نقض بعض شبهات ابن تيمية حول الفخر الرازي في مسألة دوام الفاعلية
قال فخر الدين الرازي في المباحث المشرقية ما نصه:
“الفصل الرابع في دوام فاعلية الباري تعالى
إنا قد بيّنا في باب العلة أن واجب الوجود لذاته، كما أنه واجب الوجود لذاته، فهو واجب الوجود من جميع جهاته، وإذا كان كذلك وجب أن تدوم أفعاله بدوامه. وبيّنا أيضاً أن سبق العدم ليس شرطًا في احتياج الفعل إلى الفاعل.
وبيّنا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني، وحللنا فيه الشكوك والشبه. وأيضاً فلو فعل بعدما لم يفعل لكان قاصدًا إلى الفعل التالي، وذلك محال كما سبق في باب المريدية، فالمذهب باطل، وقالوا: لو كان فاعلاً بعدما لم يكن لكان عالمًا بالجزئيات، وبطلان التالي يدل على بطلان المقدَّم.
وأيضًا العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود، وما لم يمتنع أن يكون دائم الوجود يكون دائم الوجود، فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود”. انتهى.
هذا النص من الرازي يتناول مسألة دوام فاعلية الله تعالى من زاوية عقلية محضة، ويندرج ضمن سياق مناظراته الكلامية في إثبات ما يليق بالله و ما لا يليق به وفق أصول المتكلمين.
فبدأ الرازي بتقرير أن الله تعالى “واجب الوجود لذاته”، أي أن وجوده لا يستند إلى علة خارجية، بل هو استحقه لذاته. وهذا يقتضي عقلا أن تكون أفعاله دائمة بدوام ذاته، باعتبار أن الأزلية من لوازم الوجوب الذاتي.
ثم نفى الرازي أن يكون سبق العدم شرطًا لوحده في احتياج الفعل إلى الفاعل، وسبب ذلك أن بعض الملاحدة قالوا: “الشيء لا يحتاج إلى الفاعل إلا إذا وُجد بعد أن لم يكن”. فلو كان موجودًا منذ الأزل، فلا معنى لاحتياجه إلى فاعل.
فأجاب الرازي عن ذلك بقوله أن ذلك غير صحيح، لأن الافتقار إلى الفاعل لا يُشترط فيه أن يُسبق المفعول بالعدم فقط، بل حتى – على تقدير وجوده في الأزل، فإنه يفتقر إلى الفاعل في كل لحظة من لحظات وجوده. فالافتقار ليس إلى “إحداث بعد عدم”، فقط بل إلى “إيجاد دائم من غيره”.
وبهذا فرق الرازي بين “القدم الذاتي” و”القدم بالإمكان” بالدلائل العقلية.
وأما من ناحية الشرع فكل حادث له بداية أي سبقه عدم جزما.
كما بيّن الرازي في موضع آخر أن الزمان لا يمكن أن يكون له بداية من جهة العقل الخالص، إذ أن تصور “أول الزمان” يقتضي مفارقة الزمان لذاته، وهو غير معقول. لكنه في موضع آخر، كما في المطالب العالية، فصل بين الحكم العقلي والحكم الشرعي، حيث قال عن الزمان: “فلم يكن واجب الوجود من جميع جهاته، فلم يكن واجب الوجود بحسب ذاته بل كان ممكن الوجود لذاته”. انتهى.
وهو يشير هنا إلى الزمان، مستدلًا على أنه مخلوق لأنه متغير، وكل متغير ممكن الوجود وليس واجبًا لذاته.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/18xYrfiugZ/
بل إن الرازي قرر في غير موضع من كتبه حدوث العالم بالأدلة العقلية القطعية، فقد استدل على ذلك في «لباب الإشارات» بقوله: أجسام العالَم متناهية، وكل متناه فإنه مختص بمقدار يجوز في العقل وجودُ ما هو أزيد منه وأنقص منه، وكل ما كان كذلك فإنه لا يختص بقدره المعيّن إلا بواسطة قَصْدِ فاعل مختار، وكل ما كان فعلا لفاعل مختارٍ فهو محدَثٌ؛ لأن القصد إلى الإيجاد لا يصح إلا حال الحدوث. انتهى
وأما قوله في المباحث المشرقية: “العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود…”
فهو من جنس التقرير العقلي المجرد، وليس من باب الحكم الشرعي القطعي. ويُفهم هذا في ضوء مسلك الرازي في كتبه الكلامية، حيث يقرر المسائل على وجه الاحتمال العقلي والمناظرة دون أن يلتزم بها في مقام العقيدة الشرعية، على خلاف ما فعله في التفسير الكبير وأساس التقديس حيث جزم فيها بحدوث العالم موافقة للنصوص الشرعية.
