فصل في بيان قول بعض العلماء: من قال الله جسم لا كالأجسام لا يكفر
بسم الله الرحمن الرحيم
ليعلم أن قول المجسِّم: ” الله جِسمٌ” كلام صريح في اثبات الجسمية لله عز و جل فكيفَ لا يكون صريحا ان قال عن الله: ” جِسمٌ لا كالأجسامِ”.؟
فقولهُ جِسْمٌ يَثبتُ أَنَّهُ قائِلٌ بالجسمِ وقولهُ: ” لا كالأجسامِ” يدلُّ على أنَّه يعرفُ معنى الجسم ويعرف لوازمِ الجسمِ وإِلا لما قال:” لا كالأجسامِ ” فهذا دليل ٌثابتٌ وواضحٌا أنَّه يعرف معنى الجسم وأَنَّهُ يعتقد الجسم.
فالمجسِّم لما يقول:” الله جِسمٌ” فإنه يثبَت الجسميةَ ولما يقول لا كالأجسامً هو لم ينفِ الجسميةَ لأنّه لو كان ينفي الجسمية لقال الله ليس جسمًا ولم يقل الله جِسمٌ وإلا هل يُقال إنّ قول القائل الله يسمع لا كسمعنا نفي للسَمع أيضًا؟ المجسِّم لو قال الله جِسمٌ لا كالأجسام ليس نفيًا للجسمِ بل تصريح بالتجسيم..
أما معنى قول بعض العلماء “من قال الله جسم لا كالأجسام لا يكفر” هذا في من كان يجهل معنى كلمة جسم و أطلقه على الله بمعنى “القائم بذاته” أو “موجود” أما الذي يعلم معنى كلمة جسم و أطلقها على الله فإنه يكفر لو قال الله جسم لا كالأجسام. فليس ترك اكفار من قال عن الله “جسم لا كالأجسام” على إطلاقه كما يتوهم البعض.
فبعض عوام المجسمة لا يفهمون المعنى الأصلي لكلمة جسم فيطلقوها على معاني أخرى, وبعضهم يظن أن لهذه الكلمة عدة معاني, بعضها يليق بالله و بعضها لا يليق بالله. و بعضهم أيضا يعلم معناها الذي يفيد التركيب و الحدوث.
فإذا قال العامي الجاهل باللغة الله جسم لا كالأجسام وهو يفهم من كلمة الجسم: الذات فكأنه يقول الله ذات لا كالذوات. فهذا إذا كان لا يعتقد التجسيم لا يكفر وإن لم يسلم من المعصية. هذا يُنهى و يقال له لا يجوز لك أن تتلفظ بمثل هذه العبارة.
أما الذي يتلفظ بهذه العبارة ويفهم معنى كلمة جسم التي هي بحسب وضع اللغة تطلق على ذي طول وعرض وعمق وتركيب, هذا لا يُشك في كفره بل هو كافر بالإجماع
لذلك قال العلماء أن من أطلق لفظ “الجسم” على الله و كان جاهلا بمعنى هذا اللفظ لا يفهم منه الجسميّة و لوازمها كالتركيب و الحدّ و اللون و الصّورة و التّحيّز وغيرها فهذا الذي فيه خلاف بينهم: فمنهم من كفّره لإطلاقه اسم على الله غير جائز لأنّ اسماء الله توقيفيّة و منهم من لم يُكفّره لأنّه لا يفهم من ذلك اللفظ سوى أنّه موجود أو شيء أو قائم بذاته. أمّا الذي أطلق الجسميّة على الله أو شيئا من لوازمها فهذا لا خلاف فيه أنه كافر. لذلك تجد في بعض نقول العلماء قولهم: من قال “جسم لا كالأجسام لا يكفر و إن قال جسم متحيّز يكفر ” فمرادهم في الأوّل أنّه فقط أطلق الإسم أمّا في القول الثّاني أنّ المراد حقيقة الجسم لأنّه رفع الإطلاق بلازم من لوازم الجسميّة فيكفر. فالفرق واضح، فالمجسّم كافر إجماعا لا شكّ و لا تردّد في كفره.
