نقض دعوى أن الفخر الرازي ذكر في المطالب العالية أن الله يجوز أن يسمى جوهرا
قال الفخر الرازي في المطالب العالية، في الفصل الرابع ” في إقامة الدلائل على أنه يمتنع كونه جوهرا “، ما نصه: اعلم أن الجوهر قد يراد به أحد أمور أربعة :
-الأول : إنه المتحيز الذي لا يقبل القسمة. وهو بناء على إثبات الجوهر الفرد ، ومن لم يقل به ، يسقط عنه هذا البحث ، ومن قال به قال : إن الجواهر كلها متماثلة ، فلو كان واحد منها قديماً ، واجب الوجود لذاته ، كانت كلها كذلك . وهو محال .
– والتفسير الثاني للجوهر : إنه الذي يصح طريان الأعراض عليه. فإذا دللنا على أن واجب الوجود لذاته ، يجب أن يكون واجب الوجود في جميع صفاته ، كان ذلك دليلاً على امتناع التغير عليه .
– والتفسير الثالث للجوهر : هو الذي يضاف إليه شيء آخر، فيحصل من تركيبه مع غيره شيء ثالث . وذلك أيضاً محال لأن تركيبه مع غيره موقوف على كونه متحيزاً في نفسه ، وذلك محال.
-والتفسير الرابع : قال الشيخ الرئيس أبو علي -أي ابن سينا- : ” الجوهر هو الماهية التي إذا وجدت في الأعيان”” كانت لا في موضع”. وقد بالغنا في شرح هذا التعريف في باب الجوهر والعرض ، إلا أن هذا التعريف لا يصدق إلا على الماهية التي يكون وجودها مغايراً لماهيتها . قال الشيخ الرئيس : ” وهذا في حق الله محال ، لأنا قد دللنا : على أن وجود الله تعالى عين ماهيته”.
وأعلم أن هذه المسألة قد تقدم القول فيها على الاستقصاء . وهو بحث لفظي محض ، لأن من يقول : وجوده عين ماهيته ، يقول : إن عنيت بكونه جوهراً ، هذا القدر فليس فيه إلا إلزام الشيء على نفسه وهو محال . والله اعلم
فمن خلال هذا الفصل بأكمله نفى الفخر الرازي عن الله ان يكون جوهرا من خلال استعراضه لتفاسير كل الفرق بما فيه تفسير ابن سينا.
لكن بعض الجهلة والمتنطعين زعموا أن الفخر الرازي ذكر في المطالب العالية أن الله جوهرا، وهؤلاء يريدون الطعن في هذا الإمام لا مجرد الوقوف على الحق.
ولبيان هذه المسألة ينبغي معرفة أنه بين أئمة أهل السنة خلاف في حكم من أطلق على الله اسم لا يليق به وهو غير فاهم لمعناه، كالذين أطلقوا على الله جسم لا كالأجسام. ففريق من أهل السنة حكم بكفرهم، وفريق ٱخر لم يحكم بكفرهم لوقوفهم على ان هؤلاء يطلقون كلمة جسم على الله ويريدون بها أنه موجود، أو أنه قائم بذاته.
أي أنهم أخطؤوا اللفظ وأصابوا المعنى. فكلمة جسم لا تعني في لغة العرب الموجود أو القائم بذاته.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/f5DmEk8f13AtJ5uZ/?mibextid=xfxF2i
وفي نفس هذا السياق والبحث في مثل هذه الاطلاقات،
وبعدما أقام الفخر في الفصل الرابع، الدلائل على أنه يمتنع عن الله كونه جوهرا أو أن يسمى جوهرا، عقد فصلا ٱخر بعنوان “الفصل السابع عشر في أنه هل يصح إطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى أم لا؟”
فجعل يتناول معاني كلمة جوهر واحدة بواحدة، فقال: “اعلم : أن الجوهر قد يذكر ويراد به أحد أمور أربعة : -التفسير الأول : المتحيز الذي لا يقبل القسمة ، وهذا على قول من يثبت الجوهر الفرد ، ولما دللنا على أنه تعالى يمتنع أن يكون متحيزا ، وجب القطع بأنه ليس بجوهر .
