بطلان مقولة ” القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر” وبيان الفروق بين الصفات الخبرية وصفات المعاني
مقولة ” القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر” ذكرها ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه و جعلها أصلا و قاعدة في العقائد، و تبعه عليها تلميذه ابن القيم و غيره من مبتدعة المشبهة في عصرنا.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ما نصه: “فأما الأصلان فأحدهما أن يقال “القول في بعض الصفات كالقول في بعضٍ” فإن كان المخاطب ممن يقول بأن الله حيٌّ بحياة، عليمٌ بعلم، قديرٌ بقدرة، سميعٌ بسمع، بصيرٌ ببصر، متكلمٌ بكلام، مريدٌ بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع فى محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً “.انتهى
وقد استعمل ابن تيمية و أتباعه هذه القاعدة في ردهم على أهل السنة الأشاعرة و ابطالهم تأويل الصفات الخبرية. و من جملة شبههم أنهم يقولون مثلا:
كما أنكم أثبتم لله قدرة لا كقدرة المخلوقين و حياة لا كحياة المخلوقين و جعلتم ذلك كله حقيقة و لم تتأولوها لزمكم أيضا اثبات يد لله لا كأيدي المخلوقين على الحقيقة، و أن الله يجلس لا كجلوسنا و أن له جنبا لا كجنبنا ورجلا لا كرجلنا وأصابع لا كأصابعنا و صدرا على ما يليق به … إذ القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
وهذا الأصل لا يمكن أن يستقيم مطلقا، إذ القول في الصفات الخبرية هو كالقول في صفات المعاني في وجوه معينة إذ أن هذه الصفات تشترك في كونها أزلية بأزلية ذاته سبحانه و تعالى و ذلك لأن حدوث الصفة يستلزم حدوث الذات قطعا.
وأما من وجوه أخرى فإن القول في الصفات الخبرية ليس كالقول في صفات المعاني لعدة فروق:
1- كون صفات المعاني وردت في نصوص محكمة و الصفات الخبرية وردت في نصوص متشابهة.
2- كون صفات المعاني قد ثبتت بالنصوص النقلية و بدلائل العقل القطعية و كون الصفات الخبرية قد ثبتت بالنصوص النقلية فقط
3- كون صفات المعاني قديمة في حق الخالق و نظيرها في حق المخلوق صفات حادثة. وكون الصفات الخبرية قديمة في حق الخالق ونظيرها في حق المخلوق أعضاء جارحة
4 – كون صفات المعاني تفسر بلوازمها بعكس الصفات الخبرية.
5- كون الاتفاق قائم على اثبات صفات المعاني و كون الاختلاف حاصل بين المجسمة في نسبة صفات لله يزعمون أنها خبرية.
6- كون تأويل نصوص الصفات الخبرية ثابت عند بعض السلف، و كثير من الخلف، بخلاف صفات المعاني فقد أثبتوها على حقيقتها.
2- الرد التفصيلي:
تفصيل ما تقدم ذكره كما يلي:
• كون صفات المعاني وردت في نصوص محكمة و الصفات الخبرية وردت في نصوص متشابهة.
صفات المعاني وردت في نصوص محكمة تحتمل معنى واحدا: لذلك أثبت أهل السنة السمع و البصر و الحياة لله على ما يليق به و لم يتأولوها. أما الصفات الخبرية فقد وردت في نصوص متشابهة تحتمل أكثر من معنى كاليد و الوجه و العين فتأولوها في مواضع بحسب السياق النص.
• كون صفات المعاني قد ثبتت بالنصوص النقلية و بدلائل العقل القطعية و كون الصفات الخبرية قد ثبتت بالنصوص النقلية فقط:
صفات المعاني وردت في نصوص متواترة من القرآن و السنة وأما ما تثبته المجسمة من صفات لا تليق بالله فقد وردت من طريق نصوص ظنية الورود ظنية الدلالة و هذا ما جعل المجسمة أنفسهم يختلفون في ما بينهم في نسبة صفات يزعمون أنها تليق به كالظل و الجلوس و القعود و الاستلقاء و غير ذلك، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولو لم يرد نص بوصف خالق هذا العالم بأنه قادر مثلا لكان حكم العقل قاضيا بوصفه بذلك لأن آثار قدرته تدل عليه، ولم لم يرد وصفه بالعلم لكان حكم العقل أيضا قاضيا بوصفه بذلك لأن آثار علمه تدل عليه. فطريق إثبات هذه الصفات هو العقل والوحي معاً. أما الصفات الخبرية فقد ثبتت بالنصوص النقلية الصحيحة فقط، فلا يستقل العقل باثباتها لله عز وجل وإنما جاء بها الوحي.
• كون صفات المعاني قديمة في حق الخالق و نظيرها في حق المخلوق صفات حادثة. وكون الصفات الخبرية قديمة في حق الخالق ونظيرها في حق المخلوق أعضاء جارحة:
صفات المعاني قديمة في حق الخالق و نظيرها في حق المخلوق صفات حادثة. وأما الصفات الخبرية فهي قديمة في حق الخالق ونظيرها في حق المخلوق أعضاء جارحة. فالعلم و السمع و البصر و الحياة و القدرة و الارادة و الكلام هي صفات حادثة في حق المخلوق أما في حق الله فهي قديمة بقدم الذات.