و فيما يلي ما يوضح ما ذكرناه:
قال المناوي ناقلا عن الأصحاب ما نصه: و المشبه إذا قال له تعالى يد و رجل كما للعباد فهو كافر ملعون. وإن قال جسم لا كالأجسام فهو مبتدع, لأنه ليس فيه إلا إطلاق لفظ الجسم عليه, وهو موهم للنقص فرفعه بقوله: “لا كالأجسام” فلم يبقى إلا مجرد الإطلاق, و ذلك معصية تنتهض سببا للعقاب لما قلنا من الإيهام, بخلاف ما لو قاله على التشبيه فإنه كافر, و قيل يكفر بمجرد الإطلاق أيضا وهو حسن بل هو الأولى بالتكفير..انتهى.
إلى أن ختم بقوله: بخلاف مطلق اسم الجسم مع نفي التشبيه, فإنه يكفر لاختياره إطلاق ما هو موهم للنقص بعد علمه بذلك, و لو نفى التشبيه فلم يبق منه إلا التساهل و الاستخفاف بذلك. انتهى.
ومثله قال كمال الدين السيواسي في شرح فتح القدير 1/350
فقوله ” بخلاف ما لو قاله على التشبيه فإنه كافر” يدلنا على أنه يرجع ذلك إلى فهم القائل لا قصده. معناه لو قال شخص الله جسم لا كالأجسام و كان لا يفهم من كلمة “جسم” إلا “موجود” مثلا لا يكفر أما إذا كان فاهما للمعنى فلا ينفعه قصده. و يأكد ذلك قوله:” بخلاف مُطلق اسم الجسم مع نفي التشبيه فإنه يكفر” و قوله ” بعد علمه بذلك, و لو نفى التشبيه”. فهو كالنص في بيان ما ذكر. فالذي يطلق كلمة جسم عن الله و يقول لا يشبه الأجسام أو يقول لا يشبه شيئا فإنه يكفر لأنه أطلق كلمة توهم النقص بعد علمه بمعناها أي هو فاهم لمعناها . فلو قالها و نفى التشبيه لا ينفعه ذلك.
و قال أبو سعيد الخادمى الحنفي في بريقة محمودية 1/225 ما نصه: وفيها – أي التترخانية – “ومن قال بأن الله تعالى جسم لا كالأجسام” التي تتركب من الأجزاء وكان لها طول وعرض وعمق ” فهو مبتدع ” لعدم ورود الشرع ولإيهامه الجسم المنفي ” وليس بكافر ” لأنه حينئذ يكون بمعنى الذات أو النفس أو الشيء وإطلاقها عليه تعالى جائز وهذا إنما لا يكون كفرا إذا لم يثبت شيء من خواص الجسم كالحيز , والجهة إلى أن لايبقى إلا اسم الجسم وإلا فكفر أيضا” انتهـى
ففي قوله ” ولإيهامه الجسم المنفي “و قوله ” لأنه حينئذ يكون بمعنى الذات أو النفس أو الشيء وإطلاقها عليه تعالى جائز” تنبيه على حال المتلفظ بالكلمة و أنه يظن أن لفظة جسم معناه الذات أو النفس, أو الشئ و يدل على ذلك أيضا قوله: “وهذا إنما لا يكون كفرا إذا لم يثبت شيء من خواص الجسم كالحيز , والجهة و إلا فكفر أيضا ” .
فمعنى قول العلماء أنه لا يكفر من قال الله جسم لا كالأجسام أن القائل يطلق على الله لفظ الجسم دون حقيقته ولوازمه أي أنه لا يفهم معنى كلمة جسم في لغة العرب فهي عنده بمعنى الموجود والقائم بنفسه ولا يفهم منها من له أبعاد و حجم فيكون الخلاف معه حينئذ في إطلاق اللفظ.
ولقد نبه العلماء أنه إن كان هذا هو حاله حقيقة لا ادعاء كاذبا فإنه لا يكفر, معتبرين حاله بأنه في هذا كالأعاجم, أي هذا إن كان صادقا في دعواه هذه, لا أنه يفهم ما يراد من كلمة الجسم في لسان العرب و مع ذلك يبتكر لها معنى آخر مثل” موجود” و نحوه, فهذا لا ينفعه. فلينتبه لهذا القيد فإنه دقيق.
أما إذا قال إن الله جسم بمعنى أنه يمكن فرض الأبعاد فيه وأن له مقدار وحدا ونهاية وجرم وكثافة فهذا داخل في قوله ( جسم كالأجسام ) وإن قال صاحبه لا كالأجسام فهو كذر الرماد على العيون فهو في الحقيقة جعله كالأجسام
