نفي التغير في الفعل الإلهي عند الفخر الرازي ونقض التسلسل في المعلولات الزمانية

نفي التغير في الفعل الإلهي عند الفخر الرازي ونقض التسلسل في المعلولات الزمانية

معنى الفعل الإلهي في المباحث الكلامية هو الفعل الذي ينسب لله تعالى من خلق، وتصوير، وتقدير، وتدبير، ويشمل: خلق العالم، و رزق الخلق، إرسال والرسل، والإحياء والإماتة، وغير ذلك.

وقد يُطلق عليه بعض المتكلمين أيضا “تأثير الله في العالم”.

فالذين يزعمون أن فعل الله متعلق بالزمان يلزم من كلامهم أن الله يتغير، لأنه يفعل شيئًا بعد أن لم يكن فعله.

وأما القائلين بأن فعل الله ليس حادثًا، قالوا هو أزلي في تعلقه، وإن كان المفعول حادثًا.

وأما معنى الفاعلية الإلهية، فهي تعني دوام الفعل الإلهي، أي أن تعلّق قدرة الله وإرادته بالممكنات لا ينقطع، بل هو تعلّق مستمر أزلي، من غير بداية ولا نهاية، ولكن من غير أن يلزم منه حدوث في ذاته أو تغيّر. ويُعبر عنها أحيانًا بأنها تعلّق إرادته وقدرته بوجود المخلوقات.

وبعض المتكلمين، كالأشاعرة، قالوا: فعل الله هو أثر قدرته وهو حادث في المفعول لا في الفاعل، فقدرة الله لا تتعلق بواجب الوجود.

وفي هذا السياق تناول فخر الدين الرازي في المباحث المشرقية أحد أهم الإشكالات الكلامية المرتبطة بعلاقة الزمان بالفعل الإلهي، ومفهوم التسلسل في المعلولات الزمانية، وهي مسألة جوهرية في الجدل حول حدوث العالم و دوام الفعل الإلهي.

وليعلم أن المعلول هو كل ما وُجد بسبب علّة، أي ما يُطلق عليه الحادث الزماني. وقد أبطل الرازي القول بإمكان تسلسل لا أول له في المعلولات، أي الحوادث، لأن ذلك يستلزم تسلسلًا لا بداية له في الزمان، وهو ما يُعدّ باطلًا عقليًا.

ففي مبحث الكم، وتحت الفصل 12، ناقش الرازي إمكان اللانهاية الفعلية فيما يتعلق بالحوادث الماضية والمستقبلية. وخلص إلى أنه لا يمكن تصور جملة الحوادث الماضية كشيء متحقق بالفعل، لأن ذلك يقتضي تحقق عدد غير متناهٍ من الأمور الواقعة فعليًا، وهو ممتنع عقلاً. وقد ميّز الرازي هنا بين:

اللانهاية بالقوة: التي تعني تزايدًا يمكن أن يستمر نظريًا إلى ما لا نهاية.

اللانهاية بالفعل: وهي التي تفترض تحقق عدد لا نهائي دفعة واحدة، وهو أمر مستحيل من جهة العقل.

وفي مبحث العلل والمعلولات، و تحت الفصل 6، قدّم الرازي برهانًا إضافيًا على دوام الفاعلية الإلهية، ونفى القول بحدوث مؤثريّة الله تعالى في لحظة معينة، حيث أنه رفض القول بأن الله أصبح مؤثّرًا في وقت معين بعد أن لم يكن، أو أن تأثيره (قدرته على الخلق) ظهر في لحظة زمنية.

ثم ذكر أن الحوادث لا بد لها من أسباب، فقال: “(فان قيل) تجدد مؤثرية المؤثر يستدعى علة (أجبنا عنه) بأن المؤثرية حكم اضافي لا وجود لها في الخارج فلا تستدعي علة (و لنجعل هذا الموضع) مبدأ لبرهان آخر على دوام الفاعلية (فنقول) هذه الحوادث لا بد لها من أسباب و لا بد أن تكون أسبابها حادثة أو بمشاركة أمور حادثة فأما أن يكون حدوثها لحدوث عللها دفعة واحدة أو لحدوث قرب عللها منها. و القسم الأول يوجب وجود علل و معلولات غير متناهية معاً و هو محال فاذاً حدوثها لاجل قرب عللها عنها وذلك القرب لأجل ان السابق علة لصيرورة ذلك الحادث مستعد القبول الفيض عن واهب الصور فتلك الأمور المتعاقبة إما ان تكون آنية أو زمانية فإن كانت آنية لزم تتالي الآنات و قد بطل ذلك”. انتهى

معناه إذا قيل إن كل حادث لا بد له من علّة، وأن العلّة أيضًا حادثة، فإما أن توجد كل العلل والمعلولات دفعة واحدة، أو أن تترتب الحوادث على بعضها بتدرج زمني. الخيار الأول يستلزم وجود سلسلة غير متناهية من العلل والمعلولات في لحظة واحدة، وهذا محال عقليًا.

أما الخيار الثاني، وهو التوالي الزمني، فإنه يستلزم وجود علاقة سببية بين الحوادث، بحيث يكون السابق علةً لتأهل اللاحق للفيض، أي لحدوثه.

و يضيف أن هذه الحوادث المتعاقبة لا يمكن أن تكون “آنية” – أي تقع كلها في آنٍ واحد- ، وهو أيضًا محال.

فالآن هو” لحظة لا تتجزأ، ولا يمكن تصور سلسلة من “الآنات” مجتمعة في آنٍ واحد.

فإذا قلنا إن هناك سلسلة من الآنات الموجودة فعلًا دفعة واحدة، فنحن في الحقيقة نجعل الزمان كله محصورًا في لحظة واحدة، وهذا تناقض. بمعنى آخر: لا يمكن أن تكون اللحظات الزمانية كلها مجتمعة في لحظة واحدة، لأن ذلك يلغي الزمان، ويجعل التعاقب الزماني باطلًا من أصله.

استنادًا إلى هذه النتائج، يقرر الرازي أن الله تعالى لا يتغير، ولا يطرأ عليه فعل حادث، وأن الفعل الإلهي ليس زمانيًا، بل هو تعلق دائم، وحكم عقلي إضافي، لا يحتاج إلى علّة متجددة، ولا يحدث في زمان معيّن.

وعليه فالقول بحدوث الفعل الإلهي في لحظة معينة قول باطل لأنه يستلزم التغير والله منزه عن التغير والتجدد، و التغير معناه الزوال، كما ذكر ذلك جمهور السلف، و قد نفوه عن الله عز وجل.

راجع الرابط التالي: https://www.facebook.com/share/p/1XxpTmQSFU/

و في مبحث الحركة والزمان، تحت الفصل 66، أكّد الرازي استحالة أن يكون للزمان طرف بالفعل، أي بداية لا نهائية من الحوادث، لأن ذلك يعني تحقق عدد غير متناهٍ من الحوادث فعليًا، وهو محال عقلاً.

فيتلخص مما تقدم أن الرازي يرى أن القول بتسلسل الحوادث الزمانية، سواء كانت عللًا أو معلولات، باطل من جهة العقل. كما يرفض تصور الفعل الإلهي بصفته حادثًا زمانيًا، ويؤكد أن الله تعالى فاعل أزلي دائم الفاعلية، وأن الزمان والمعلولات الزمانية مخلوقة بترتيب لا يُعقل أن يكون غير متناهٍ.