ويجب أن يُفهم كلام الرازي هنا على أنه تقرير لإمكان عقلي لا اعتقاد بوجوب ديمومة العالم لذاته، فالعالم عنده ممكن الوجود، ودوامه تابع لمشيئة الله تعالى. وهذا يختلف جوهريًا عن مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم بذاته، كما يختلف عن مذهب ابن تيمية الذي يرى أن نوع العالم قديم أزلي.
ومن ثم، فإن من زعم أن الرازي يوافق ابن تيمية في مسألة “قدم نوع العالم” لم يُحسن فهم كلام الرازي ولا دقّق في منهج ابن تيمية.
فابن تيمية يرى أن الفاعل لم يزل فاعلًا، ولا يزال، وأن المفعولات تتجدد بتجدد الإرادة الأزلية، بينما الرازي يرى أن دوام الفعل متصور عقلاً، ولكنه لا يقطع به شرعًا.
وباختصار، فإن الرازي يفرّق بين ما يجوزه العقل، وما تثبته الشريعة. فهو يُجيز قدم الزمان من حيث العقل المجرد – في مواضع من كتبه- ، لكنه لا يجزم بذلك اعتقادًا، بل يلتزم بحدوث العالم امتثالًا للنصوص. وأما ديمومية العالم وبقاءه عنده فهو ممكن من ناحية العقل إذا تعلقت مشيئة الله بذلك فقط.
ملاحظة 1 : دوام الفاعلية ينبغي فهمها على أن فعل الله تعالى أزلي أبدي و أن فعله عز وجل لا يناقض كماله، فلا يتضمن ذلك نسبة التغير في ذاته، لأن ذلك محال على واجب الوجود.


شرح كلام الرازي الذي ذكره في المطالب العالية حول ماهية الزمان.
قال الرازي في المطالب العالية، تحت باب ” في تتبع سائر المذاهب والأقوال في ماهية الزمان ” ما نصه: ” وأما قول قدماء الحكماء، وهو أنه جوهر قائم بنفسه، مستقل بذاته، فالمتأخرون أبطلوا ذلك بأن قالوا: الزمان شيء سيال متجدد الوجود. وما يكون كذلك، فإنه يمتنع أن يكون جوهرا قائما بذاته، مستقلا بنفسه. هذا غاية الإلزام في إبطال هذا المذهب. ولمجيب أن يجيب عنه فيقول: لا نسلم أنه في ذاته وماهيته سيال متبدل منقض. ولم لا يجوز \[أن يقال : ] إنه جوهر باقي أزلي أبدي إلا أنه إذا حدثت الحوادث، صارت تلك الحوادث المتعاقبة مقارنة له، وحينئذ يلزم من وقوع التغير والتبدل، وقوع التغير والتبدل في نسب ذلك الجوهر إلى تلك الحوادث. والحاصل: أن السيلان والتبدل ما وقعا في ذات الزمان، وفي جوهره. بل وقعا في نسبته إلى الحوادث المتعاقبة. ومما يدل عليه: أن ذات واجب الوجود لذاته، تكون بالنسبة إلى كل شيء، إما قبله أو معه أو بعده. ثم إنه بحسب تغير المتغيرات، تتغير تلك النسب المسمّاة بالقبلية والمعية والبعدية في ذات واجب الوجود، ولم يلزم من تبدل تلك النسب والإضافات، وقوع التبدل والتغير في ذاته وفي صفاته الحقيقية فإنه واجب الوجود لذاته، وواجب الوجود من جميع جهاته. فإذا عقل هذا المعنى في حق واجب الوجود، فلم لا يعقل مثله في ذات الزمان وجوهره؟ فظهر أن هذه الحجة التي ذكرها المتأخرون في إبطال مذهب القدماء في ماهية الزمان: حجة ضعيفة ساقطة. بل عندي: أن هذا القول أقرب الأقوال المذكورة في ماهية الزمان وفي حقيقته. وهو مذهب الإمام أفلاطون. وظهر بهذه المباحث الغامضة التي أوردناها، والبينات الكاملة التامة التي قررناها: أن الحق في حقيقة المكان والزمان ما قاله أفلاطون الإلهي، لا ما اختاره أرسطاطاليس المنطقي. ولما تلخص هذا الكلام فنقول: القائلون بأن الزمان جوهر قائم بنفسه مستقل بذاته فريقان: منهم من قال: إنه وإن كان كذلك لكنه ممكن بذاته واجب بغيره، للدلائل الدالة على أن واجب الوجود لذاته ليس إلا الواحد. ومنهم من قال: بل الزمان جوهر واجب الوجود لذاته ممتنع العدم لعينه “. انتهى
ثم عرض حجج كل فريق وقال بعدها: ” والأقرب من هذه الأقوال: أن يقال: دلت الدلائل على أن واجب الوجود لذاته واحد وثبت أن واجب الوجود لذاته، واجب الوجود من جميع جهاته، وذلك ينافي كونه سبحانه موردا للتغيرات والتبدلات لكن المدة والزمان مورد للتغيرات والتبدلات بحسب توارد القبليات والبعديات عليه، فلم يكن واجب الوجود لذاته [من جميع جهاته، فلم يكن واجب الوجود بحسب ذاته بل كان ممكن الوجود لذاته. وأما الإله فهو الموجود المقدس عن التغيرات، العالي عن أن يلحقه شيء ما بالقوة. فهذا هو الذي به نقول، وعليه نعوّل. والله الهادي”. انتهى
الشرح:
قول الرازي: “وأما قول قدماء الحكماء، وهو أنه جوهر قائم بنفسه، مستقل بذاته…”
قدم من خلاله موقف قدماء الحكماء ، أي قدماء الفلاسفة، من ماهية الزمان فقالوا أنه ذو وجود مستقل حقيقي، وليس مجرد علاقة بين الحوادث. وقد نُسب هذا القول إلى أفلاطون، الذي اعتبر الزمان جوهراً له ماهية قائمة بذاتها.
وأفلاطون هو من الموحدين عند ابن تيميةو ذنبه ابن القيم.
راجع الرابط التالي:
وقد أخذ ابن تيمية القول بأزلية جنس العالم من أفلاطون وأتباعه.
ثم ذكر الرازي اعتراض المتأخرين مثل أرسطو و من تبعوه من الفلاسفة الإسلاميين، فقال: “فالمتأخرون أبطلوا ذلك بأن قالوا: الزمان شيء سيال متجدد الوجود…”، أي أن الزمان يتغير في كل لحظة. وبالتالي فكل ما هو متغير لا يمكن أن يكون جوهراً قائماً بنفسه. لأن الجوهر، بحسب أفلاطون، ثابت لا يتغير في ذاته، بل في علاقاته.
ثم قال الرازي: “ولمجيب أن يجيب عنه فيقول: لا نسلم أنه في ذاته وماهيته سيال متبدل منقض…”
هنا الرازي يقدّم احتمالًا دفاعيًا عن موقف أفلاطون، حيث قال: ” لا نسلم أن الزمان ذاته هو الذي يتغير. بل: التغير واقع في نسبته إلى الحوادث، لا في ذاته. كما أن الله وهو واجب الوجود، تتغير نسبه إلى الأشياء، ولكن لا يعني ذلك تغير ذاته.
فهنا كأن الرازي يتكلم على لسان الفلاسفة أو الملاحدة القائلين: ” إن كنّا نقبل أن النسب تتغير في حق واجب الوجود من دون أن تتغير ذاته، فلماذا لا نقول إن الزمان جوهر تبقى ذاته، لكن تتغير نسبته إلى الحوادث؟”
وبالتالي توصل الرازي إلى نتيجة فقال: “فظهر أن هذه الحجة… حجة ضعيفة ساقطة. بل عندي: أن هذا القول – أي قول أفلاطون- أقرب الأقوال…” أي أن الرازي رجّح في هذا المستوى من البحث رأي أفلاطون، وقال إن اعتبار الزمان جوهراً قائماً بذاته هو القول الأقرب إلى الصواب، خلافاً لما ذهب إليه أرسطو والمتكلمون.
