بيان ما نقله ابن حجر عن الفخر الرازي أنه قال ان القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم بمشيئته هو أصح الأقوال

بيان ما نقله ابن حجر عن الفخر الرازي أنه قال ان القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم بمشيئته هو أصح الأقوال

ينقل بعض المجسمة عن الحافظ ابن حجر أنه قال في الفتح: ” وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال : إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا ، وأطال في تقرير ذلك “. انتهى

والرد على هذه الشبهة أن يقال: هذا الكلام نقله ابن حجر عن شخص مجهول لم يذكر اسمه. فبعد أن نقل كلام ابن حزم في الملل و النحل قال الحافظ: ” وقال غيره” ثم ساق كلامه و فيه: وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية… “.

وفي ما يلي نص عبارة الحافظ ابن حجر في فتح الباري 13/455 حيث قال بعد أن ساق كلام ابن حزم: ” وقال غيره : “اختلفوا فقالت الجهمية والمعتزلة وبعض الزيدية والإمامية وبعض الخوارج : كلام الله مخلوق خلقه بمشيئته وقدرته في بعض الأجسام كالشجرة حين كلم موسى ، وحقيقته قولهم : إن الله لا يتكلم وإن نسب إليه ذلك فبطريق المجاز ، وقالت المعتزلة يتكلم حقيقة لكن يخلق ذلك الكلام في غيره وقالت الكلابية : الكلام صفة واحدة قديمة العين لازمة لذات الله كالحياة ، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وتكليمه لمن كلمه إنما هو خلق إدراك له يسمع به الكلام ونداؤه لموسى لم يزل لكنه أسمعه ذلك النداء حين ناجاه ويحكى عن أبي منصور الماتريدي من الحنفية نحوه لكن قال : خلق صوتا حين ناداه فأسمعه كلامه ، وزعم بعضهم أن هذا هو مراد السلف الذين قالوا : إن القرآن ليس بمخلوق ، وأخذ بقول ابن كلاب القابسي والأشعري وأتباعهما وقالوا : إذا كان الكلام قديما لعينه لازما لذات الرب وثبت أنه ليس بمخلوق فالحروف ليست قديمة ؛ لأنها متعاقبة ، وما كان مسبوقا بغيره لم يكن قديما ، والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ بل هو معنى واحد إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن أو بالعبرانية فهو توراة مثلا وذهب بعض الحنابلة وغيرهم إلى أن القرآن العربي كلام الله وكذا التوراة ، وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء وأنه تكلم بحروف القرآن وأسمع من شاء من الملائكة والأنبياء صوته ، وقالوا : إن هذه الحروف والأصوات قديمة العين لازمة الذات ليست متعاقبة بل لم تزل قائمة بذاته مقترنة لا تسبق والتعاقب إنما يكون في حق المخلوق بخلاف الخالق ، وذهب أكثر هؤلاء إلى أن الأصوات والحروف هي المسموعة من القارئين ، وأبى ذلك كثير منهم فقالوا ليست هي المسموعة من القارئين ، وذهب بعضهم إلى أنه متكلم بالقرآن العربي بمشيئته وقدرته بالحروف والأصوات القائمة بذاته وهو غير مخلوق لكنه في الأزل لم يتكلم لامتناع وجود الحادث في الأزل ، فكلامه حادث في ذاته لا محدث ، وذهب الكرامية إلى أنه حادث في ذاته ومحدث ، وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال : إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا ، وأطال في تقرير ذلك “. انتهى
فحتى قوله: ” وأطال في تقرير ذلك” هذا ليس من كلام ابن حجر، فهذا الغير هو الذي نقل الحافظ عنه الكلام المنسوب للإمام الرازي وهو الذي حرف كلام الفخر الرازي لأنه لا وجود له في كتاب المطالب العالية , لا في مباحث الكلام و لا في غيره من المباحث. بل الموجود عكسه فقد خصص الفخر الرازي في الجزء 2 صحيفة 106 فصلا مخصوص بعنوان “الفصل الخامس عشر : في بيان أن يمتنع كونه تعالى محلاً لغيره”. ومن قال خلاف ذلك فليأت به من كتاب المطالب.
وقد رد الحافظ ابن حجر هذا القول وقال:” والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه ، والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق ثم السكوت عما وراء ذلك ” انتهى

فهذا كلام الحافظ رحمه الله وليس فيه إقرار بالكلام المنسوب للرازي الذي نقله ذلك الشخص المجهول متصرفا فيه. ونقل ذلك الشخص المجهول عن الفخر الرازي غير دقيق لأنه أراد أن يثبت هذه الأشياء عليه ويظهره أنه يتبنى القول من قبله و الصحيح أن الفخر ينقل الأقوال من غير تقرير. ولا يبعد أن يكون ذلك الشخض الذي لم يذكر الحافظ اسمه هو ابن تيمية لأنه يشبه أسلوبه في سبك العبارات و ولأنه سبق أن نسب إلى الفخر الرازي مقالات لا تثبت عنه.
كما ينبغي الإشارةهنا إلى طريقة الفخر الرازي في “المطالب العالية” التي تخالف طريقته في سائر كتبه فإنه حاول عرض و سبر الأقوال والمذاهب بحياد وتجرد ودون ترجيح لأي منها في كثير من الأحيان. فسعى في هذا الكتاب إلى البحث والجمع والكشف أكثر مما هدف إلى إثبات عقيدة أهل السنة أو نصرتها.

كما ينبغي التنبيه أيضا أن الإمام قد ينقل وجها او حجة للفلاسفة أو المعتزلة بلسان أحدهم وحكايته له مع إيراد ما ذكروه في دفع حجج خصومهم من اهل السنة وإبطالها فيستغرق ذلك عشرة صفحات ويختلط الكلام في أثناءها فيظنه البعض كلامه وهو ليس كلامه ، فيجب التنبه جيدا عند قراءته حتى يعرف المعنى ويعرف إلى من ينسب الكلام. ومن أجل هذا انتقده بعض أهل العلم بأنه يورد الإشكالات ناجزة ويحلها نسيئة حتى ليخيل للقارئ أنه يقول بهذه النقول ، وليس كذلك ، لأنه قد نبه أكثر من مرة في المطالب إلى الرجوع إلى بعض كتبه كالمحصل وأصول الدين لمعرفة تفصيل المسألة لدى أهل السنة. فمذهبه في العقيدة كمتكلم أشعري سني قد سطره رحمه الله في عدة كتب أخرى كالأربعين والمعالم والمحصل و في ثنايا تفسيره للقرآن الكريم.