في بيان أن الفخر الرازي يورد الشبهات على لسان الفلاسفة في مسألة قدم العالم

في بيان أن الفخر الرازي يورد الشبهات على لسان الفلاسفة في مسألة قدم العالم

أورد الفخر الرازي في الجزء الرابع من كتاب المطالب العالية تحت القسم الأول في مباحث القائلين بالقدم، فصلا بعنوان ” المقدمة الرابعة في أن الكتب الالهية تثبت حدوث العالم”.

غير أن القارئ المتأمل في محتوى هذا الفصل يفاجأ بتباين ظاهر بين العنوان ومضمون البحث، إذ يفتتح الرازي الفصل بالقول:

“إن الكتب الإلهية ليس فيها تصريح بإثبات أن العالم محدث، بمادته وصورته معاً”. انتهى.

وهذا التصريح، للوهلة الأولى، قد يوهم القارئ غير المتثبت بأن الرازي يقرر رأياً فلسفياً يتعارض مع عقيدة حدوث العالم، بيد أن السياق العام للكتاب، ومكانة هذا الفصل ضمن مباحث القائلين بالقدم، تدل بوضوح على أن الرازي لا يتبنّى هذا القول، وإنما يعرضه على لسان الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام، ممن ذهبوا إلى القول بقدم العالم.

وتتأكد هذه القراءة من خلال ما أورده الرازي في نفس الفصل، حيث قال: “اللفظ الخامس: قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾، قالوا: والأول هو الفرد السابق، وهذا يدل على أنه لم يوجد في الأزل مع الله غيره…”. انتهى.

إن استعماله لعبارة “قالوا” في هذا السياق الحجاجي يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الرازي ينقل حجج هؤلاء الفلاسفة، لا أنه يتبناها. فطريقته المعهودة – والتي تتكرر في سائر مؤلفاته – تقوم على استعراض الشبهة بأقوى صورها، ثم يتبعها بالنقض والتفنيد في نفس الكتاب أو في كتبه الأخرى.

وبالتالي فما يحتج به جهلة المشبهة أن الرازي قال: “فيثبت بهذه البيانات : أنه ليس في القرآن ولا في التوراة : لفظ يدل بصريحه على أن هذه الذوات حادثة بعد عدمها ، كائنة بعد أن كانت نفيا محضا ، وسلبا صرفا. ولا شك أن هذين الكتابين أعظم الكتب الإلهية ، فلما [خلا ] هذان الكتابان عن التصريح بهذا المطلوب ، أوهم ذلك أن هذه المسألة بلغت في الصعوبة إلى حيث صارت في محل الصعوبة”. انتهى”. انتهى.

هو في حقيقته تحريف لسياق النص، واقتطاع له من موضعه الجدلي. فالكلام منسوب إلى خصوم الرازي، وقد ساقه لبيان درجة تعقيد المسألة عند الفلاسفة، لا ليثبت صحته أو ليتبناه.

وعليه، فإن نسبة القول بقدم العالم إلى الرازي بناءً على هذا الفصل، لا يعدو أن يكون تمويهًا من خصومه، وهو أسلوب قديم في الخلط بين عرض الرأي والقول به، في سياقات الجدل العقلي الذي امتاز به الرازي.