وأما قوله : ” والأقرب من هذه الأقوال: أن يقال: دلت الدلائل على أن واجب الوجود لذاته واحد وثبت أن واجب الوجود لذاته، واجب الوجود من جميع جهاته، وذلك ينافي كونه سبحانه موردا للتغيرات والتبدلات …”
فهذا النص الذي ختم به الرازي كلامه هو بمثابة حسم للموقف العقدي والكلامي، وفيه تقرير لمفهوم واجب الوجود، وتفريق بينه وبين الزمان، حتى لو افترضنا جدلاً أن الزمان جوهر. وإليك تفصيل معاني العبارات :
قوله: “والأقرب من هذه الأقوال أن يقال: دلت الدلائل على أن واجب الوجود لذاته واحد”
أي أن البراهين العقلية تثبت أن هناك إلهاً واحداً فقط، لا شريك له، وهو الذي لا يحتاج إلى غيره في وجوده، بل هو واجب بذاته.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن تفكير الرازي في الزمان الجوهري يبدو أنه لم يتبلور بشكل كامل، ولم يبلغ موقفه درجة
اليقين التام، كما تدل على ذلك عبارته ” والأقرب من كل هذه الأقوال”، فلا يصح هنا إلزام كل أهل السنة الأشاعرة بكلام الرازي بخصوص الزمان.
وقوله: “وثبت أن واجب الوجود لذاته، واجب الوجود من جميع جهاته”
هذا توكيد مهم: أي أن الله تعالى لا يتغير ولا يتبدل من أي جهة كانت، فهو ثابت الوجود بكل اعتبار، ليس في ذاته قابلية للنقص أو القوة أو التبدل.
وهذا من لوازم كونه واجب الوجود بذاته: أنه لا يطرأ عليه شيء، لأن كماله محض.
وقوله: “وذلك ينافي كونه سبحانه مورداً للتغيرات والتبدلات”
أي أن الله سبحانه لا يكون محلاً للتغيرات. لأن التغير يعني انتقال من حال إلى حال، وهذا نقص، والله منزه عن ذلك.
فالتغير لا يليق بمن كان واجباً الوجود من جميع جهاته.
وقوله: “لكن المدة والزمان مورد للتغيرات والتبدلات بحسب توارد القبليات والبعديات عليه”، أي أن الزمان هو الذي تتغير فيه الأمور، وتطرأ عليه حالات مثل “قبل” و”بعد”.
هذه القبليات والبعديات تحصل بسبب تعاقب الحوادث.
فالتغير هنا ذاتي للزمان أو مرتبط به، وليس مجرد نسبٍ كما في حق الله.
وقوله: “فلم يكن واجب الوجود من جميع جهاته، فلم يكن واجب الوجود بحسب ذاته بل كان ممكن الوجود لذاته”
و هذه نتيجة استدلالية حاسمة من الرازي: فالزمان لأنه يتغير، لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته.
بل هو ممكن الوجود: يحتاج إلى غيره في تحققه، ويمكن أن يوجد أو لا يوجد. وهذا ردّ ضمني على من قال إن الزمان جوهر واجب الوجود (كما نقل سابقاً عن بعض القدماء)، فيقول الرازي:
هذا مرفوض، لأن واجب الوجود لا يتغير، بينما الزمان يتغير بالضرورة.
وقوله: “وأما الإله فهو الموجود المقدّس عن التغيرات، العالي عن أن يلحقه شيء ما بالقوة”
معناه أن الله سبحانه وتعالى هو مقدس عن التغير: لا يتحول، لا يزداد، لا ينقص، و”لا يلحقه شيء بالقوة”: أي لا يوجد فيه استعداد لشيء لم يتحقق بعد، كما هو الحال في الموجودات الممكنة (التي لها قوة/قابلية للتحول).
ثم قال الرازي: “فهذا هو الذي به نقول، وعليه نعوّل. والله الهادي.”
هذا هو القول الذي يرتضيه الرازي ويعول عليه، ويعتبره الصحيح في العقيدة.