أما اليد و الوجه و العين فهي أبعاض و أعضاء في حق المخلوق، لا يعبر عنها بأنها صفات. فاليد مثلا يستعين بها الشخص على أداء أعماله، فهي دليل على عجزه. فالصفات مغايرة للأعضاء والجوارح، لغة وشرعا وعقلا كما هو ظاهر.
• كون صفات المعاني تفسر بلوازمها بعكس الصفات الخبرية:
صفات المعاني تفسر بلوازمها بعكس الصفات الخبرية، فإذا قالت المجسمة إن كل صفة تفسر بلوازمها قلنا لا نسلم إطلاق ذلك لأن القول بأن الصفات الخبرية تفسر بلوازمها باطل. فرؤية المبصرات مثلا هي من متعلقات صفة البصر و ليس من متعلقات صفة العين فلا يقال أن الله يرى بعينيه كما نص على ذلك ابن تيمية في الجزء 3 صحيفة 115 من كتاب “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ” لابن تيمية – طبعة دار الحديث- في معرض رده على بولس الأنطاكى أسقف صيدا ونص عبارته: “ما ذكرتموه عن المسلمين كذب ظاهر عليهم .فهذا النظم الذي ذكروه ليس هو في القرآن ، ولا في الحديث، ولا يعرف عالم مشهور من علماء المسلمين ، ولا طائفة مشهورة من طوائفهم ، يطلقون العبارة التي حكوها عن المسلمين ، حيث قالوا عنهم : “إنهم يقولون : إن لله عينين يبصر بهما ، ويدين يبسطهما ، وساقا ووجها يوليه إلى كل مكان ، وجنبا ” .انتهى
وقد صرح ابن تيمية في نفس الكتاب بأنه لا يعرف عالم مشهور من علماء المسلمين ، ولا طائفة مشهورة من طوائفهم ، يطلقون القول إن لله عينين يبصر بهما.
• كون الاتفاق قائم على اثبات صفات المعاني و كون الاختلاف حاصل بين المجسمة في نسبة صفات لله يزعمون أنها خبرية.
• كون تأويل نصوص الصفات الخبرية ثابت عند بعض السلف، و كثير من الخلف، بخلاف صفات المعاني فقد أثبتوها على حقيقتها:
وهذا منقول عن بعضهم:
أ-أوّل ابن عباس رضي الله عنهما لفظ المجيء، فقد جاء في تفسير النسفي رحمه الله تعالى، عند قوله تعالى “وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا” ما نصّه : “هذا تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه، فإن واحداً من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصّه، وعن ابن عباس أمره وقضاؤه”. انتهى
ب- أول ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الأعين في قوله تعالى “وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا” قال رضي الله عنه “بمرأى منا” كما في تفسير البغوي، وقال تعالى: “وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا”، قال رضي الله عنه “نرى ما يعمل بك” كما في تفسير الخازن.
وروى الحافظ البيهقي في كتابه مناقب الامام أحمد وهو كتاب مخطوط ومنه نقل ابن كثير في البداية والنهاية، فقال: روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى “وَجَاءَ رَبُّكَ” أنه جاء ثوابه، ثم قال البيهقي وهذا إسناد لا غبار عليه.
ج- أول ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: “اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ” فقد جاء في تفسير الطبري ما نصّه : “عن ابن عباس قوله “اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ” يقول الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض”. انتهى
د- أول ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الوجه في قوله تعالى “وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ”: قال رضي الله عنه الوجه عبارة عنه.
وأول البخاري قوله تعالى: ” كل شىء هالك إلا وجهه” قال: إلا ملكه.
هـ- أول ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الجنب في قوله تعالى “أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ” قال رضي الله عنه “تركت من طاعة الله وأمرالله وثوابه”، كما في روح المعاني الآية 56 من الزمر.
و- ونقل الحافظ ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى عن الإمام أحمد في قوله تعالى “هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ” أنه قال: “المراد به قدرته وأمره”. قال: “وقد بيّنه في قوله تعالى “أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ”، ومثل هذا في القرآن “وَجَاءَ رَبُّكَ” قال إنما هو قدرته”. انتهى من دفع شبه التشبيه.
ز- تأويل الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لحديث النزول
https://www.facebook.com/share/oQn1okbBS7u8dqyR/…
3- الخلاصة:
بعد سرد هذه الفوارق نقول:
– في صفات المعاني: يصح منا أن نقول لله حياة لا كحياتنا و قدرة لا كقدرتنا و سمع لا كأسماعنا لأن هذه الصفات وردت في نصوص متواترة و في آيات محكمات و لأنها مما يستقل العقل وحده بوصفه سبحانه و تعالى بها.
