بيان أن قدرة الله وإرادته لا يتعلقان بذاته أو صفاته عز وجل
من المسائل الكلامية الدقيقة التي تناولها علماء التوحيد بالعناية والضبط، مسألة تعلق صفتي القدرة والإرادة.
– فأما القدرة: فهي صفةٌ أزليّةٌ أبديةٌ يؤثّر بها في الممكنات أي في كل ما يجوز في العقل وجوده تارة وعدمه تارة أخرى، بها يوجِد ويُعْدِم.
قال تعالى:”وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا”
وقال تعالى: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”
وقال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
فهذه الآيات تثبت بوضوح أن قدرة الله تعالى متعلّقة بما يخلقه، أي بالممكنات، لا بالذات ولا بالصفات. فذاته تعالى واجب الوجود وكذلك صفاته.
وأما الإرادة، فهي المشيئة وهي صفة أزلية قديمة يخصص بها الله تعالى الممكنَات ببعض ما يجوز عليها من الصفات دون بعض، وبوقت دون آخر، كالمقادير والألوان والهيئات والجهات والأزمنة والأمكنة.
وقد دلّت النصوص النقلية على هذا المعنى دلالة واضحة، كما قال تعالى: ” وربك يخلق ما يشاء ويختار “. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه: “ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن”
ومعنى ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن، أن كل ما شاء الله في الأزل أن يكون كان وما لم يشأ الله في الأَزل أن يكون لا يكون، ولا تتغيّر مشيئته لأنَّ تغيّر المشيئة دليلُ الحدوث، والحدوثُ مستحيلٌ على الله ، فهو على حسب مشيئته الأزليّة يغيِّر المخلوقات من غير أن تتغيّر مشيئته.
فعُلم بذلك أن مشيئة الله تتعلق بخلقه، وأن كل شيء ينشأ عن إرادته سبحانه وتعالى من دون تغيير ولا تبديل، فلا تتعلق إرادته بذاته أو صفاته.
ومن المزالق العقدية الخطيرة التي وقع فيها طوائف من الحشوية، زعمهم أن صفات الله تعالى، ومنها صفة الكلام، يمكن أن تدخل في إطار الإمكان والاختيار، فقالوا: “إن شاء تكلّم وإن شاء لم يتكلّم”. وهذه الدعوى ظاهر فسادها، لمعارضتها لما أجمعت عليه الأمة من أن صفات الله الذاتية، صفات أزلية أبدية لا يدخلها التغير، ولا تتعلّق بها الإرادة تخصيصًا وإحداثًا، كما هو الشأن في أفعال المخلوقات.
فلو سُلِّم بدعوى القائلين بأن الله يتكلم إن شاء ويسكت إن شاء، للزم من ذلك القول بحدوث صفة بعد أن لم تكن، وهو باطل عقلًا وشرعًا، إذ الحدوث علامة النقص، والناقص لا يكون إلهًا. بل إن القول بإمكان التكلُّم وعدمِه يقتضي إدخال صفة الكلام تحت حكم الإمكان، وهو لا يليق بالمقام الإلهي، لأن الواجب لذاته لا يلحقه الإمكان بحال. وهذا التأصيل الفاسد أدى بهم لقول آخر فاسد مبتدع لم يعرفه السلف وهو قولهم عن كلام الله: قديم النوع حادث الأفراد.
ومما يدخل في هذا الباب كذلك قول بعضهم ممن تلبّسوا بالتجسيم: إن الله تعالى “لو شاء لاستقر على جناح بعوضة”، وهو قول يستلزم إمكان حلول الحوادث بذات الله تعالى، وأنه سبحانه قابل للانتقال من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، وهو عين التجسيم والتشبيه، فضلاً عن كونه مصادمة صريحة لقواطع العقل والنقل.
وهذا الكلام ذكره ابن تيمية في بعض كتبه نقلا عن الدارمي، فإذا كان هذا الحراني لا يصف الله إلا بما وصف به نفسه فلماذا أثبت استقرار الله على ظهر بعوضة ويجيزه من غير انكار؟
فإن من أثبت أن الله يستقر على جناح بعوضة، بدعوى أن قدرة الله مطلقة بزعمه، أو أن ذلك دليل أن الله تعالى غير محتاج إلى العرش، ولا غيره، فقد أبدى عن سخافة عقله، و أثبت لخالقه الصغر والحد، ومن أثبت الحد لله، فقد جعله محدثًا مخلوقًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. ومقتضى كلام هؤلاء أن قدرة الله تسلب منه علوه على عرشه، وتجعله يستقر على أجنحة الحشرات في غياهيب الأرض. نعوذ بالله من فساد المعتقد.
ولا يقل خطورة عن ذلك ما ورد في بعض الكتب المنسوبة للسلف كقول الدارمي في رده على المريسي: “فكما قدر على ذلك فهو القادر على أن يجيء ويأتي متى شاء وكيفما شاء”، إذ هذا النص يتضمّن جعل القدرة متعلّقة بذات الله من حيث الكيف والزمان، وهو تأصيل باطل، يخالف مقتضى تنزيه الله عن الحوادث، ويجعل أفعال الله مشروطة بإمكانات زمانية ومكانية، وهو ما يتنافى مع أزلية الصفات الإلهية ووجوب كماله عز وجل.
بل الأعجب من ذلك ما يُروى عن بعض الحشوية من أقوال ينسبونها إلى الله من قبيل: “قادر على أن يستلقي، ويضع رجلًا على رجل، ويهرول، ويقعد ويجلس”، وهي عبارات صريحة في التجسيم، تُفضي إلى القول بأن الله قابل للتغير، وأن ذاته محلّ للحركات والأوضاع، مما يؤدي بالضرورة إلى إثبات الحدوث في ذاته، وهو مما يكفر به من قاله لأنه يناقض أصل التوحيد في تنزيه الله عن مشابهة الحوادث.
ملاحظة:
ما ينسب للإمام أحمد أنه قال: “لم يزل متكلما إذا شاء”
أي أن كلام الله قديم، يُسمعه من يشاء، متى شاء.
وإلا فالإمام أحمد أنكر على داوود الظاهري قوله: كلام الله محدث غير مخلوق، ووصفه بعدو الله.
روابط ذات علاقة:
شبهة قول الفخر الرازي أن الله يتكلم بكلام يقوم بمشيئته
https://www.facebook.com/share/14HEU3cXp4q/
شبهة قول البخاري ان الله تكلم كيف شاء
https://www.facebook.com/share/19hFBqStLB/