و الخلاصة أن الزمان ليس واجب الوجود لأنه يتغير وتتعاقب عليه النسب.
الله وحده واجب الوجود من جميع جهاته، فهو ثابت لا يتبدل.
كل ما يتبدل أو تتغير نسبه الذاتية فهو ممكن، لا واجب.
الزمان إذن مخلوق غير قائم بذاته كالخالق.
ثناء المجسمة على فلاسفة اليونان
ان التشابه الكبير بين عقائد المجسمة وعقائد اليهود و النصارى و حكماء اليونان أمر ليس غريبا، فهم عند بعض كبار أئمتهم من الموحدين، كما صرح بذلك المجسم ابن قيم الجوزية في كتابه إغاثة اللهفان، في معرض كلامه عن سقراط، حيث قال: “ومذهبه في الصفات قريب من مذهب أهل الإثبات”. انتهى
وقال:” وكذلك أفلاطون كان معروفًا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم، وكان تلميذ سُقراط، ولما هلك سقراط قام مقامه، وجلس على كُرْسِيِّه”. انتهى
وابن القيم متبع هنا لمذهب إمامه في التجسيم أبي العباس أحمد ابن تيمية الحراني الذي كان يفرق في كتابه الرد على المنطقيين و في كتابه الجواب الصحيح بين قدماء فلاسفة اليونان والفلاسفة أتباع “أرسطو”، فإن الأوائل عنده؛ كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون، قدموا إلى الشام واستفادوا من بني إسرائيل وأخذوا عن أتباع الأنبياء، ولهذا لم يكن فيهم من قال بقدم العالم، بخلاف أرسطو وأتباعه حيث قال عنهم: “لَكِن الَّذِي لَا ريب فِيهِ أَن هَؤُلَاءِ اصحاب التعاليم كأرسطو واتباعه كَانُوا مُشْرِكين يعْبدُونَ الْمَخْلُوقَات وَلَا يعْرفُونَ النبوات وَلَا الْمعَاد البدني، وَأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى خير مِنْهُم فِي الإلهيات والنبوات والمعاد”. انتهى
وابن تيمية نفسه يقر بوجود فلسفة صحيحة حيث قال في منهاجه: “ثمَّ إِنَّه إِذا قدر أَنه لَيْسَ عِنْدهم من الْمَعْقُول مَا يعْرفُونَ بِهِ أحد الطَّرفَيْنِ فَيَكْفِي فِي ذَلِك إِخْبَار الرُّسُل باتفاقهم على خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وحدوث هَذَا الْعَالم، والفلسفة الصَّحِيحَة المبنية على المعقولات الْمَحْضَة توجب عَلَيْهِم تَصْدِيق الرُّسُل فِيمَا أخْبرت بِهِ، وَتبين أَنهم علمُوا ذَلِك بطرِيق يعجزون عَنْهَا، وَأَنَّهُمْ أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وَمَا يسْعد النَّفس ويشقيها مِنْهُم.”. انتهى
وقال ابن تيمية أيضا في كتابه المسمى “الرد على الشاذلي” ما نصه: “ﻭﻟﻬﺬا ﺗﻮﺟﺪ ﻣﻘﺎﻻﺕ ﺃﺋﻤﺔ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻜﺒﺎﺭ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ اﻟﺼﺎﺑﺌﺔ اﻟﺤﻨﻔﺎء ﻻ ﺗﺨﺮﺝ ﻋﻦ ﺃﻗﻮاﻝ اﻷﻧﺒﻴﺎء ﻓﺈﻥ اﻟﺼﺎﺑﺌﺔ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﻋﻠﻰ ﻫﺪﻯ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻴﻬﻮﺩ ﻭاﻟﻨﺼﺎﺭﻯ ﻭﻟﻬﺬا ﺫﻛﺮ اﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﻄﻮاﺋﻒ ﺳﻌﺪاء ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺇﻥ اﻟﺬﻳﻦ ﺁﻣﻨﻮا ﻭاﻟﺬﻳﻦ ﻫﺎﺩﻭا ﻭاﻟﻨﺼﺎﺭﻯ ﻭاﻟﺼﺎﺑﺌﻴﻦ ﻣﻦ ﺁﻣﻦ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭاﻟﻴﻮﻡ اﻵﺧﺮ ﻭﻋﻤﻞ ﺻﺎﻟﺤﺎ ﻓﻠﻬﻢ ﺃﺟﺮﻫﻢ ﻋﻨﺪ ﺭﺑﻬﻢ ﻭﻻ ﺧﻮﻑ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻭﻻ ﻫﻢ ﻳﺤﺰﻧﻮﻥ (62) -اﻟﺒﻘﺮﺓ 62- ، ﻓﺪﻝ ﻫﺬا ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ اﻟﻤﻠﻞ اﻷﺭﺑﻌﺔ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭاﻟﻴﻮﻡ اﻵﺧﺮ ﻭﻳﻌﻤﻞ ﺻﺎﻟﺤﺎ ﻭﺃﻧﻬﻢ ﺳﻌﺪاء ﻓﻲ اﻵﺧﺮﺓ”.انتهى
ومع ذلك كله فقد تأثر ابن تيمية بأقوال فلاسفة اليونان المتأخرين أتباع أرسطو، فكان أول من قال بتسلسل الأحداث في ذات الله، و أن جنس العالم أزلي مع الله وأن الصفات الخبرية أعيان و أبعاض و أن النار فانية و العياذ بالله.