– والتفسير الثاني : أن يقال : الجوهر هوا الذات القابلة لتوارد الصفات المتضادة عليه ، وهذا إنما يعقل ثبوته إذا كانت الذات قابلة للصفات المتجددة المتعاقبة ، ولما دللنا على أن تعاقب الصفات على ذات الله تعالى محال ، امتنع أن يكون جوهرا ، بهذا الوجه” . انتهى
فهذين المعنيين منعهما الفخر الرازي عن الله عز وجل لاقتضاءهما معاني فاسدة
ثم قال الفخر الرازي: “والتفسير الثالث للجوهر : إنه الماهية التي إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضع . وهذا المفهوم إنما يصدق على الشيء الذي تكون ماهيته غير وجوده ولما كان مذهب الشيخ أبي علي : أن وجود الله تعالى نفس ماهيته وليس صفة مغايرة لماهيته ، امتنع كونه تعالى جوهرا بهذا الوجه ، وأما عندنا فلما كان الجوهر ، هو أن وجود الله تعالى صفة قائمة بذاته المخصوصة كان جوهرا بهذا الوجه”. انتهى
و هذا التفسير للفظ الجوهر كان يقول به ابن سينا كما بينه الفخر في الفصل الرابع، ولا يقول به واحد من الأشاعرة. وبين أنه على مذهب ابن سينا يمتنع ان يكون الله جوهرا، لأن ابن سينا يقول أن وجود الله هو عين ذاته، وأما على مذهب الأشاعرة القائلين بأن الوجود صفة لذاته تعالى فيصح أن يكون الله جوهرا، وفق هذا التفسير، لكن هذا لا يلزم الأشعرية في شىء لأنهم لا يقولون به من أصله.
ثم قال الفخر الرازي بعد ذلك: “والتفسير الرابع للجوهر : إنه الموجود والغني عن محل يحل فيه ، وأحق الأشياء بأن يكون جوهرا بهذا التفسير هو الله تعالى لأنه غني عن المحل الذي يحلى فيه وعن الحيز الذي يحصل فيه ، وعن الفاعل الذي يوجده ، وعن الصورة التي تتممه ، فكان أحق الأشياء بالجوهرية بهذا هو الله تعالى، ومن الناس من يعبر عن هذا المعنى بكونه قائما بالنفس ، فيطلق على واجب الوجود لذاته كونه قائما بالنفس ولا يطلق عليه لفظ الجوهر”. انتهى
وهذا القول هو قول بعض الفلاسفة الذين نقل عنهم الرازي هذا التفسير، بدليل ما قاله الرازي في تفسيره: “المسألة الثامنة: الفلاسفة قد يطلقون لفظ ” الجوهر ” على ذات الله تعالى، وكذلك النصارى، والمتكلمون يمتنعون منه، أما الفلاسفة فقالوا: المراد من الجوهر الذات المستغنى عن المحل والموضوع، والله تعالى كذلك، فوجب أن يكون جوهرا، فالجوهر فوعل واشتقاقه من الجهر، وهو الظهور، فسمي الجوهر جوهرا لكونه ظاهرا بسبب شخصيته وحجميته، فكونه جوهرا عبارة عن كونه ظاهر الوجود، وأما حجميته فليست نفس الجوهر، بل هي سبب لكونه جوهرا وهو ظهور وجوده، والحق سبحانه وتعالى أظهر من كل ظاهر بحسب كثرة الدلائل على وجوده، فكان أولى الأشياء بالجوهرية هو هو، وأما المتكلمون فقالوا: أجمع المسلمون على الامتناع من هذا اللفظ فوجب الامتناع منه”. انتهى
فالرازي ينقل هنا الاجماع على امتناع هذا الاطلاق على الله لأن تفسير الجوهر بأنه المستغني عن المحل مخالف للغة العرب. وعليه فان الفخر الرازي صحح في المطالب العالية معنى هذا الاطلاق ولم يصحح اللفظ فقال: ” وأحق الأشياء بأن يكون جوهرا بهذا التفسير هو الله” أي اذا صح التفسير، والا فقد بين الفخر ان تسمية الله بالجوهر ممتنع في عدة مواضع أخرى كقوله أيضا في تفسيره: “الباب السادس في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية واعلم أن القرآن مملوء منه ، وطريق الضبط فيه أن يقال : ذلك السلب إما أن يكون عائداً إلى الذات ، أو إلى الصفات ، أو إلى الأفعال ، أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا ، كقولنا : إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالاً ولا محلاً”. انتهى
وبما تقدم نعلم أن بعض لصوص النصوص يقتطعون كلام الرازي من سياقه، ويحاولون الطعن فيه بكل الطرق والأساليب الخسيسة لاظهاره مظهر المبتدع المخالف للشريعة، في حين أن كلامه صريح في نفي اطلاق الجوهر عن الله عز وجل.




