لا يغلقه إلا مكابر
وقد وعد الله بأنه سيظهر للناس الأدلة، كما قال (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فصلت 53
أما التقوقع على أدلة دون أدلة فهو مخالف للنصوص الشرعية ومخالف لقواطع العقل، كون القرآن لم يكتفِ بأدلة دون أدلة بل يمضي في بيان الأدلة تلوَ الأدلة أمام مختلف الأقوام وتبعاً لثقافاتهم ليقيم عليهم الحجة ويهبهم اليقين، ثم أن حصر الأدلة والبراهين بكمٍّ معين يدل على العجز والانقطاع وعدم القدرة على التكيف والتفاعل مع الشبهات الجديدة في العصور المتلاحقة والرد عليها، بالتالي فكيف يمكننا أن نزعم بأن القرآن كتاب سماوي صالح لكل زمان ومكان؟