وقد اعترف بذلك كبار مجسمة هذا العصر كمدعي الحديث الألباني في السلسلة الصحيحة، حيث قال: ” لقد أطال ابن تيمية الكلام في رده على الفلاسفة محاولا إثبات حوادث لا أول لها ، و جاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول ، و لا تقبله أكثر القلوب ، حتى اتهمه خصومه بأنه يقول بأن المخلوقات قديمة لا أول لها ، مع أنه يقول ويصرح بأن ما من مخلوق إلا و هو مسبوق بالعدم ، و لكنه مع ذلك يقول بتسلسل الحوادث إلى ما لا بداية له . كما يقول هو و غيره بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية ، فذلك القول منه غير مقبول ، بل هو مرفوض بهذا الحديث وكم كنا نود أن لا يلج ابن تيمية رحمه الله هذا المولج لأن الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام الذي تعلمنا منه التحذير والتنفير منه”. انتهى
والألباني نفسه لا يفرق بين علم الكلام السني وعلم الكلام المذموم الذي يشتغل به أهل البدع كالمعتزلة و القدرية لتقرير بدعهم الاعتقادية.
وجاء في سؤالات علي الحلبي لشيخه الألباني، جزء 1، صحيفة 144 ما نصه:” ابن تيمية دخل في موضوع أشبه ما يكون بالفلسفة، كلام ابن تيمية ينقسم إلى قسمين فيما أفهم قسم يمشي مع الشرع في حدود فهمنا وقسم يمشي مع الفلسفة التي لا تعقل “. انتهى
وقد انتقد دخول ابن تيمية في الفلسفة، أيضا تلميذه الذهبي ، حيث قال في بيان زغل العلم : “تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد رأيت ما آل إليه أمره… وقد كان قبل ذلك على طريق السلف، ثم صار بعد ذلك على ألوان، فعند جماعة من العلماء هو دجال أفاك كافر، وعند آخرين من عقلاء الأفاضل هو مبتدع فاضل بارع وعند آخرين هو مظلم الأمر مكسوف، وعند عوام أصحابه هو حامي حوزة الدين”. انتهى
وثناء ابن تيمية و تلميذه ابن القيم على بعض فلاسفة اليونان هو نقض لجهود علماء الاسلام لمدة قرون متتالية، ممن تصدى لتلبيسات الفلاسفة كالإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، و الإمام الباقلاني الذي خصص بابا في كتابه التمهيد للكلام على القائلين بفعل الطبائع، و إمام الحرمين الجويني الذي خصص بدوره فصولا في كتابه «الشامل في أصول الدين» للرد على الفلاسفة القائلين بقدم المادة، و الإمام الغزالي صاحب «تهافت الفلاسفة» و «مقاصد الفلاسفة» ومؤرخ الفرق والمقالات الإمام الشهرستاني صاحب «مصارعة الفلاسفة».
ثم جاء من بعدهم علماء ٱخرين استخدموا نفس مصطلحات الفلاسفة و قواعدهم في الرد عليهم كما في كتابه “المحصل” و “المطالب العالية”، والبيضاوي في كتابه “طوالع الأنوار”، والإيجي في كتابه “المواقف في علم الكلام”، وشرح الجرجاني له.