وعليه فإثبات هذه الصفات على الحقيقة لايقتضي التشبيه.
– في صفات الأفعال: يصح منا أن نقول أيضا: الله يغضب لا كغضبنا و يرضى لا كرضانا لأنها صفات أثبتها الله تعالى لنفسه في نصوص متواترة كالقرآن الكريم كقوله: “رضي الله عنهم ورضوا عنه” وقوله: “وغضب الله عليهم” ، لكن لما كانت هذه الصفات مما لا يستقل العقل وحده بادراكها و كانت قد وردت في نصوص متشابهة نفى أهل السنة عن الله تعالى ما يوهمه ظاهر اللفظ من التغير والإنفعال الذي هو على الله تعالى محال. وأولها بعضهم فأرجع هذه الصفات إلى صفة القدرة.
وعليه فان أريد بالرحمة والغضب أنها ٱثار صفة القدرة فيؤول معنى ذلك أن الأثار بمنزلة المفعول الحادث، وعلى هذا المعنى فهي حقيقية.
وان أريد بالرحمة والغضب الانفعالات النفسانية، فلا يقال عنها حقيقية في حق الله تعالى.
– في الصفات الخبرية: يصح منا أن نقول: لله يد لا كأيدينا و عين لا كأعيننا لأن هذه الصفات أثبتها الله تعالى لنفسه في نصوص متواترة كالقرآن الكريم، لكن لما كانت هذه الصفات مما لا يستقل العقل وحده بادراكها و كانت قد وردت في نصوص متشابهة تحتمل أكثر من معنى وكان نظير هذه الصفات في حق المخلوق أعضاء جارحة فقد أطلق أهل السنة هذه الصفات في حق الله على معنى الصفة و نفوا عنه العضو و الجارحة لأن نسبة ذلك له كفر و ضلال . فمن أجل أن اليد موضوعة للعضو المعلوم، وهي منفية عن الله تعالى أصلا بدلائل مخالفته للحوادث، فقول الشخص: “لله يد” فيه مجرد اثبات ما ورد بالدليل النقلي فقط وقوله:” لا كالأيدي” فيه نفي لظاهر اللفظ الذي يوهم الكيفية والجسمية فيكون ذلك نفيا للتشبيه والتمثيل. فقوله: “لا كأيدينا” فيه نفي الكيفية دون ما ثبت بأدلة النقل فلا يكون فيه اثبات أصل الجارحة. أما إذا كان اعتقاد الشخص أن اليد جارحة فقوله لا كالأيدي لا ينفعه هنا .
وعليه فإثبات هذه الصفات على الحقيقة يقتضي التشبيه.
– ما تنسبه المجسمة لله مما لا يليق به كقولهم الله يجلس لا كجلوسنا و له صورة لا كصورنا و له ذراعين لا كذراعنا و له ظل لا كظلنا و له قعود لا كقعودنا و له جنب لا كجنبنا فهذا لا يجوز نسبته لله. لأن بعضه ورد في نصوص ظنية الورود أي أن منها الضعيف ومنها الموضوع . وبعضها ورد في نصوص مخالفة لصريح العقل ولا تقبل التأويل. وبعضها ورد في نصوص ظنية الدلالة أي تحتمل أكثر من معنى فلا تُنسب لله على أنها صفة له. وبعضها لم يأتي في الشرع نسبته لله لا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم و لا من القرآن الكريم. و ما تنسبه المجسمة لله فيه مخالفة صريحة لنصوص التنزيه و للآيات المحكمات.
– من المعروف عند المجسمة قولهم عن كلام الله أنه “قديمة النّوع حادثة الأفراد”. فلو طبقوا قولهم أيضا : القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر” ترتب على ذلك بحسب قواعدهم الفاسدة أن اليد و الوجه و العين، هي أيضا قديمة النّوع حادثة الأفراد، و كذلك الوجود و الوحدانية و البقاء و الارادة، هي أيضا قديمة النّوع حادثة الأفراد، ولا يقول بذلك إلا زنديق ملحد.
من المعروف عند المجسمة قولهم عن الله أنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء، أي أنه عز وجل له كلام وفق مشيئته. فلو طبقوا قولهم أيضا : القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر” ترتب على ذلك بحسب قواعدهم الباطلة أن له يد وفق مشيئته و وجه وفق مشيئته و عين وفق مشيئته، وأن وجوده عز وجل تابع لمشيئته و وحدانيته تابعة لمشيئته و بقاءه تابع لمشيئته، ولا يقول هذا إلا مبتدع ضال.
نكتة في الرد على المجسمة في مسألة الصفات
من المعروف عند المجسمة قولهم عن كلام الله أنه “قديمة النّوع حادثة الأفراد” .
ومن المعروف عنهم أيضا قولهم : القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر” أي أن القول في الصّفات واحد
وهذا يترتب عليه بحسب قواعدهم الفاسدة أن اليد و الوجه و العين أضحت قديمة النّوع حادثة الأفراد.


https://www.facebook.com/profile/100064276766544/search?q=%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%B3%D9%85