وقد وافقت المجسمة زنادقة المتصوفة و المعتزلة في الثناء على الفلسفة و ان حاولوا في بعض الأحيان رد مقالاتهم التي خالفتهم فيها الفلاسفة.
قال الجاحظ وهو أحد شيوخ المعتزلة المتقدمين: «وليس يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة. والعالم عندنا هو الذي يجمعهما، والمصيب هو الذي يجمع بين تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقائقها من الأعمال”. انتهى
ومع ذلك كله فقد نسبت المجسمة بعض أئمة أهل السنة للفلسفة للطعن فيهم، مثل الفخر الرازي، فقد ذكر المقريزي في كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك” في سياق تأريخه لسنة خمس وتسعين وخمسمائة ما نصه:
“وفيها عظمت الفتنة في عسكر غياث الدين محمد بن بهاء الدين سام ملك الغورية، وسببها أن الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي الفقيه الشافعي المشهور، كان قد بالغ غياث الدين في إكرامه، وبنى له مدرسة بقرب جامع هراة، ومعظم أهلها كرامية. فاجمعوا على مناظرته، وتجمعوا عند غياث الدين معه، وكبيرهم القاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر بن القدوة. فتكلم الإمام فخر الدين مع ابن القدوة، واستطال عليه وبالغ في شتمه، وهو لا يعدو على أن يقول: لا يفعل مولانا لا أخذك الله استغفر الله. فغضب الملك ضياء الدين له، ونسب الإمام الرازي إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة. وقام من الغد ابن عمر بن القدوة بالجامع، وقال في خطبته: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين}. أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله، وأما علم أرسطو، وكفريات ابن سينا، وفلسفة الفارابي، فلا نعلمها. فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام، يذب عن دين الله وسنة نبيه؟. وبكى وأبكى، فثار الناس من كل جانب، وامتلأت البلد فتنة، فسكتهم السلطان غياث الدين، وتقدم إلى الإمام فخر الدين بالعود إلى هراة، فخرج إليها، ثم فارق غياث الدين ملك الغورية مذهب الكرامية”. انتهى
فالرازي لما أفحم زعيم الكرامية في المناظرة، لم يجدوا ما يرمونه به الا اتهامه بالفلسفة، و دسوا في بعض رقاعه التي كان يلقي منها في خطبه، فقد ذكر التاج السبكي في طبقاته في ترجمة الإمام فخر الدين الرازي: ” وبلغ من أمر الحشوية أن كتبوا له رقاعا فيها أنواع السيئات وصاروا يضعونها على منبره فإذا جاء قرأها”. انتهى
ونقل ذلك أيضا صاحب كتاب براءة الأشعريين.
وأما قول الرازي عن أفلاطون في المطالب العالية: “وهو مذهب الإمام أفلاطون”. فلا اشكال فيه أصلا، لأنها تُحمل على المعنى اللغوي لا الشرعي، و كلمة إمام تعني أنه متبع، و مقدم على غيره، و لم يقل الفخر الرازي انه اتخذ أفلاطون إمامًا، ومنه قول الله تعالى: “وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ” -القصص:41-
قال الطبري في تفسيره: “وجعلنا فرعون وقومه أئمة يأتمّ بهم أهل العتوّ على الله والكفر به”. انتهى
فالإمام هو المقدم في مجاله الحاذق المتمكن من فنه أيا كان
كما قال تعالى: “وَإِن نَّكَثُوۤا۟ أَیۡمَـٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُوا۟ فِی دِینِكُمۡ فَقَـٰتِلُوۤا۟ أَىِٕمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَاۤ أَیۡمَـٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ یَنتَهُونَ” -سورة التوبة 12-.
وقد يُسمي احد اماما في فنه ليُستشهد براي له ان كان موافقا للشريعة. فمراد الفخر الرازي بقوله ” الإمام أفلاطون” -إن صحت عنه العبارة- بالإمامة اللغوية وليس الإمامة الإصطلاحية ، وكلمة “إمام” لغة من الأم بمعنى من يقتدي به الناس.
